سال دمٌ كثير وأهينت الكرامات وتدمرت المؤسسات قبل أن يتغلّب الحبر على الدم بإقرار اتفاق الطائف عام 1989. وإذا كان من المفترض إيقاف الدم في سنوات السلم الأهلي ولو كان بارداً أحياناً فإنّ سيلان الحبر لم يتوقف حول استحقاقات دستورية معيّنة خصوصاً إن الهيئة العامة بمجلس النواب اللبناني بعد انتقال الصلاحيات إليها في تفسير الدستور اللبناني (1*). بالرغم من وجود نص صريح في وثيقة الوفاق الوطني أعطى هذه الصلاحية للمجلس الدستوري الذي يتم إنشاؤه (2*)، حيّدت نفسها عن المواضيع الدستورية المختلف عليها.
لذلك ولملء الفراغ عاد الحبر بكثافة خصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005 للمناقشة في هذه المواضيع.
في مناقشة مواد مشروع القانون الدستوري عام 1990 اختصر النائب بطرس حرب حينها الأسس السياسية لوضع الدستور وتأثير ذلك على تفسيره بقوله: "لقد قيل في الماضي أنه عندما أراد نابوليون بونابرت أن يضع دستوراً لإمبراطوريته طلب إلى من عهد إليه بتحضيره رأيه بالموضوع فقال له فليكن الدستور موجزاً، وكان تاليران الشهير جالساً فقال له: ليكن مبهماً والإبهام قصد منه التلاعب بأحكام الدستور لكي تطوع هذه الأحكام حسب الظروف"(3*).
يحاول هذا المقال إيجاد نقاط الالتقاء والاختلاف في الاستحقاقات الدستورية للسلطة التشريعية ومحاولة تصنيفها وفقاً لمعايير محددة ومقارنة المواد الدستورية المتعلقة بهذه الاستحقاقات وتقسيمها منهجاً وفقاً لمفاهيمها والعوامل التي تؤثر عليها وأهمها النصاب والغالبية في جلسات المجلس النيابي سيتم تحديد أولاً الاستحقاقات الدستورية للسلطة الدستورية.
أولاً: مفهوم الاستحقاقات الدستورية للسلطة التشريعية:
حدّد الدستور اللبناني صلاحيات السلطات الدستورية في لبنان وخصّ السلطة التشريعية بصلاحيّات معيّنة لإقرار عدد من الاستحقاقات يمكن تقسيمها وفقاً للآتي:
-أ- الاستحقاقات الدستورية العادية
يمكن تعريف الاستحقاقات الدستورية العادية أنها الأعمال التي حددها الدستور ضمن صلاحية السلطة التشريعية حصراً بدون حاجة لحدوث طارئ أو جرم معيّن أو ضرورة تحتِّم ذلك وهي إجمالاً دورية كإقرار اقتراحات القوانين ومشاريع القوانين العادية وكإنتخاب رئيس الجمهورية أو انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه. لذلك نص الدستور على مواعيد ومهل محدّدة لإقرارها سواء للتشريع العادي (4*) أو المواعيد المحدّدة لانتخاب رئيس الجمهورية (5*) أو انتخاب رئييس المجلس النيابي ونائبه (6*).
-ب- الاستحقاقات الدستورية الاستثنائية
يمكن تعريف الاستحقاقات الدستورية الاستثنائية الأعمال الذي حدّدها الدستور ضمن صلاحيات السلطة التشريعية حصراً أو اختياراً بحكم الضرورة أو حدوث طارئ أو جرم معيّن أي لأسباب غير عادية في المبدأ وهي إجمالاً غير دورية وتمارس السلطة التشريعية صلاحيتها تارة كهيئة اتهامية إذا ارتكب رئيس الجمهورية أو أحد الوزراء جرماً معيّناً (7*) أو كهيئة تشريعية استثنائية عندما تقر تشريعاً دستورياً لتعديل دستور جامد (8*) مثل الدستور اللبناني حفاظاً على السلم الأهلي أو تطويراً للعقد الاجتماعي وأحياناً تمارس صلاحيتها لنزع الثقة من رئيس المجلس النيابي ونائبه.
- يجمع بين الاستحقاقات الدستورية العادية والاستحقاقات الاستثنائية للسلطة التشريعية عاملين مؤثرين هما النصاب والغالبية.
ثانياً: علاقة النصاب بالغالبية في الاستحقاقات الدستورية للسلطة التشريعية:
يمكن تعريف النصاب أنه عدد النواب المطلوب حضورهم دستوراً لقانونية انعقاد جلسة المجلس النيابي. وقد حدّدت المادة 34 من الدستور مفهوم النصاب العادي. (9*).
