من حين إلى آخر، يعود ملف بيع الأراضي والعقارات والتعدي على المشاعات إلى الواجهة، ليتزامن راهناً مع إستفحال الأزمة المالية وإنهيار القطاع المصرفي وطرح إمكانية التعويض عن أموال المودعين في المصارف عبر تسييل عقارات الدولة... ما دفع بعض القوى المسيحيّة إلى التحذير من وجود مخطط ممنهج لنقل «المحفظة العقارية» من يدٍ إلى أخرى، تعكس بذلك، تفاقم نفوذ جهات حزبية معينة، ورغبتها في التمدد الجغرافي، أكان عبر التعدّيات المتكررة على الأراضي والمشاعات أو عبر الشراء الممنهج للممتلكات، وليس آخرها قيام رئيس دير مار أنطونيوس نادر نادر ببيع العديد من العقارات العائدة إلى الرهبنة الأنطونية في بلدة الحدت – بعبدا لجهات تردد أنّها تدور في فلك «حزب الله».
ويأتي الحديث عن بيع الرهبنة لبعض ما تملك من أراضٍ وعقارات مبنيّة، على بُعد أسابيع من تحذير بعض نواب بيروت من توجّه أحد المصارف إلى بيع عدد من العقارات التي تعود له قرب ساحة ساسين – الأشرفيّة، إلى جهات «غريبة» عن المنطقة أو مقرّبة من «حزب الله» وفق ما تردد، لتساهم في الموازاة، الضائقة الماليّة التي يمرّ بها اللبنانيون، بتنشيط عمليات البيع الفردية لممتلكاتٍ في بيروت وغيرها من المناطق المصنّفة طائفياً، مسيحيّة، والتي تتم عبر إبرام عقود بيع ممسوحة لدى كاتب العدل، ما يصعّب عمليات كشفها أو الحدّ منها راهناً. وهذا ما يفتح الباب أمام التلاعب في الإستقرار العقاري الذي تفوق مخاطره بأضعاف، الإنهيار المالي والإقتصادي الذي يصيب المجتمع.
وإن كان التعويض عن الخسائر المالية متاحاً ولو بعد حين، فإن تكوين الهوية مرتبط بالأرض التي تشكل ركناً أساسياً للإستقرار، وخسارتها، أي الأرض، ينعكس حكماً على المكونات المجتمعة في الوطن. وهذا ما دفع بعض المتابعين لهذا الملف، إلى التحذير من وجود قرار لنقل المحفظة العقارية في لبنان من يدٍ إلى أخرى، لتعكس بذلك إنتقال النفوذ السياسي من القانون والدستور إلى فريق محدد، إرتبط اسمه بجميع التعديات التي تحصل على الأراضي، من مشاعات بلدة عندقت شمال لبنان، والعاقورة وأراضي الكنيسة في أفقا ولاسا (جرد جبيل)، وصولاً إلى رميش جنوباً، التي رفعت الصوت بدورها قبل أسابيع، بوجه الأعمال المشبوهة والتعديات التي تنفذها جمعية «أخضر بلا حدود» التابعة إلى «حزب الله» في أراضٍ تعود ملكيتها إلى أبناء رميش.
خسائر الدولة والتعويض
أما العامل المستجدّ على التلاعب في الإستقرار العقاري، فهو قول نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب عقب إنتهاء جلسة اللجان المشتركة التي إنعقدت في الخامس من الشهر الجاري لإستكمال دراسة قانون «الكابيتال كونترول»، إن المطلوب خطة متكاملة، من التوازن المالي إلى هيكلة المصارف... رابطاً تحديد خسائر الدولة بما تملك من مرافق وعقارات.
