ماذا يعلّمنا لألبير كامو؟"

11 : 09

غالباً ما يُطرَح هذا السؤال نظرياً: كيف سيكون الوضع عند عزل بلدتك أو محافظتك أو بلدك عن بقية العالم واحتجاز المواطنين في منازلهم في ظل انتشار عدوى تصيب آلاف الناس وتضع آلافاً آخرين في الحجر الصحي؟ ماذا ستفعل حين تضطرب حياتك اليومية بسبب انتشار وباء، فتغلق المدارس أبوابها، وتعجّ المستشفيات بالمرضى، وتُعلَّق اللقاءات الاجتماعية والأحداث الرياضية والحفلات الموسيقية والمؤتمرات والمهرجانات وخطط السفر إلى أجل غير مُسمّى؟


في العام 1947، حين كان ألبير كامو في عمر الرابعة والثلاثين (عاد وفاز بجائزة نوبل في الأدب بعد عشر سنوات وتوفي في حادث سير بعد ثلاث سنوات)، طرح هذا الكاتب الفرنسي المولود في الجزائر جواباً مفصّلاً وعميقاً على هذه الأسئلة في روايته The Plague (الطاعون). يعرض الكتاب قصة خيالية عمّا يحصل عند ظهور الطاعون الدبلي بشكلٍ مفاجئ في بلدة وهران على الساحل الجزائري في شهر نيسان خلال حقبة الأربعينات. يستقر الوباء بعد انتشاره ويزعزع حياة سكان البلدة وعقولهم حتى شهر شباط من السنة اللاحقة، فيختفي بالسرعة التي ظهر فيها.

سواء قرأتَ كتاب The Plague أو لم تفعل، ثمة حاجة إلى قراءته أو تكراره في هذه اللحظات العصيبة التي يشهدها العالم مع ظهور وباء "كوفيد-19" المشتق من فيروس كورونا الجديد. منذ ظهور هذا الفيروس في أواخر السنة الماضية في مدينة "ووهان" الصينية (إنها مدينة معزولة منذ شهر كانون الثاني الماضي)، توسّع نطاقه بوتيرة هائلة وغزا أكثر من مئة بلد وأثار رعب السكان والأسواق المالية ووضع المدن والمناطق وبلداً كاملاً (إيطاليا) تحت الحجر الصحي. خلال هذا الأسبوع، أغلقت الشركات والمدارس والجامعات أبوابها أو بدأت تتكل على شبكة الإنترنت لتسيير أعمالها في مناطق كثيرة. كذلك، أُلغيت المناسبات ومُنعت رحلات السفر غير الضرورية. وسط هذه الظروف، قد تجد وقتاً إضافياً للقراءة، وتحمل رواية كامو أهمية كبرى ومتجددة في هذا الوضع وتشمل حتماً دروساً قيّمة.

قبل أن تأخذ هذا الكتاب لقراءته، يجب أن تعرف أولاً أن "كوفيد-19"، مهما كان مخيفاً، إلا أنه لن يكون مدمراً بقدر الوباء الذي تكلم عنه كامو. في القرن الرابع عشر، قتل الطاعون الدبلي (يُعرَف أيضاً باسم "الموت الأسود") حوالى ثلث سكان القارة الأوروبية. وحين اجتاح لندن بين العامين 1656 و1657، قتل ربع السكان تقريباً. ويجب أن تعرف أيضاً أن الطاعون الدبلي لا يزال موجوداً حتى اليوم، لا في آسيا وإفريقيا فحسب، بل في جنوب غرب أميركا أيضاً. هو ينتقل عبر البراغيث من القوارض المصابة ويسبّب أعراضاً مثل الحمى القوية والتقيؤ والتورم المؤلم. ورغم معالجة المرض بالمضادات الحيوية، يبلغ معدل الوفاة بسببه 10%، حتى أنه قد يصل إلى 90% إذا لم تُعالَج الحالة. لا يزال فيروس كورونا إذاً بعيداً كل البعد عن تداعيات الطاعون.




تتعقب رواية كامو مسار وباء معين في مدينة محددة وفي إطار زمني محدد، لكن يبقى الموضوع الحقيقي الذي يعالجه الكاتب خارج الزمان والمكان.