ويمكن تعريف الغالبية أنه عدد النواب المطلوب تصويتهم دستوراً لقانونية إصدار قرار أو إقرار قانون في المجلس النيابي وقد أشارت المادة 34 من الدستور لمفهوم الغالبية العادية.(10*)
يجب توضيح العلاقة بين النصاب والغالبية سواء في الاستحقاقات الدستورية العادية أو في الاستحقاقات الدستورية الاستثنائية.
-أ- في الاستحقاقات الدستورية العادية
من خلال المواد الدستورية المتعلّقة بالنصاب والغالبية في الاستحقاقات الدستورية العادية للسلطة التشريعية في لبنان يمكن تحديد مدى تأثير النصاب على الغالبية وتأثير الغالبية على النصاب.
أ-1- تأثير النصاب على الغالبية
نصت المادة 34 من الدستور على وجوب حضور أكثرية أعضاء المجلس النيابي الذين يؤلفونه حتى يكون اجتماع المجلس قانونياً. وهذا النص يعرِّف ويحدِّد النصاب العادي في جميع الاستحقاقات الدستورية للسلطة التشريعية في لبنان سواء كانت عادية أو استثنائية إذا لم يكن هناك نصّاً يحدّد نصاباً خاصاً لاستحقاق معيّن.
السؤال على مدى تأثير النصاب العادي على الغالبية المنصوص عليها في المواد المتعلقة بالاستحقاقات الدستورية العادية.
من خلال نص المادة 34 من الدستور فإن نصاباً محدداً يوجب حضور عدد معيّن من النواب لقانونية أي جلسة لمجلس النواب أي أن هذا النصاب أثّر على احتساب الغالبية العادية. (11*)
لكن هل لهذه القاعدة استثناءات في الاستحقاقات الدستورية العادية من خلال تأثير الغالبية على النصاب.
أ-2- تأثير الغالبية على النصاب
يتبيّن من خلال المواد الدستورية المتعلقة بالاستحقاقات الدستورية العادية أنه لم يتم تحديد نصاب موصوف خاص بل تم تحديد غالبية موصوفة تارة وغالبية عادية أو تنازلية تارة. لكن هل يؤثر ذلك على النصاب العادي المحدد في المادة 34 من الدستور واستبعاده في هذه الاستحقاقات.
أعطت المادة 57 من الدستور الحق لرئيس الجمهورية بعد اطلاع مجلس الوزراء حق طلب إعادة النظر في القانون مرة واحدة وأعطت هذه المادة الخيار لإقراره من جديد في مجلس النواب بالغالبية المطلقة في مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً.(12*)
تبين من خلال هذا النص أن الغالبية الموصوفة أوجبت عدداً أكبر من النواب من الغالبية العادية المنصوص عنها في المادة 34 لكنها لم تؤثر على النصّاب العادي في هذه المادة.
حدّدت المادة 44 من الدستور الغالبية المطلقة من أصوات المقترعين من أعضاء مجلس النواب في الدورة الأولى والثانية لانتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه والغالبية النسبية في الدورة الثالثة.(13*)
يتبين من سياق هذه المادة أن المشترع سهّل عملية انتخاب رئيس المجلس ونائبه بغالبيته موصوفة لكل من المقترعين في الدورة الأولى والثانية وغالبية تنازلية من المقترعين في الدورة الثالثة.
- إن الغالبية في الدورات الثالثة تثبّت النصاب العادي المنصوص عنه في المادة 34.
إن الغالبية الموصوفة المنصوص عنها في المادة 57 مختلفة عن الغالبية الموصوفة المنصوص عنها في المادة 44 لكن كلتيهما لا يؤثران على النصاب العادي في المادة 34 ولا يستبعدانه.
سهّل المشترع إقرار الاستحقاقات الدستورية العادية وفقاً لنصاب عادي وأكثرية عادية للتشريع العادي وغالبية موصوفة ونصاباً عادياً في الاستحقاقات الأخرى المذكورة أعلاه.
هل تعامل المشترع مع الاستحقاقات الدستورية الاستثنائية بشكل مماثل؟
-ب- الاستحقاقات الدستورية الاستثنائية
إجمالاً ووفقاً للتقسيم الذي تمّ الالتزام به فإن الاستحقاقات الدستورية الاستثنائية من المفترض أن تحتاج إجراءات استثنائية ملائمة ومنها النصاب والغالبية. لذلك يجب توضيح تأثير النصاب على الغالبية في هذه الاستحقاقات وكذلك تأثير الغالبية على النصاب.