وهذا ما أعاد إلى الواجهة المذكرة التي أصدرها وزير المالية السابق علي حسن خليل في 31/12/2015، ونقل بموجبها ملكية مشاعات جبل لبنان من أهالي القرى إلى الدولة، والطلب عبر المذكرة، من مندوبي دائرة أملاك الدولة أثناء أعمال التحرير والتحديد العقاري للمشاعات عدم تدوين العبارات الخاطئة التي كانت ترد سابقاً (ملك عموم أهالي البلدة، مشاع عموم أهالي البلدة، إلخ..). ما يعني وفق المتابعين، نقل ملكية مشاع البلدة المسجلة باسم أبنائها، على ما تؤكّده مستندات تاريخية بحوزتهم، إلى الدولة اللبنانية، وحرمان أبناء جبل لبنان ملكيتهم للمشاعات التي تمتد من بشري إلى تنورين والعاقورة وبسكنتا والشوف وصولاً إلى جزين.
والجدير ذكره، أنه مع إنشاء الإنتداب الفرنسي السجل العقاري وإعتماد التقنيات الهندسيّة في تحديد المساحة، عمد الفرنسيون بين الأعوام 1923 و1943، إلى مسح ما يقارب الـ50 في المئة من الأراضي، لتعمد بعدها الجمهوريتان الأولى والثانية إلى إستكمال تحديد ما يقارب الـ20 في المئة من الأراضي حتى تاريخه، وتبقى المساحة المتبقية غير محددة وغير ممسوحة وغير مسجلة في الدوائر العقارية. ويتولى مختار المحلّة أو البلدة دور قاضي السجلّ العقاري في تلك القرى، الذي يعمد بدوره إلى إصدار إفادات تسمح لحاملها بالتملك بموجبها، والتقدم من مؤسسات الدولة للحصول على إشتراك الكهرباء والمياه وغيرها من الأمور الإدارية والتنظيمية، وتتحول تلك العقارات بموجب إفادة المختار إلى أملاك بحكم الواقع.
ولدى «المكون الشيعي» قناعة، وفق أحد المتابعين لهذا الملف، بأنّ أعمال المساحة والتحديد وحتى الأحكام العقارية التي صدرت أيام الإنتداب الفرنسي، أمّنت أرجحية عقارية إلى العائلات المقرّبة أو الصديقة لقوى الإنتداب حينها، والتي حالت الظروف المعيشيّة والإمكانات المادية المحدودة للمكون الشيعي على سبيل المثال من تسجيل إعتراضه عليها... ليعمد راهناً، عبر نفوذه السياسي والعسكري الكبير كما الشعبي إلى الدفع بإتجاه إعادة النظر بما آل إليه الواقع العقاري في لبنان، عبر قضم ما تيسّر من أراضٍ إستراتيجية، وشراء العقارات والأراضي التي دفعت الضائقة المادية بأصحابها إلى التخلي عنها، وإنتظار مخطط الحكومة بتسييل العقارات العائدة لها، وشرائها بأبخس الأسعار وسط غياب القرار لدى القوى السياسيّة والحزبية ورجال الأعمال كما «الكنيسة»، للتوقف بجديّة عند المخاطر التي ستنجم عن التلاعب في الإستقرار العقاري والتغيير الديموغرافي والسعي إلى مواجهة هذا المخطط، الذي يتطلب من الكنيسة قبل سواها المحافظة على أملاكها، كما إنشاء شبكة تواصل بين المتمولين واصحاب العقارات المعروضة للبيع قبل فوات الأوان!.
النائب جهاد بقرادوني
في الغضون، أوضح النائب جهاد بقرادوني أنّ النسبة المرتفعة لشراء العقارات في بيروت والأشرفيّة من شأنها أن تؤدي إلى تغيير في ديموغرافية المنطقة، والتي تحصل عبر خطة ممنهجة لتحقيق هذا الأمر، مؤكداً مواكبته لهذا الملف والتواصل مع المقتدرين ورجال الأعمال من أجل حثهم على شراء العقارات المعروضة للبيع، لافتاً إلى صعوبة تعقّب جميع البيوعات الفردية التي تحصل في الغالب عبر جهات ثالثة تبعد الشبهة عن هوية وإنتماء الشاري الحقيقي، مشدداً على أنّ التصدي لهذا الملف يكون عبر القدرة على التدخل وشراء العقارات المعروضة للبيع.
