أندريه كوليسيكوف

عصيان ضمني في روسيا

21 كانون الأول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

الشرطة الروسية تعتقل متظاهرة في موسكو | روسيا، أيلول 2022

في أواخر شهر أيلول، بعد فترة قصيرة على إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "تعبئته الجزئية"، أحيا الفنانان الروسيان أليكسي إيفاشينكو وجورجي فاسيليف حفلاً موسيقياً في موسكو. هما يقدمان فناً كان شائعاً في الحقبة السوفياتية حيث يتزامن الغناء مع العزف على الغيتار. على موقع "يوتيوب"، حصد الحفل الموسيقي ردوداً حماسية وحقق أكثر من مليون مشاهدة. بالنسبة إلى النخبة الليبرالية في موسكو، كان ذلك الحدث أشبه باحتجاج ضد الحرب: شملت الأغاني والتعليقات التي قدّمها المغنيان تلميحات مباشرة عن الوضع الراهن. كانت تلك المناسبة من اللحظات النادرة التي عبّر فيها الناس عن مشاعرهم المكبوتة ضد النظام، ولو بشكلٍ غير مباشر.

بعد مرور تسعة أشهر على بدء حربٍ لم تقترب نهايتها بعد، يبدو مزاج المثقفين الموالين للغرب في روسيا معكراً. يشعر الروس الذين يحملون آراءً ليبرالية وقرروا البقاء في بلدهم أو عجزوا عن الرحيل بأنهم عالقون في مأزق. هم يواجهون قمعاً وحشياً متزايداً داخل بلدهم، لكنهم يشعرون أيضاً بأن الغرب ينبذهم مثلما ينبذ النظام. كان الوضع أكثر سوءاً في عصر الاتحاد السوفياتي طبعاً، لكن أصبحت المقارنات مع ظروف تلك الحقبة حتمية.

في العام 1976، أقدم فنانان من لينينغراد، وهما أوليغ فولكوف ويولي ريباكوف، على طلاء شعار احتجاجي على جدران قلعة بطرس وبولس في سانت بطرسبرغ (كان ذلك الموقع سجناً سياسياً في روسيا القيصرية)، فكتبا: "قد تصلبون الحرية، لكنّ الروح البشرية لا تعترف بالأغلال". سارعت السلطات إلى محو تلك الكلمات، وحُكِم على الفنانَين في نهاية المطاف بالسجن لفترة طويلة. (أصبح ريباكوف لاحقاً ناشطاً معروفاً في مجال حقوق الإنسان، وعضواً في البرلمان في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي).

من بين صغار المسؤولين المكلّفين بالتحقيق بتلك الحادثة، برز اسم الملازم الشاب في الاستخبارات السوفياتية، فلاديمير بوتين. لم تكن مشاركته في هذه القضية مهمة جداً، لكنها تحمل رمزية كبرى نظراً إلى الظروف الراهنة. بعد مرور أربعين سنة، في العام 2016، ظهرت العبارة نفسها مجدداً على واجهة بحرية في سانت بطرسبرغ، وكانت تشير إلى تحوّل بوتين من ضابط بسيط في الاستخبارات السوفياتية إلى حاكم مستبد بالكامل، ومن موظف في صراع محلي ضد شخصٍ معارِض إلى دكتاتور يقمع الحقوق والحريات في أنحاء البلد ووراء الحدود أيضاً. بعد مرحلة عابرة من الديمقراطية، صُلِبت الحرية مجدداً في روسيا.

لطالما كانت اللامبالاة من أبرز الأسس الاجتماعية التي يتكل عليها نظام بوتين، ما يعني ألا تهتم الدولة بمواطنيها وتبقى منفصلة عن شؤونهم، وألا يهتم المجتمع بالدولة ويبقى منفصلاً عنها.