ب-1- تأثير النصاب على الغالبية
يتبيّن من خلال المواد التي حدّدت الاستحقاقات الدستورية الاستثنائية (14*) أن مادة وحيدة حدّدت بشكل واضح نصاباً موصوفاً خاصاً لإقرار هذا الاستحقاق فهل يؤثر ذلك على الغالبية العادية؟
نصت الفقرة الأولى من المادة 79 من الدستور على ما يلي:
"عندما يطرح على المجلس مشروع يتعلّق بتعديل الدستور لا يمكنه أن يبحث فيه أو أن يصوِّت عليه ما لم تلتئم بأكثرية مؤلفة من ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً ويجب أن يكون التصويت بالغالبية نفسها، يتبيّن من هذا النص أن المشرّع أوجب نصاباً موصوفاً جامداً إذا تم طرح مشروع قانون دستوري أمام المجلس النيابي لتعديل الدستور لإقراره وبغالبية موصوفة جامدة بنسبة مماثلة.
في الحالة الخاصة المبينة أعلاه تشدّد المشترع في نسبة النصاب بشكل واضح عكس ما فعله في الاستحقاقات الدستورية العادية وجعل النصاب موصوفاً يستبعد بشكل كلّي النصاب العادي المنصوص عليه في المادة 34 وجعل كذلك الغالبية موصوفة وجامدة ومتناسبة مع النصاب الموصوف أي وضع نصاباً استثنائياً لاستحقاق استثنائي وغالبية موصوفة استبعدت بشكل كلي الغالبية العادية المنصوص عنها في المادة 34 لكن تأثير النصاب الموصوف على الأكثرية الموصوفة جاء محدوداً وغير مؤثر.
ب-2- تأثير الغالبية على النصاب
يتبيّن من خلال المواد الدستورية التي حدّدت الاستحقاقات الدستورية الاستثنائية للسلطة التشريعة في لبنان أنها أوجبت غالبية موصوفة من دون تحديد أي نصاب بشكل صريح فهل تؤثر الغالبية الموصوفة على النصاب العادي المنصوص عليه في المادة 34 من الدستور؟
نصت المادة 30 من الدستور (15*): "للنواب وحدهم الحق بالفصل في صحة نيابتهم ولا يجوز إبطال انتخاب نائب ما إلا بغالبية الثلثين من مجموع الأعضاء.
ونصت الفقرة الأخيرة من المادة 44 من الدستور على ما يلي:
للمجلس، ولمرة واحدة، بعد عامين من انتخاب رئيسه ونائب رئيسه، وفي أول جلسة يعقدها أن ينزع الثقة من رئيسه أو نائبه بأكثرية الثلثين من مجموع أعضائه...".
أما في ما يتعلَّق باتهام رئيس الجمهورية في جرائم معيّنة فقد وردت عبارة في الفقرة الثانية من المادة 60 من الدستور "ولا يمكن اتهامه بسبب هذه الجرائم أو لعلتي خرق الدستور والخيانة لاعظمى إلا من قبل مجلس النواب بموجب قرار يصدره بغالبية ثلثي مجموع أعضائه".
وكذلك في اتهام رئيس الوزراء والوزراء في جرائم معينة وردت عبارة في المادة 70 من الدستور: "ولا يجوز أن يصدر قرار الاتهام إلا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس".
وفي موضوع تعديل الدستور اللبناني من قبل المجلس النيابي أوجبت الفقرة الأولى من المادة 77 أكثرية الثلثين من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً لاقتراح قانون إعادة النظر في الدستور.
وأوجبت الفقرة الثانية من المادة 77 من الدستور اللبناني ثلاثة أرباع مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس النيابي لدرسه ثانية.
- ما يجمع بين المواد الدستورية الواردة أعلاه عدم تحديد أي نصاب قانوني للجلسات لكن تم تحديد غالبية موصوفة جامدة في بعض الاستحقاقات وغالبية موصوفة تصاعدية في حالة إعادة درس مشروع تعديل الدستور مما يستبعد حتماً النصاب العادي المنصوص عليه في المادة 34 من الدستور ويحتّم نصاباً موصوفاً جامداً أو تصاعدياً يتلاءم مع الغالبية المذكورة بالنسب ذاتها كحد أدنى.