الدكتور فؤاد أبو ناضر
وتوقف الدكتور فؤاد أبو ناضر عند ملف التعديات التي تحصل على جميع الأراضي اللبنانية، مؤكداً أنّ جميع تلك التعديات تحصل على أراضٍ تعود ملكيتها لجهات مسيحيّة، وسط غياب أيّ تعدٍ من المسيحيين على أراضي المسلمين، لافتاً إلى أنّ مواكبة هذا الملف تتم عبر شقين: الأول، إعتماد الأطر القانونية رغم تصدي المعتدين للقوى الأمنية والجهات التي تقوم بإستكمال أعمال المساحة والتحديد وإزالة المخالفات أو الحدّ منها. كما عبر جمعية «نورج» التي تسعى إلى إبقاء المواطنين في قراهم، وإستثمار الأراضي وعدم السماح للغير في التعدي عليها، وذلك من خلال المحافظة على المدارس في القرى، وتأمين الرعاية الصحيّة المطلوبة، وتأمين فرص العمل والإنماء الذي يرتد إيجاباً على القرى المحيطة أيضاً.
وعن مخطط الحكومة في إستخدام المشاعات للتعويض عن أموال المودعين، توقف عند خطورة هذا الأمر الذي وضعه في خانة الجريمة الممنهجة بحق الدولة والناس، مؤكداً أنّ مشاعات جبل لبنان تعود ملكيتها إلى أبناء القرى وليس الدولة، رافضاً في الوقت نفسه تغطية السرقة التي طالت المودعين عبر هكذا مخطط. ورغم توقف أبو ناضر عند تقصير القوى المسيحيّة من مخاطر هذا الملف، دعا إلى إيجاد إطار جامع للمقتدرين ورجال الأعمال من أجل التدخل وشراء العقارات المعروضة للبيع أو إستعادة البعض منها، على غرار ما حصل في كفرفالوس والحدت.
طلال الدويهي
بدوره، إعتبر رئيس «حركة الارض اللبنانية» طلال الدويهي أن هناك عقلاً إستراتيجياً يدير عمليّة تقزيم دور مكوّن أساسي في البلد، أي المسيحيين، من خلال تقزيم حجمهم على الأرض، مشيراً إلى أنّ التعديات التي تحصل على الممتلكات الخاصة والمشاعات تتزايد يوماً بعد آخر ولا تقتصر على إطار جغرافي محدد بل تمتد من الشمال إلى الجنوب والبقاع. وإذ لفت إلى إستغلال جهات معينة لحالة التفكك التي تمّر بها مؤسسات الدولة والوضع المالي الصعب الذي يمرّ به لبنان من أجل مفاقمة التعديات والشراء الممنهج للعقارات، ورفض وضع ما يحصل في خانة الأعمال التجارية والإستثماريّة، مشدداً على أنّها تعبّر عن مخطط وعقل إستراتيجي من أجل تحجيم الدور المسيحي في لبنان، أكان عبر شراء الأراضي التي تعود ملكيتها لهذا المكون، أو السيطرة عليها عبر وضع اليد.
وأشار الدويهي إلى أن غالبيّة القوى المسيحيّة تضع في سلّم أولوياتها الوصول إلى رئاسة الجمهورية، ما يدفعها إلى تقديم التنازلات لمصالح آنية سرعان ما ترتدّ على الوجود المسيحي، بعيداً عن التنبّه من مخاطر التعدي المستمر على الأراضي والتغيير الديموغرافي الحاصل.
وعن دور «الكنيسة» للحدّ من مخاطر هذا الملف، إكتفى بالتشديد على قيامه من موقعه برفع الصوت، داعياً جميع القوى الأخرى إلى القيام من كبوتهم والعمل على حماية التواجد المسيحي في لبنان والمنطقة.