لكن لم تعد اللامبالاة ممكنة اليوم، فقد أصبح المواطنون العاديون مضطرين لخوض الحرب بأنفسهم. تحولت "العملية الخاصة" في أوكرانيا إلى "حرب الشعب"، كما قال أحد كبار مستشاري بوتين. لكنّ "حرب الشعب" الحقيقية تدور على الجانب الأوكراني. بالنسبة إلى الروس، أصبحت الحرب شاملة. وفي أي حرب شاملة، تتلاشى مشاعر العار وتصبح الحاجة إلى إحداث أعلى مستويات الدمار والخسائر البشرية علنية. لا يمكن أن تنتهي هذه الحرب إلا باستسلام العدو و"استرجاع" الأراضي الروسية الغابرة.

لكنّ وحشية نظام بوتين لا تستهدف سكان أوكرانيا فحسب، فهي لا ترحم المواطنين الروس أيضاً بل يتعهد القادة بكل بساطة بتقديم تعويضات مالية أو مادية مقابل موتهم البطولي. حتى أن النظام لا يبدو مستعداً لإنقاذ نفسه، فقد دمّر سوق العمل المحلي لخوض هذه الحرب. بدأ الروس في سن العمل يغادرون البلد بأعداد كبيرة: تم استدعاء مئات آلاف الرجال إلى الجيش، وقد تهرّب على الأرجح عدد مشابه من التجنيد وفضّل مغادرة البلد. عاد بعض المجندين من ساحة المعركة في النعوش، وتعرّض آخرون لإصابات بالغة وباتوا يعجزون عن العمل. وعندما يشارك الرجال في الحرب، يتراجع مستوى معيشة عائلاتهم، وتظهر مشاكل نفسية داخل المنزل، وتنخفض نسبة الولادات.

في العام 2020، توقع خبير الاقتصاد الروسي، فلاديمير غيمبلسون، أن يتراجع عدد العاملين الروس بين عمر العشرين والأربعين بنسبة 25% بحلول العام 2030 بسبب تراجع الولادات. لكن تفشّت جائحة كورونا واندلعت الحرب في أوكرانيا وتلاحقت موجات الهجرة منذ ذلك الحين، ومن المتوقع أن تتوسع الفجوة بين فئات اليد العاملة قريباً. كذلك، توقع الخبير الديمغرافي ميخائيل دينيسينكو أن تتراجع الولادات في روسيا بمعدل 25 ألف شخص إذا خَدَم من تم استدعاؤهم هذا الخريف في الجيش طوال سنة.

لكن لا يهتم بوتين باقتصاديات سوق العمل، فهو منشغل بوضع أوكرانيا، ولا يسمع إلا ما يريد سماعه، ولا يقول إلا ما يناسب صورته أمام العالم، ثم يفرض خطابه على شعبه.

كان إعلان التعبئة من جانب بوتين كفيلاً بتقريب أعمال العنف من روسيا، ولا تقتصر المشكلة على جحافل المجندين الجدد المكلّفين بخوض الحرب كي يلقوا حتفهم هناك. في أول يوم من التجنيد، احتجّ عدد كبير من الشبان في موسكو وسانت بطرسبرغ، ثم ظهرت خلال الأسابيع اللاحقة مؤشرات أخرى على نشوء اضطرابات عامة ورُصِد جزء منها داخل مجلس الأمهات الذي طالب بتحسين مؤن الجنود، ورفض الحرب النووية، وبدء مفاوضات سلام. لكن لم تنشأ أي حركة عامة ضد الحرب، ولم يحتجّ جزء كبير من المواطنين العاديين: تعجز هذه الفئة من الناس عن التهرب من التجنيد الإجباري، لذا فضّل الكثيرون التكيّف مع قواعد اللعبة الجديدة بكل بساطة، وركزوا على مسائل مثل تلقي الزي المناسب وأخذ المال مقابل المجازفة بحياتهم.

في غضون ذلك، جاءت الحملة الدعائية التي أطلقها بوتين لتعيد رسم حدود المواقف المقبولة: على التلفزيون الحكومي، يناقش مقدّمو البرامج الحوارية الآن احتمال إطلاق حرب نووية بكل حرية، ويمجّدون الاعتداءات الصاروخية الوحشية ضد المدن والبنى التحتية المدنية في أوكرانيا. بدأ العنف إذاً يُفرَض كمعيار اجتماعي، وقد تحوّل إلى معيار بحد ذاته برأي بعض مناصري بوتين. وجد جزء كبير من المجتمع الروسي نفسه في خنادق واقعية أو خيالية، وبدأت وحشية تلك الخنادق تتسلل إلى الخطابات العلنية والرأي العام.