التشدد الملحوظ من قبل المشترع لإقرار الاستحقاقات الدستورية الاستثنائية للسلطة التشريعية يقابله تساهلاً ملحوظاً لإقرار الاستحقاقات الدستورية العادية لذلك هل استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية يشكل استثناءً خاصاً أو يخضع للتصنيف الوارد أعلاه؟ وهل هناك عوامل أخرى غير النصاب والغالبية تؤثر على هذا الاستحقاق؟
ثالثاً: العوامل القانونية المؤثرة على استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان
وفقاً للتصنيف الوارد أعلاه فإن استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان من الاستحقاقات الدستورية العادية لكن تأثير العوامل القانونية المتعلقة بهذا الاستحقاق مثل النصاب والغالبية والميثاقية والعرف الدستوري يجعله استحقاقاً خاصاً أو أن هذه العوامل تؤثر بهذا الاستحقاق لكن من دون أن تخرجه من هذا التصنيف.
3-أ- علاقة الغالبية بالنصاب في استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان
وردت عبارة في المادة 49 من الدستور لم يتم تعديلها منذ عام 1929 وهي "ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي".
من خلال مقارنة المواد الدستورية التي نصت على غالبية عادية أو موصوفة في جلسات المجلس النيابي سواء في الاستحقاقات الدستورية العادية أو الاستحقاقات الدستورية الإستثنائية يتبيّن أن هذه العبارة فريدة في صياغتها لتحديد نسبة للغالبية المطلوبة لإستحقاق دستوري تشريعي أو انتخابي.
عند إقرار الدستور اللبناني في 23 أيار 1926 نصت المادة 49 منه على الغالبية المطلوبة لانتخاب رئيس جمهورية وفقاً للآتي:
"ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجموع أصوات الشيوخ والنواب ملتئمين في مجمع نيابي ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي".
يتبيّن من خلال النقاش الدائر بين النواب لإقرار الدستور اللبناني عام 1926 ومن خلال مناقشة بنود المادة 49 من الدستور توقف بعض النواب حول الغالبية الموصوفة في الدورة الأولى والدورات التي تلي من دون إعطاء أي اهتمام لنصاب الجلسة خصوصاً بأنّ العبارة تنص بشكل واضح على "مجموع أصوات" الشيوخ والنواب "ملتئمين" مما يوحي أن الغالبية الموصوفة لا تستبعد النصاب العادي بل تلتزم به وركّز النقاش على ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية في الدورة الأولى أو الدورات التي تلي. وإلا يجب حل المجلس النيابي (16*) معنى ذلك أن هدف المشترع عند وضع نص المادة 49 عام 1926 تسهيل انتخاب رئيس الجمهورية لكن بغالبية موصوفة متحركة وتنازلية ووفقاً لنقاب عادي.
- تم تعديل العبارة المتعلقة بالغالبية لانتخاب رئيس الجمهورية المنصوص عنها في المادة 49 وفقاً للقانون الدستوري في 17/10/1927 وفقاً لما يأتي:
"ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجموع "أصوات مجلس النواب ويكتفى الغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي".(17*)
في التعديل الدستوري في 8 أيار 1929 تم حذف عبارة "مجموع أصوات" من الفقرة الثانية من المادة 49 لتصبح على الشكل التالي:
"ينتخب رئيس الجمهورية بغالبية الثلثين من مجلس النواب"
في المبدأ يمكن لغالبية عادية إقرار تشريع عادي في مجلس النواب وفقاً لنص المادة 34 من الدستور أي غالبية النواب الراغبين والقادرين في المشاركة في جلسة مجلس النواب ووفق النصاب العادي.
أما في المواد الدستورية المتعلقة بالاستحقاقات الدستورية الاستثنائية. فقد قيّدت الغالبية الموصوفة المنصوص عليها النصاب العادي وعدّلته وتم احتساب الغالبية الموصوفة على نسبة معيّنة من مجموع النواب المؤلف منهم المجلس قانونياً ومن بين هذا المجموع نواب غير قادرين على المشاركة في الجلسة لأسباب قانونية وصحية ومن هذا المجموع نواب غير راغبين في المشاركة وهذا استثناء عن احتساب الغالبية العادية المنصوص عنها في المادة 34 في الدستور.
وفقاً لهذا المنطق، مع الأمل في أن تمارس الهيئة العامة لمجلس النواب صلاحياتها في تفسير هذه العبارة أو المجلس الدستوري (18*) من خلال دراسة طعن يتضمن اعتراضاً على مفهوم النصاب والغالبية في استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية فيمكن اعتبار أن المقصود من عبارة بغالبية الثلثين من مجلس النواب" غالبية الثلثين من مجموع النواب القادرين قانوناً أي غير المستقيلين من المجلس النيابي خطياً، أو النواب الذين لم يتم اتخاذ إجراءات جزائية ضدهم تمنعهم من المشاركة في جلسات مجلس النواب وكذلك النواب غير العاجزين جسدياً أو ذهنياً بموجب مرض عضال يمنعهم كلياً من المشاركة في هذه الجلسات.
