كيف كتب فيكتور هوغو "البؤساء"؟

10 : 11

ينتهي فيلم Les Misérables (البؤساء) المرشّح لجائزة أوسكار بهذه المقولة لفيكتور هوغو: "تذكّروا هذا القول جيداً يا أصدقائي: ما من أعشاب ولا بشر سيئين. بل ثمة مزارعون سيئون بكل بساطة". لكن كيف كتب هوغو هذا الكتاب الشامل الذي تدور أحداثه جزئياً في "مونتفيرميل"؟ "ما لم نجد حلولاً لمشاكل القرن الثلاث، أي تدهور وضع الإنسان بسبب البروليتاريا، وانهيار المرأة بسبب الجوع، وتوقف نمو الأطفال تحت تأثير الليل (...) وطالما هناك جهل وبؤس على الأرض، فإن كتب الطبيعة قد لا تكون عديمة الفائدة"! انطلاقاً من هذه المقدمة الشهيرة والمؤلفة من جملة واحدة في رواية Les Misérables، أوضح فيكتور هوغو التحدي الذي يطرحه هذا الكتاب.



بفضل شخصيات "كوزيت" و"غافروش" و"جان فالجان" و"ماريوس"، يُعتبر هذا الكتاب اليوم من أشهر المؤلفات حول العالم وأكثرها اقتباساً، على شكل كتب هزلية أو مسلسلات أو أفلام أو كوميديا موسيقية. كان نجاح أحدث نسخة سينمائية من Les Misérables للمخرج لادج لي كفيلاً بتسليط الضوء مجدداً على أفكار هوغو السياسية في مواضيع مختلفة، على غرار العنف والمأساة والتعليم.

لكن كيف بدأ فيكتور هوغو يكتب هذا العمل المتقن الذي يعرفه الجميع (لكن لم تقرأه إلا قلة من الناس)؟ استعمل الكاتب مواهبه كلها وسكب من روحه في هذا العمل! جان مارك هوفاس هو أستاذ أدب في جامعة السوربون ومتخصص في مؤلفات فيكتور هوغو وكاتب سيرة مرجعية عنه (دار نشر "فايار"، 2001 و2008). يوضح هوفاس مسار نشوء هذه الرواية التي تعرض أبرز التقلبات في حياة هوغو وعلاقاته الغرامية وصولاً إلى تحولاته السياسية، مروراً باهتمامه باستحضار الأرواح (أوحت له الأرواح بعنوان "البؤساء"!).

يقول هوفاس: "كان الطموح السياسي والاجتماعي الذي عبّر عنه فيكتور هوغو في كتاب Les Misérables لافتاً. هو يرتكز على إرساء الديموقراطية مع شعب يجيد القراءة. كان فيكتور هوغو يطمح إلى تنشئة قرّائه، مثلما يربّي المعلمون تلاميذهم. أراد أن ينشئ الشعب في الجمهورية الكبرى التي يحلم بها في فرنسا وأوروبا والعالم. كان يطمح إلى توسيع قاعدة قرائه وأراد أن يشعر بأثره القوي ومنفعته في العالم أجمع. من المدهش أن نلاحظ إلى أي حد نجح في تحقيق أهدافه لأن روايته أصبحت بكل وضوح أشهر رواية فرنسية في العالم. نرصد في هذه القصة جميع مواصفات فيكتور هوغو، وهو جانب بالغ الأهمية. على مستوى الكتابة في المقام الأول، نتعرّف على هوغو السياسي والكاتب الدرامي والشاعر. يقول عنه آرثر رامبو إنه شاعر في الأساس. سنكتشف جميع جوانب شخصية هوغو، فنتعرّف عليه قبل نفيه من بلده وخلال سنوات النفي. أكدت زوجته على قوة الرابط بينه وبين شخصية "ماريوس" في كتابه، وهي علاقة واضحة عند الاطلاع على سيرته. حتى هوغو شخصياً يقول في تصريح له: "هذه الأحداث تحمل جزءاً من ذكرياتي". تبلغ روايته ذروتها في هذا الجانب تحديداً".