أراد كامو تقديم قصة مجازية، فهو يتطرق إلى عدوى قد تجتاح أي مجتمع يوماً، بدءاً من أمراض الكوليرا والإنفلونزا الإسبانية والإيدز والسارس أو حتى "كوفيد-19" اليوم، وصولاً إلى الأفكار الإيديولوجية المتخلّفة التي تصيب شعباً كاملاً، على غرار الفاشية أو التوتاليتارية. شاهد كامو النازيين وهم يجتاحون باريس في العام 1940، خلال الحرب العالمية الثانية. وحين كان يكتب The Plague، كان رئيس تحرير مجلة "كومبا" السرية التابعة للمقاومة الفرنسية، وشمل المساهمون فيها أندريه مالرو وجان بول سارتر وريموند آرون. فلاحظ رابطاً بين العدوى الجسدية والنفسية، وجمع كتابه بين النوعين معاً.

تبدأ القصة مع تجول الجرذان في ظلال وهران، واحداً تلو الآخر في البداية، ثم "على دفعـات"، وسرعان مـا تغزو المباني أو الشوارع. كان الطبيـب المحلي "ريو" أول مــن لاحظ هذه الظاهرة، فيســـتدعي ناطور بنايتـه "ميشال" لمعالجة المشكلة، ثم يتفاجأ حين يعبّر هذا الأخير عن "استيائه" بدل اشمئزازه. يكون "ميشال" مقتنعاً بأن الشبان "المشـاغبين" يقومون بمقلب معه وهم من نشروا القوارض في مدخل بنايته. وعلى غرار "ميشال"، يسيء معظم سكان وهران تفسير هذه الظاهرة في البداية، فلا يفهمون معناها العام. خلال فترة معينة، يكتفي الجميع بمهاجمة قسم الصرف الصحي المحلي ويشتكون من أداء السلطات. يثبت كامو إذاً مدى سهولة أن يخلط الناس بين الأوبئة ومصادر الإزعاج العادية.

لكن سرعان ما يمرض "ميشال" ويموت. حين يعالجه "ريو"، يلاحظ مؤشرات الطاعون البارزة لديه لكنه يقنع نفسه في البداية بضرورة ألا يهلع الناس لأن هلعهم لن يفيد مطلقاً. يوافقه الرأي البيروقراطيون في وهران. حتى المحافظ شخصياً يكون مقتنعاً بأنه إنذار خاطئ. ويصرّ مسؤول بيروقراطي أدنى مرتبة اسمه "ريتشارد" على عدم وضع الوباء في خانة الطاعون رسمياً، بل اعتباره بكل بساطة "نوعاً خاصاً من الحمّى". لكن في ظل ارتفاع حالات الوفاة وتسارعها، يرفض "ريو" هذا المصطلح المُخفف ويضطر قادة البلدة لاتخاذ خطوات صارمة.

يظن كامو أن السلطات قادرة على تقليص مخاطر أي وباء عندما تجزم بأن الاستخفاف بالموضوع أخطر من المبالغة في ردود الأفعال. يحمل معظم الناس هذه النزعة برأيه، وهي نقطة ضعف بشرية عالمية: "يعرف الجميع أن الأوبئة قابلة للتجدد في العالم، لكننا نجد صعوبة أحياناً في تصديق الأوبئة التي تقع على رؤوسنا من السماء الزرقاء".


سرعان ما تنغلق مداخل المدينة ويُفرَض الحجر الصحي على الجميع، فينعزل سكان وهران عن بعضهم وعن العالم الخارجي. يقول الراوي: "أول ما جلبه الطاعون إلى بلدتنا هو المنفى". يعلق صحفي اسمه "رامبيرت" في وهران بعد إغلاق المداخل، فيتوسل "ريو" أن يمنحه إفادة صحية كي يتمكن من العودة إلى زوجته في باريس، لكن يعجز "ريو" عن مساعدته ويقول له: "يواجه آلاف الناس الآخرين الوضع نفسه في هذه البلدة". وعلى غرار "رامبيرت"، يشعر المواطنون بعد فترة قصيرة بعدم جدوى التركيز على مشاكلهم الشخصية لأن الوباء يطمس "الطابع الفردي في حياة كل شخص"، مع أنه يجعل الناس يدركون مدى ضعفهم وعجزهم عن التخطيط لمستقبلهم.