وإذا تم اعتبار "مجلس النواب" أنه السلطة المشترعة التي تمارس صلاحياتها في الانعقاد لإقرار الاستحقاقات التشريعية والانتخابية وغيرها وفقاً للمواد 32 و33 و74 من الدستور يرجّح احتساب غالبية الثلثين في الدورة الأولى والغالبية المطلقة في الدورات التي تلي في استحقاق رئيس الجمهورية من مجموع النواب القادرين فعلياً على المشاركة في هذه الجلسة.
معنى ذلك أن الغالبية الموصوفة في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية متحركة وتنازلية تستبعد النصاب العادي المنصوص عليه في المادة 34 من الدستور في الدورة الأولى وكذلك الغالبية العادية في المبدأ.
وتتوافق الغالبية الموصوفة في الدورات التي تلي مع النصاب العادي لكنها تستبعد كلياً الغالبية العادية المنصوص عنها في المادة 34 في الدورات التي تلي.
من خلال هذا المسار يكون استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية في إطار الإستحقاقات الدستورية العادية والدورية التي تساهل المشترع نسبياً في وضع شروط وقيود لإنجازها لكن السؤال المطروح هل تؤثر الميثاقية على هذا الاستحقاق؟
3-ب- تأثير الميثاقية على استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان
لا يهدف هذا المقال إلى تحديد مفهوم الميثاق الوطني لعام 1943 وإذا تم وضعه بوثيقة مكتوبة أو ظل شفهياً أو إذا كان تسوية طائفية (19*) بهدف الاستقرار السياسي أو تحديد سياسة خارجية غير منحازة شرقاً أو غرباً إنما محاولة إظهار مدى تأثير الميثاقية على استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان.
والمقصود بالميثاقية مشاركة الطوائف اللبنانية في القطاعات الأساسية للدولة اللبنانية وظلت مطالبة ممثلي الطوائف السياسيين بمشاركة أفعل لطوائفهم لكن الدستور اللبناني بعد تعديله عام 1943 ص "بصورة مؤقتة والتماساً للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزراء دون أن يؤول ذلك إلى الأضرار بمصلحة الدولة" وبعد تعديل الدستور في اتفاق الطائف.
أصبح مجلس النواب وحتى انتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي يتألف بالتساوي في المسيحيين والمسلمين" و"نسبياً بين طوائف كل من الفئتين" و"نسبياً بين المناطق" (20*).
وكذلك "تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة (21*)" وتكون وظائف الفئة الأولى أو ما يعادلها "مناصفة بين المسيحيين والمسلمين بدون تخصيص أنه وظيفة لأي طائفة مع التقيد بمبدأ الاختصاص والكفاءة" (22*).
- لكن لا يوجد أي نص دستوري منذ وضع الدستور اللبناني عام 1926 وبعد تعديله في اتفاق الطائف عام 1989 يوجب مشاركة ممثلي الطوائف اللبنانية في الاستحقاقات الدستورية ومنها انتخاب رئيس الجمهورية. وهل الميثاقية هي الالتزام بالدستور فقط أو وجوب اعتماد المشاركة الطائفية في جميع الاستحقاقات الدستورية حتى ولم يكن هناك نص صريح بذلك.
أصبح للدستور اللبناني ولأول مرة مقدمة بعد تعديله في اتفاق الطائف وقد نص البند "ي" من مقدمة الدستور المعدل عام 1990 على ما يلي: "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك" (23*).
وهذا نص غير مسبوق يبطل شرعية أي سلطة تناقض هذا الميثاق.
لكن هل ينسحب هذا النص على استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية وكيف يمكن تحديد "ميثاق العيش المشترك"؟
إذا أراد المشترع اعتبار استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية من الاستحقاقات التي يجب أن تكون بمشاركة طائفية لنصّ على ذلك كما فعل صراحة في المادة 24 (24*) والمادة 95 بخصوص المجلس النيابي والحكومة والوظائف العامة في الفئة الأولى أو ما يعادلها.
ويمكن للمشترع التشدد في وضع نصاب موصوف جامد وغالبية مماثلة لإشراك جميع الطوائف نسبياً في هذا الاستحقاق لكنه لم يفعل ذلك.