أهم رواية في حياته حرفياً!


كتب هوغو هذه الرواية على مر 17 عاماً، في مرحلتَين متناقضتَين بالكامل من تطوره الشخصي والسياسي.

بدأ يكتبها في المرة الأولى في العام 1845، وكان يبلغ حينها 43 عاماً، وحمل الكتاب عنوان Les Misères (المآسي). في تلك الحقبة، بلغت مسيرته المهنية ذروتها، فكان أكاديمياً وعضواً بارزاً في المجتمع واستقبله الملك وتكرّم في كل مكان. حتى أنه نال لقباً نبيلاً وموازياً للسيناتور في حزب المحافظين الحاكم. لكن سرعان ما اتُّهِم بجرم الزنى الفاضح. وبعد تشوّه سمعته، طلب منه الملك أن يتوارى عن الأنظار لفترة. فعزل نفسه في مكتبه في ساحة "فوج" وراح يكتب بشكلٍ هستيري ردّه على كتاب Comédie humaine (الكوميديا البشرية) لبلزاك، انطلاقاً من مصير محكوم يخرج من السجن واســـــمه "جان فالجان".يضيف جـــــان مارك هوفاس: "غيّر هوغو مواعيد وجبات طعامه وبذل جهوداً شاقة في الصباح وفترة بعد الظهر والمساء. لقد عزل نفسه داخل روايته! كان قد جمع مصادره الموثّقة منذ سنوات، وتكمن المشكلة في هذه النقطة بالذات". لطالما انشغل هوغو بالقضايا الاجتماعية، لذا لم يتردد في استذكار زياراته القديمة إلى السجون والمصانع ومدنٍ مثل "مونتفيرميل" ولقاءاته مع العمال، كي يكتب بأقرب أسلوب إلى الواقع والمآسي الحقيقية. لكن بعد إنهائه ثلاثة أرباع القصة، اندلعت ثورة العام 1848، فأوقف كل ما يفعله لتكريس نفسه للسياسة. ثم انتُخِب في الجمعية الوطنية وألقى خطابات قوية عن البروليتاريا وحرية الصحافة والتعليم... قبل أن يعود وينقلب عليها في روايته لاحقاً"!


في المنفى


بعد انقلاب نابليون الثالث والإطاحة بالجمهورية الثانية، اضطر فيكتور هوغو للذهاب إلى المنفى. ثم انضمت إليه عشيقته جولييت درويه وحملت معها حقيبة مليئة بنصوص رواية Les Misères وجلبتها له حين كان في بلجيكا. لكنه لم يلمس تلك النصوص قبل مرور ثماني سنوات. يقول جان مارك هوفاس: "ما سبب هذا الانقطاع كله؟ كان هوغو يتغير طبعاً، وهي ظاهرة نادرة جداً في عالم الأدب. لم يعد يشبه ما كان عليه، وكأنه أصبح كاتباً مختلفاً بالكامل. من الناحية الإيديولوجية، لم يعد يوافق على ما كتبه سابقاً، وطرح هذا الوضع مشكلة كبيرة في حالته. فقد انتقل إلى اليسار المتطرف من الطيف السياسي".