لكن سئم الكثيرون من العنف. منذ شهر آب الماضي، زاد الدعم لمفاوضات السلام بوتيرة ثابتة، وفق "مركز ليفادا" الذي يجري استطلاعات رأي مستقلة في موسكو. يدعم أكثر من نصف الروس المسار المؤدي إلى محادثات السلام اليوم، بينما يؤيد ربع الروس فقط متابعة الحرب بكل قوة، ويفضّل 15% منهم استمرار الحرب على مضض. يؤيد جزء من داعمي الحرب زيادة وحشية الصراع لإنهاء هذا الكابوس بطريقة أو بأخرى.

في روسيا المعادية للحداثة اليوم، تبدو الطبقات الليبرالية الأكثر إحباطاً، بما في ذلك الفئة التي غادرت البلد وتلك التي بقيت فيه. أصبحت العلاقات بين المجموعتين مشحونة. يتّهم المنفيون الجماعة التي بقيت في روسيا بالرضوخ، ويقول سكان البلد إن النظام لا يمكن تغييره من الخارج. ثمة حاجة مُلِحّة طبعاً للحفاظ على رأسمال بشري عالي الجودة داخل البلد، إذ من المنطقي أن تحتاج إليه روسيا حين تضطر لإعادة بناء نفسها من الصفر. يُعتبر المنفيون مخزوناً آخر للرأسمال البشري، وتستطيع المجموعتان المنتميتان إلى النخبة الروسية المضادة أن تُعيّنا قادة منهما عندما تسنح الفرصة. لكن سيضطر هؤلاء للتنافس أو المشاركة في حرب أهلية مع الرأسمال البشري المضاد الذي يسيطر على الصراع: إنهم مناصرو الإمبراطورية، والقوميون المتطرفون، والأصوليون، ومؤيدو استعمال القوة.

حتى الآن، لا تستطيع الفئة التي بقيت في روسيا أن تفعل الكثير. كما حصل في الحقبة السوفياتية، انتقلت النقاشات السياسية من النوادي والمطاعم إلى الأروقة الخاصة والآمنة. اليوم، من الشائع أن نسمع هناك عبارات كالتالي: "كان الوضع أفضل في آخر سنوات الاتحاد السوفياتي"! (في تلك الفترة، لم يكن الناس يُعتبَرون "عملاء للخارج" بهذه الطريقة العشوائية على الأقل، وكانت القواعد والخطوط الحمراء التي يعجز الناس عن تجاوزها واضحة بشكل عام)؛ أو "نحن ممتنون لأن أمنا (أو والدنا، أو شقيقنا، أو جدّتنا، أو جدّنا) لم تَعِش لتشاهد هذه الأهوال"؛ أو "نحن عشنا حياة طبيعية، لكنّ الوضع مؤسف لأولادنا" (يدرك أصحاب هذا الرأي أن بوتين حرم الناس من تاريخهم، وسيرتهم الذاتية، وسمعتهم، وإنجازاتهم في الحياة، وأن استبداده سيدوم ويحرم الجيل المقبل من الفرص).

يجب أن يفهم هؤلاء الأشخاص أنهم ليسوا وحدهم، بل يشاركهم الكثيرون الآراء والمشاعر نفسها، وهذا ما يفسّر اهتمامهم بالصحفيين المنفيين الروس على موقع "يوتيوب". ولهذا السبب أيضاً، حقق الحفل الموسيقي الذي أحياه إيفاشينكو وفاسيليف نجاحاً كبيراً. في النهاية، كانت عبارات "الخيانة" التي أجرى بوتين وزملاؤه تحقيقاً بشأنها خلال السبعينات محقة: "قد تصلبون الحرية، لكنّ الروح البشرية لا تعترف بالأغلال"!

MISS 3