وإذا اعتبر البعض إن الميثاقية غير مكتوبة ويجب مراعاتها بعكس رأي المجلس الدستوري فسيكون ذلك قيد إضافي على انتخاب رئيس الجمهورية لم يرده المشترع ومن الصعب تحقيقه لأن ذلك يحتاج إلى مشاركة أكثر من ثلاثة أرباع مجموع النواب المؤلف منهم المجلس قانوناً. وبالرغم من ذلك يوجد إمكانية عدم مشاركة أو مقاطعة ممثلي طائفة معيّنة".
بعد إنشاء المجلس الدستوري عام 1993 لم يطعن من له الصفة بالطعن (25*) في ميثاقية أي استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية لمعرفة رأي المجلس بذلك. وإذا قبل المجلس الطعن هل سيميّز بين ميثاقية" عدم مشاركة ممثلي الطوائف الكبرى وممثلي الطوائف المؤسسة للكيان اللبناني وممثلي الطوائف الصغرى في هذا الاستحقاق"؟
- إذا كانت الميثاقية لم تؤثر حتى الآن في استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية ولم تبطل انتخاب أي رئيس فهل سيؤثر عامل آخر وهو العرف الدستوري على نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية؟
3-ث- تأثير العرف الدستوري على نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان
- يمكن تحديد العرف بشكل عام "اتباع الناس سلوكاً معيّناً في موضوع معيّن بصفة مطردة ولمدة طويلة يجعل الناس يشعرون بقوته الإلزامية كالقانون المكتوب" (26*).
يهدف هذا المقال إلى محاولة تحديد سلوك السلطات العامة في لبنان وليس سلوك الأفراد وإذا كان هذا السلوك في السلطة التشريعية في لبنان في إنتخاب رئيس الجمهورية يشكِّل عرفاً دستورياً معيّناً يؤثر على النصاب الموجب في الدورة الأولى والدورات اللاحقة في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية.
منذ انتخاب بشارة الخوري رئيساً للجمهورية قبل استقلال لبنان رسمياً بشهرين (27*) وحتى انتخاب ميشال عون رئيساً في جلسة 31/10/2016 انتخب النواب الرئيس بحضور ثلثي مجموع النواب المؤلف منهم المجلس قانوناً على الأقل ووصل الحضور إلى 100% من مجموع النواب في جلسة انتخاب سليمان فرنجية في جلسة 17/8/1970 لكن هذا الحضور يعبّر عن التنافس السياسي وليس تطبيقاً لنص واضح يوجب ذلك.
في جلسة انتخاب بشير الجميّل رئيساً حضر ثلثا مجموع النواب الأحياء المؤلف منهم المجلس بعد تفسير الهيئة العامة لمجلس النواب مفهوم مجموع النواب المؤلف منهم المجلس في 29 أيار 1980 (28*).
إذا تم تحديد العرف الدستوري أنه تطبيق لـ "قاعدة مستقرة ومطردة التطبيق من قبل السلطات العامة مع الإرادة بالالتزام من قبل هذه السلطات". فإن الركن المادي والركن المعنوي للعرف الدستوري في انتخاب رئيس الجمهورية من قبل مجلس النواب في لبنان قد تكوّن من خلال نصاب ثلثي مجموع النواب المؤلف منهم المجلس النيابي في كل دورات الانتخاب.
لكن السؤال في غياب أي ذكر للنصاب في الفقرة الثانية من المادة 49 هل تمّ تكوين عرف دستوري مفسِّر أو عرف دستوري مكمِّل أو عرف دستوري معدِّل للنص الدستوري؟ من خلال سلوك السلطات التشريعية المتعلقة منذ انتخاب بشارة الخوري عام 1943 إن هذه السلطات اعتمدت نصاباً موصوفاً فيما المادة 49 المتعلقة بهذا الاستحقاق نصت على غالبية موصوفة دون ذكر أي نصاب.
والنصاب الموصوف الذي استقرت السلطات المتعاقبة على اعتماده يعدِّل حكماً الغالبية العادية وكذلك يستبعد حكماً النصاب العادي المنصوص عنه في المادة 34 من الدستور في كل دورات الانتخاب.
ولم تحاول السلطات المتعاقبة تحديد العلاقة بين الغالبية الموصوفة المنصوص عنها في الفقرة الثانية من المادة 49 من الدستور والنصاب المتوجب في كل دورات الانتخاب أي في تحديد نصاب يتلاءم مع الغالبية الموصوفة. لذلك من المستبعد نشوء عرف مفسر يبيّن تطبيق نص دستوري غير واضح.