أعاد هوغو قراءة كتاباته الخاصة برواية Les Misères حين كان يبلغ 58 عاماً ويعيش معزولاً في "غيرنسي" بعد سنوات من التجول، فيما كانت نصوصه ممنوعة في فرنسا، لكنه لم يصحح شيئاً مما كتبه على الفور. بل غاص في مضمون نصوصه على مر ستة أشهر وغرق في التفكير طوال هذه الفترة. ثم استأنف العمل خلال سنة واستعمل ريشة الإوز للكتابة كالعادة وضاعف جهوده وأنتج نسخة مختلفة بالكامل. يوضح هوفاس: "كانت اللحظة التي قرر فيها مراجعة النص، مع ذكر تاريخ توقفه عن كتابة الرواية، في شباط 1848، نقطة مفصلية في مسيرته. فتكلم عن نفسه قائلاً: "في هذا التاريخ، توقف النبيل الفرنسي" وكأنه يشير إلى شخص آخر. ثم نقلب الصفحة ونجد ملاحظة صغيرة بين قوسَين: "المنبوذ تابع مساره". إنه أسلوب عبقري لأنه نجح ببضع كلمات في رسم خط فاصل بين الأحداث. بعبارة أخرى، لا تعود أي صفحة من رواية Misérables إلى أول جولة من الكتابة. أحياناً، تتغير كلمة أو فاصلة أو فصل أو حتى الكتاب كله. قد تتغير الأسماء أيضاً، أو تزداد أهمية شخصيات معينة. حصل هذا التحول المفاجئ مثلاً مع شخصية المفتش "جافير" في الرواية. في حالات كثيرة، عبّر الكاتب عن أفكار متنوعة في الجزء الأول وعَكَس وجهات نظر معينة، لكنه لا يعود يتبناها في النسخة الجديدة من القصة، فيضيف مثلاً: "كان الشخص المحافِظ في تلك الحقبة يقول أو يظن..." من دون أن يذكر أنه يعني نفسه.قبل سنوات في "جيرسي"، خلال جلسة لاستحضار الأرواح وسط العائلة، كان هوغو قد غيّر عنوان الرواية من Misères إلى Misérables. يقول هوفاس: "سألَتْه إحدى الأرواح عن موعد انتهائه من كتابة Les Misérables. كان لافتاً أن يظهر العنوان الجديد في النص الذي نملكه للمرة الأولى في هذه المناسبة".



"كان النبيل الفرنسي موقوفاً هنا وبقي قرار النفي ساري المفعول"، مقتطف من نص Misérables لفيكتور هوغو



رهان رابح


وضع فيكتور هوغو اللمسات الأخيرة على نصّه في ذكرى معركة "واترلو"، في شهر حزيران، في ساحات المعارك في بلجيكا، حيث جلب النص معه. وبعد تعديلات متعددة، نشر كتاب Les Misérables في العام 1862 في فرنسا، وفي بلجيكا أيضاً، تحسّباً لأي قرار يصدره الحاكم بمنع الكتاب، ثم نشره سريعاً في عشرة بلدان أخرى. يقول هوفاس: "لقد تابع تصحيح الأقسام اللاحقة من القصة تزامناً مع نشر بدايتها. من الواضح أنه كان عملاً مدهشاً وشاقاً وتخلّلته مصاعب وتنقيحات متكررة. إنه عمل شاق بامتياز"!لكن حين نُشِر Les Misérables، كسب هوغو الرهان بكل وضوح. لم يخضع عمله لأي رقابة وحقق نجاحاً ضخماً.في النهاية، يستنتج هوفاس: "كانت الكتب مكلفة جداً في تلك الحقبة، ولطالما ترافق إنتاج النسخ الشعبية والمصغّرة مع مشاكل واضطرابات كثيرة. نعرف أن العمّال كانوا يتهافتون لشرائه ويقرأونه واحداً تلو الآخر، ونُظّمت أيضاً جلسات مشتركة للقراءة بصوت مرتفع... كان نجاح الكتاب هائلاً لدرجة أن جميع الكتّاب الآخرين اضطروا لتأجيل مواعيد نشر مؤلفاتهم. تمحور الحديث في كل مكان حول هذا الكتاب ونجحت الاستراتيجية التسويقية على نحو مدهش. هذا الكتاب الذي اعتبره هوغو الأهم بالنسبة إليه أنتج أثراً سياسياً كبيراً ومفاجئاً لأنه يذكر فيه جميع قناعاته السياسية".


MISS 3