هذه الكارثة جماعية بطبيعتها، وسرعان ما يصبح هذا الألم والخوف الذي يرافقه "أعظم بلاء في فترة النفي الطويلة المرتقبة". كل من اضطر حديثاً لإلغاء رحلة عمل، أو حصة تعليمية، أو حفلة، أو عشاء، أو عطلة، أو اجتماع مع الأحباء، يستطيع أن يفهم تشديد كامو على التداعيات العاطفية في زمن الأوبئة، أي مشاعر العزلة والخوف وفقدان القوة.





إذا قرأتَ كتاب The Plague منذ وقت طويل، خلال حصة في الجامعة مثلاً، ربما تفاجأتَ بالعذاب الجسدي الذي يصفه الراوي في قصة كامو بكل وحشية ودقة. أو ربما ركّزتَ على الآثار الجسدية للمرض أكثر من "الحمى الهوسية" التي أصابت الناس العاديين العالقين في مستنقع الوباء، فراحوا يحاربون عزلتهم عبر ارتداء ملابسهم وترتيب مظهرهم والتجول بلا هدف في شوارع وهران ودخول المطاعم ثم الهرب منها حين تظهر معالم المرض على أي شخص هناك. لقد كان هؤلاء الأفراد عالقين في "رغبتهم القوية بالعيش، وهي رغبة متصاعدة في قلوب الناس عند وقوع أي كارثة": هذا هو معنى الراحة الاجتماعية. لم يملك سكان وهران في ذلك العصر أدوات اليوم، بغض النظر عن موقعهم، وبالتالي ما كانوا يستطيعون التواصل مع مجتمعهم عبر الواقع الافتراضي. فيما يترسّخ الوباء الجديد في هذا العصر الرقمي، من الواضح أنه يعطي نظرة حيوية جديدة لرؤية كامو عن تداعيات العدوى من الناحية العاطفية.

اليوم، تحمل حالة النفي والعزلة المرافقة لهذا الوباء الجديد مواصفاتها الخاصة وهي تعطي وصف كامو أبعاداً مختلفة. فيما نتجول في شوارعنا أو نذهب إلى متاجر البقالة، نحن نتبنى تلقائياً العادات الوقائية التي توصي بها مواقع التواصل الاجتماعي، أي غسل اليدين جيداً، واستبدال مصافحة اليد بالإيماءات والابتسامات، وتطبيق مبادئ "التباعد الاجتماعي". يمكننا أن نعمل جميعاً عن بُعد لتجنب التقاط العدوى أو نقلها إلى الآخرين. ونستطيع أيضاً أن نتجنب المناسبات والحفلات الموسيقية والمطاعم ونطلب الطعام إلى منازلنا. لكن إلى متى سيستمر هذا الوضع؟ كان كامو يعرف الجواب على ما يبدو: لا أحد يستطيع توقّع مدة الأزمة!

على غرار الرجال والنساء الذين عاشوا أزمة كبرى منذ قرن من الزمن تقريباً (أعاد كامو تخيّلهم لطرح موضوعه الذي يحافظ على أهميته رغم مرور الوقت)، كل ما نستطيع معرفته هو أن هذه المحنة لن تدوم إلى الأبد. بل إنها ستنتهي يوماً بالشكل الذي ظهرت فيه. ثم ستنشأ أزمات أخرى في أحد الأيام. لقد حذرتنا رواية كامو من ما سيحصل منذ وقت طويل واتضحت صحة توقعاتها اليوم أكثر من أي وقت مضى. حين تظهر الأزمة الجديدة، يجب أن نحرص على قراءة المؤشرات التحذيرية بدقة. في تعليق لافت، يكتب كامو: "يعجّ التاريخ بالأوبئة بقدر الحروب. ومع ذلك، دائماً ما يتفاجأ الناس بالأوبئة والحروب"!


MISS 3