ويتبيّن من خلال السلوك المطرد للسلطات المتعاقبة أن تحديد نصاب موصوف جامد في كل دورات الانتخاب لملء فراغ دستور في المادة 49 يمكن وصفه في الظاهر أنه عرف دستوري مكمِّل.
لكن هل يمكن للعرف الدستوري المكمِّل أن يقيِّد إرادة المشترع إذا تمّ تفسير إرادته (29*) إن النصاب يتأثر حكماً بالغالبية الموصوفة في الدورة الأولى والدورات التي تليها.
- وإذا تمّ اعتبار سلوك السلطات المتعاقبة عرفاً دستورياً معدلاً، أي حذف أو إضافة قاعدة دستورية لنص دستوري باعتماد نصاب موصوف معيّن إذا تم اعتماد تفسير الفقرة الثانية من المادة 49 أن الغالبية الموصوفة توجب نصاباً ملائماً لها.
- إذا تمَّ اعتبار الاستحقاق الرئاسي من الاستحقاقات الدستورية العادية للسلطة التشريعية أي تسهيل هذا الاستحقاق نسبياً من المفترض عدم وضع قيود إضافية لتحقيق هذا الاستحقاق.
في المبدأ فإن تحقّق الركن المادي والركن المعنوي للعرف الدستوري سواء كان مفسِّراً أو مكملاً أو معدِّلا يجب احترامه كأي قاعدة دستورية موجباً التطبيق. لكن على الأقل يجب أن لا يكون العرف الدستوري سبباً أساسياً في عرقلة المؤسسات الدستورية وقيداً إضافياً على انتظامها بدلاً أن يكون حافزاً ومساهماً في تطوير هذه المؤسسات.
لذلك فإن تفسير الفقرة الثانية من المادة 49 من الدستور من قبل الهيئة العامة لمجلس النواب يوضح إذا كان يجب تفعيل القاعدة الدستورية الموجودة في النص أو إنشاء عرف دستوري يضيف قيد جديد على هذا الاستحقاق.
منذ أكثر من 32 عاماً نبّه بطرس حرب في جلسات تعديل الدستور اللبناني (30*) من عدم وضوح النصوص الدستورية بقوله:
"لا نقبل أن يكون دستورنا مبهماً نريده واضحاً لكي نفسح أمام الأجيال الطالعة أن تفهم هذا الدستور وتطبقه كما أردنا مجتمعين لنخلص لبنان من هذا المنزلق الخطير الذي لا نزال نتخبط به".
لكن هل قام النواب بواجباتهم في توضيح النصوص الدستورية ورفع الإبهام عنها ومنها الفقرة الثانية من المادة 49. (31*)
- ليس هذا المقال إلا محاولة متواضعة بانتظار تفسير وتوضيح من المراجع الدستورية والقانونية المختصة. حتى ذلك الوقت ستتدفق الأقلام حبراً سواء كان مسّيساً أو غير مسّيس من حقوقيين متخصصين أو غير متخصصين لكن تبقى حاجات الناس هي الأولوية في ظل هذا الوضع الاستثنائي غير مسبوق. لذلك إعادة الإضاءة دائماً لقول من كبار الزمن الجميل دولة الرئيس صائب سلام عام 1980: "لو سألت عقلي فإن الصورة قاتمة ويائسة إنما لو سألت قلبي وأنا لبناني لا بد وأن يبقى الأمل في هذا القلب وفي هذا العقل". (32*)
*********************************
1* وفقًا للقانون رقم 18/1990 الصادر في 21/9/1990.
2* البند (2) من الفقرة (ب) من باب "الإصلاحات الأخرى من وثيقة الوفاق الوطني الذي تم إقرارها في 22/10/1989 في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية.
3* مجلس النواب، العقد التشريعي السابع عشر، العقد الاستثنائي الأول، محضر الجلسة الثالثة.
4* حدّدت المادة 32 و33 من الدستور اللبناني مواعيد انعقاد العقود العادية والعقود الإستثنائية لمجلس النواب.
5* المادة 49 والمادة 73 من الدستور.
6* المادة 44 من الدستور.
7* وفقًا للمادة 60 و70 من الدستور اللبناني.
8* المادة 77 و78 و79 من الدستور اللبناني التي نصت على إجراءات استثنائية في تعديل الدستور مضمونًا ضمن عقود الإنعقاد المنصوص عنها دستورًا.
9* "لا يكون اجتماع المجلس قانونيًا ما لم تحضره الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلفونه".
