جاد حداد

Pinocchio... نسخة مميزة من توقيع غييرمو ديل تورو

15 كانون الأول 2022

02 : 01

لطالما برع المخرج غييرمو ديل تورو في تحويل أفكاره الخيالية إلى وقائع ملموسة، لذا من المنطقي أن يختار تقنية الإطارات الثابتة لتقديم أول فيلم رسوم متحركة في مسيرته. يؤكد أداؤه في نسخته الخاصة من قصة Pinocchio نجاح مقاربته التي تجمع بين القصص الممتعة والتقنيات المدروسة لتقديم وحدة فلسفية متماسكة.

تبدو هذه النسخة أكثر نضجاً من الرسوم المتحركة السابقة التي سردت حكاية كارلو كولودي الشهيرة من القرن التاسع عشر، وهي تحمل بصمة ديل تورو بالتعاون مع كاتب السيناريو باتريك ماكهيل. هما ينقلان الشخصيات إلى بداية القرن العشرين، تزامناً مع احتدام الحرب العالمية الأولى في أوروبا. يقيم النجار «غيبيتو» (ديفيد برادلي) في منطقة ريفية هادئة، وهو يُعتبر «نموذجاً مثالياً للمواطن الإيطالي» بنظر سكان البلدة وابنه «كارلو» البالغ من العمر عشر سنوات (غريغوري مان). «كارلو» فتى مطيع اعتاد تنفيذ رغبات والده.

لكن سرعان ما يخسر «غيبيتو» ابنه في انفجار قنبلة، فيتدمّر عالمه المثالي. يعطي الممثل إيوان مكريغور صوته لشخصية «سيباستيان ج. كريكيت» (حشرة متغطرسة لا تهتم في البداية إلا بتعداد إنجازاتها، لكنها تسرد القصة المأسوية أيضاً). يرافق الحزن «غيبيتو» رغم مرور سنوات ووصول موسوليني إلى السلطة، فينحت دمية من شجرة صنوبر بالقرب من قبر «كارلو».

تبث الجنية «وود سبرايت» (تيلدا سوينتون) الحياة في «بينوكيو» (غريغوري مان أيضاً). تعكس هذه الشخصية ذات الأجنحة والكائن الخادع الذي يمثّل الموت في مرحلة لاحقة من القصة اهتمام ديل تورو بالقوى الروحية الخارقة التي تؤثر في مسار البشر الفانين على الأرض، وتعرض هاتان الشخصيتان أيضاً رؤية مختلفة عن الحياة بعد الموت.

قد يكون «بينوكيو» بريئاً، لكن تحمل شخصيته هذه المرة جانباً لاذعاً أيضاً، وهي تعكس جزءاً من الجوانب المزعجة في تصرفات الأطفال. لا يتقبّل «غيبيتو» الولد الجديد سريعاً، لأن رواد الكنيسة الكاثوليكية يعتبرونه شكلاً من الشعوذة، حتى أنه يتمنى أن يُعدّله كي يصبح مشابهاً لابنه «كارلو».

يفتقر «بينوكيو» إلى الخصائص البشرية، وهو لا يوافق على الالتزام بالمعايير السائدة إلّا لإرضاء والده. يبرع ديل تورو في تجسيد الشخصيات التي يسيء الجميع فهمها وتتعرّض للتهميش من الحشود المتجانسة بسبب مظهرها، أو أصلها، أو رؤيتها للعالم. هو يجد في هذا الفتى الخشبي رمزاً متحرّكاً وناطقاً لقوة الطبيعة، والحظ، والعوامل غير المتوقعة التي تستطيع إغناء حياتنا، حتى لو لم تكن تتماشى مع رغباتنا الأصلية.

تعكس الفاشية فكراً خطيراً يفرض على الناس الرضوخ ويرفض التميّز والاختلاف، ويتم استكشافها عموماً عن طريق العلاقات الشخصية. حين يعجز جميع الآباء في الفيلم عن تقبّل أبنائهم من دون السعي إلى تغييرهم، هم يشاركون في آلية السيطرة الملتوية التي تستعملها الفاشية، منهم «بوديستا» (رون بيرلمان)، مسؤول حكومي يربّي ابنه «كاندلويك» (فين ولفهارد) بأعلى درجات الصرامة، ومحرّك الدمى الشرير «الكونت فولب» (كريستوف والتز) الذي يسيء معاملة مساعدته «سبازاتورا» (كيت بلانشيت)، وحتى «موسوليني» (توم كيني) الذي يتعرّض للسخرية بأسلوب ذكي ويؤدي دور أب الوطن كلّه.

في مرحلة معينة، تُغيّر القصة التي تحمل حبكة متقنة مسارها لتعليم «بينوكيو»، غير القادر على الموت لفترة، درساً عن السبب الذي يجعل الموت لعنة وهبة في آن. وبما أن مان يعطي صوته لشخصيتَي «كارلو» و»بينوكيو» معاً، بينما تجسّد سوينتون دور «وورد سبرايت» وشبح «الموت» في آن، تتّضح ازدواجية معيّنة حول أفكار غابرة ومندثرة وقناعات مستجدة. يُذكّرنا طرفا الصراع بأن الحب عبء يستحق العناء، وأن الحياة محنة تستحق الموت من أجلها، وأن البشر يستطيعون إيجاد منافذ للسعادة مع الآخرين في الظروف التي يعتبرونها غير مناسبة لهم.

بحلول العبارة الشاعرية الأخيرة في السيناريو، يلقي «سيباستيان» تعويذة مُحِبّة للاستمتاع بالحياة، وتنطبق هذه العبارة على القصة كلها وتوحي بأن الفنانين المسؤولين عن هذا الإنتاج سيموتون يوماً لكنّ قصصهم خالدة.

قد يكون هذا الفيلم المؤثر من أعظم أعمال ديل تورو، فهو يعكس الاهتمامات والقناعات التي عبّر عنها دوماً في معظم أعماله، لكنه يعرضها هذه المرة من زاوية جديدة. قد يتردد البعض في اعتبار الفيلم تحفة مثالية من توقيع ديل تورو، مع أنه يستحق هذا الوصف. لكن إذا كان فن صناعة الأفلام يشبه السحر، يسهل أن نعتبر هذا الفيلم من أكثر الأعمال الساحرة على الإطلاق.


MISS 3