عيسى مخلوف

وقفة من باريس

ألبير كامو، ذلك "الغريب"!

18 كانون الثاني 2020

14 : 28

احتفلت باريس هذا العام بالذكرى الستين لرحيل الكاتب الفرنسي ألبير كامو الذي توفّي في حادث سيّارة في مثل هذا الشهر، العام 1960، وهو في الخامسة والأربعين من عمره. تميّز الاحتفال هذه السنة بفيلم وثائقي جديد يحمل توقيع كلّ من فابريس غارديل وماتيو ويشييه. عنوان الفيلم "كامو: أيقونة التمرّد". وهو يتناول نزعة الرفض في حياة الكاتب ونتاجه. لكن، هل أنّ اسم الكاتب الفرنسي مرادف للتمرّد فعلاً؟

التمرّد شرط وجود الإنسان بالنسبة إلى كامو الذي كان يهجس بالحبّ والحياة ويربط بين القول والفعل، بين الإنسان والكاتب. يحكي عن العدالة ويثور ضدّ الظلم. غير أنّ هذه النظرة الإنسانية تتعثّر حين يتعلّق الأمر بالجزائر حيث أبصر النور. فهو لم يلتفت إلى الجزائريين كشعب اغتصبت حقوقه في امتلاك أرضه، بل كان يعطي الأولويّة للموقف الفرنسي آنذاك، ويكشف عن مشاعر ولائه للجزائر الفرنسيّة، في حين أنه يقول: "أن لا نسمّي الأشياء بأسمائها، أو أن نسمّيها بصورة خاطئة ومواربة، إنما نضيف مأساة أخرى على مآسي العالم".في الخطاب الذي ألقاه في العاصمة السويديّة استوكهولم أثناء حفل تسليمه جائزة نوبل في العام 1957، اختصر موقفه بهذا الشأن حين قال: "على المستوى الشخصي، لا أستطيع أن أعيش من دون فنّي، لكني لم أضع هذا الفنّ أبداً فوق كلّ شيء. الفنّ، عندي، ليس متعة فرديّة. إنه وسيلة للتأثير على أكبر نسبة من البشر من خلال منحهم صورة مميّزة عن المعاناة والأفراح المشتركة". في اليوم نفسه، تحلّق حوله عدد من الطلاّب وسألوه عن موقفه بخصوص الوضع في الجزائر فأجاب: "دائماً كنتُ أدين الإرهاب. وينبغي أن أدين أيضاً الإرهاب العشوائي الذي تشهده، مثلاً، شوارع الجزائر العاصمة، والذي قد يطال، ذات يوم، أمّي أو عائلتي. أنا أؤمن بالعدالة، لكنني سأدافع عن والدتي قبل العدالة". مؤيّدو الاستقلال لم يغفروا لكاتب ومثقّف تقدّمي معروف وجهة نظره هذه والتي كانت تتعارض مع موقف عدد من الكتّاب الفرنسيين آنذاك وفي مقدّمهم جان جونيه، كما تتعارض مع سياق تفكيره العامّ انطلاقاً من اعتباره أنّ فعل الكتابة يذهب أبعد من الكتابة ليصبح دعوة إلى مشاركة الآخرين حياة البؤس والأمل.

في كتاباته أيضاً، لا سيّما في روايته "الغريب"، يبدو الانحياز واضحاً. العربي، هنا، لا اسم له ولا هويّة ولا ملامح. كلّ ما تفصح عنه الرواية أنّ جسد العربي اخترقته خمس رصاصات أطلقها المدعوّ مُورسو، على شاطئ البحر القريب من العاصمة، تحت شمس حارقة. الهويّة المجهولة تطالعنا أيضاً في رواية "الطاعون" لدى ذِكر الموتى العرب. وهذا ما التفت إليه إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة والإمبريالية" الذي استكمل فيه ما بدأه في كتابه "الاستشراق"، وتتطرّق إلى أدب ونقد جديدين برزا بعد الحرب العالمية الثانية وبعد مرحلة الاستعمار. في هذا السياق، ألقى سعيد الضوء على نتاجات الفكر الغربي وعلاقته بالاستعمار واستغلال الشعوب، وحلّل نصوص عدد من الكتّاب الأوروبيين والأميركيين بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين، واضعاً إيّاها في سياقها التاريخي وبالمقارنة مع نصوص أخرى لمؤلّفين آخرين عاشوا ظروفاً مماثلة. ويلاحظ كيف أنّ بعض النتاجات الأدبية تكون عظيمة من حيث بُعدها الجمالي وبنيتها الفنية، لكنها تنطوي، في الوقت نفسه، على مواقف سياسية تضع الآخر المختلف في موقع دونيّ وتبرّر ضرورة تبعيّته للنسق الأوروبي المسيطر. يذكر سعيد، في هذا الصدد، عدداً من الكتّاب، منهم كيبلينغ وأوستن وكامو، مُظهراً توجّههم "الحاقد والمتعالي"، وهو توجُّه يبرّر الاستغلال والهيمنة والتسلّط ويؤكّد على أنّ هناك، في مكان ما عند بعض الكتّاب، ترابطاً بين المعرفة واستعمال القوّة، بين الثقافة والنزعة التوسّعية الاستعمارية. للردّ على قراءة سعيد، هل تكفي محاولة كامو إعطاء بُعد عبثي لقتل العربي، كما تشي العبارة التي تلفّظ بها بطل رواية "الغريب" بعد اقترافه الجريمة: "لم أكن أنوي أن أقتل عربياً"، كأنّما ليقول إنّ الإنسان عاجز، وإنّ أفعاله غير مبرّرة وغير مفهومة، ولذلك يقتل ولا يعرف لماذا يقتل؟

رواية "الغريب" ليست فقط ما يختبئ في خلفيّتها السياسيّة. إنّها أيضاً مرآة للمشاعر المتناقضة التي كانت تعتمل في نفسيّة بطلها، ومناجاة مأسويّة للإنسان في مواجهة قَدَره وشرطه الإنساني، وانعكاس لشعوره بأنه مُدان، منذ البداية، ومحكوم عليه بالموت.


MISS 3