10* بعبارة "تتخذ القرارات بغالبية الأصوات".
11* أي أن الغالبية العادية وفقًا للمادة 34 من الدستور يمكن أن تكون 33 نائبًا إذا كان عدد النواب الذين يؤلفون المجلس النيابي 128 والنصاب 65 معنى ذلك أن هذه الغالبية العادية يمكنها إقرار أي تشريع عادي أو إصدار قرار متعلق باستحقاق دستوري عادي ما لم يكن هناك نص خاص بغالبية موصوفة.
12* اعتبرت اللجان المشتركة للمجلس في مجلس النواب في جلستها في 10 نيسان 1980 وكذلك الهيئة العامة للمجلس في 29 أيار 1980 وبعد توصية مكتب المجلس ولجنة الإدارة والعدل ولجنة النظام الداخلي. إن احتساب الغالبية من مجموع أعضاء المجلس الأحياء الذين يؤلفون ولا يجب احتساب الأعضاء المتوفين (بعد استشارة العلاّمة الدستوري الفرنسي جورج فيديل).
13* أي غالبية متحركة وبنسبة مقترعين أقل في الدورة الثالثة.
14* مثل اتهام الرؤساء والوزراء أو تعديل الدستور أو نزع الثقة عن رئيس المجلس النيابي ونائبه.
15* ألغيت حكمًا عند إنشاء المجلس الدستوري وفقًا للقانون رقم 250 تاريخ 14/7/1993.
16* محضر الجلسة الخامسة في 21 أيار 1926.
17* نص لا يختلف نسبيًا من نص المادة 49 الأصلية لعام 1926 مع توحيد السلطة التشريعية بمجلس النواب بعد إلغاء مجلس الشيوخ.
18* استقر اجتهاد المجلس الدستوري بالتأكيد أن كل ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني غير ملزم إلا إذا تم النص عليه في الدستور ومقدمته أي أن الصلاحية الحصرية لتفسير الدستور تعود للمجلس النيابي حتى لو نصت وثيقة الوفاق الوطني على إعطاء هذه الصلاحية للمجلس الدستوري لكن هذا ألا ينفِ إمكانية المجلس تفسير مادة من مواد الدستور في معرض دراسة أي طعن يتعلق بهذه المادة.
19* البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح في 7/10/1943 تشدّد على وجوب إلغاء الطائفية السياسية.
20* الفقرة الثانية من المادة 24 من الدستور اللبناني.
21* البند أ من المادة 95 من الدستور اللبناني.
22* البند ب من المادة 95 من الدستور اللبناني.
23* اعتبر القرار رقم 7/2014 الصادر عن المجلس الدستوري في 28/11/2014 "إن الميثاق الوطني هو في صلب الدستور والميثاقية تقتضي الالتزام بالدستور".
24* النائب يمثل الأمة جمعاء وفقًا للمادة 27 من الدستور اللبناني لكن هذا لا يمنع أنه تم انتخابه وفقًا لكوتا طائفية.
25* حددت المادة 19 من الدستور اللبناني من له الصفة في الطعن أمام المجلس الدستوري.
26* وهذا التعريف لا يختلف عليه الفقهاء ويعتبرون أيضًا أن للعرف ركنًا ماديًا يتمثل سلوك الأفراد بشكل معيَّن وركنًا معنويًا يتمثل "بالاعتقاد بإلزاميته شرط أن يكون عامًا وقديمًا وثابتًا.
27* جلسة 21/9/1943.
28* نص المشترع صراحة على تحديد نسبة النواب في الغالبية وحدّد المواد الدستورية التي أوجب غالبية من مجموع النواب المؤلف منهم المجلس والمادة 49 ليست من هذه المواد وفقًا لصياغة النص.
29* إن من يحدِّد ذلك الهيئة العامة لمجلس النواب من خلال تفسير الفقرة الثانية من المادة 49 من الدستور وتبرير اعتماد نصاب موصوف محدّد وكذلك المجلس الدستوري إذا نظر في طعن يتعلّق بالاستحقاق الرئاسي وفقًا للمادة 19 من الدستور حول مدى دستورية تحديد هذا النصاب.
30* جلسة 21 آب 1990.
31* عندما تعدّلت المادة 49 بعد اتفاق الطائف تم إضافة فقرة ثالثة على هذه المادة دون محاولة تعديل الفقرة الثانية وإعادة صياغتها توضيحًا لنية المشترع.
32* ردّد هذا القول بطرس حرب في جلسة تعديل الدستور اللبناني في 21 آب 1990.