شربل داغر

بين الفيس والكتاب

16 كانون الثاني 2023

02 : 01

أتردد بل أغضب أو أيأس مما تقع عليه أنظاري، ومما لا أجده، في الفيس.

أعرف أن الصورة تجذب أكثر من الكلام...

أعرف أن الفيس ليس كتاباً مفتوحاً، وهو غير الكتاب الذي اعتدتُ، مثل غيري، عليه.

أعرف أن الفيس أوسع من جريدة، من أكثر من جريدة مجتمعة، لكنني كنتُ أتهيب أكثر مواد الجرائد والمجلات.

كنتُ أتهيبها، أي بعضها، فيما ألمح تدوينات الفيس على عجل، عدا أنني ما عدت أصرف له وقتاً متمادياً في الدقائق المتسارعة.

الفيس يشبه المساحات التجارية الكبيرة ("المول" و"السوبر مول") التي تضيع فيها الخطوات بين محلات ومحلات، بين معروضات ومعروضات، لدرجة أنني أصاب بالعمى، مثلما تتعب عيناي بعد زيارة طويلة لمتحف من كبريات المتاحف في العالم.

الفيس ليس متحفاً، وإن يستجمع الكثير. إلا أنه يتحول إلى ميدان شديد التقليدية، حيث التدوينات تتقاطر، وتتلاقى كما لو أنها تتجه إلى عيد عمومي، وهو ما باتت جهات تُنظمه، وتُديره، وتتولى توجيهه: يوم للصداقة، يوم للحب، يوم للأسْود والأبيض...

الحرية، المعطوفة على توسع العروض الشخصية، فوق جدران الفيس، تستبدل جدران البيوت بجدرانٍ غيرها، ومجتمعات بأخرى. كما لو أن الحياة في الفيس أكثر حقيقية من وجودنا الفعلي، فيما أتيقن، في تجارب ملموسة، من أن الجمهور في واقعنا يبدو أشد طاعة مما تَظهر عليه التمردات في الفيس، وأكثر تقليدية مما هي عليه السلوكات والقيم الاجتماعية في مجتمعاتنا.

الفيس خشبة مسرحية، خشبة عرض، وتتجه اكثر إلى أن تصبح خشبة "للفرجة" (كما أستحسن القول نقلاً عن المغاربة). خشبة سريعة، تغلبَ النظرُ فيها على القراءة، حتى إن إدارة الفيس ترسل لي (ولغيري بالطبع) رسائل تشجيعية عن تنامي "اللايكات" في صفحتي، وهي التي تخص صوري المنشورة أكثر من تدويناتي الكتابية.

أذكر أنني ترددتُ طويلاً قبل الدخول إلى عالم الفيس، بحجة أنه عالم وهمي، عالم "خفيف" بالمقارنة مع ما نعيش ونتواصل حوله.

لكنني أخطأت في قراري، إذ وجدتُني "متصلباً" أمام تغييرات، لي أن أقر بها، وأن اتعامل معها، حسبما أشاء.

بل صُدمتُ، بعد انتسابي إلى مجتمع الفيس، بأن إدارته اقترحت علي مبالغ من المال لنشر دعايات في صفحتي، ما لم استجب له.

هذه الدعوات اختفت، راحت تظهر غيرها، مثل اقتراح تشغيل صفحة إضافية لي، وتوسعة "جمهوري" بالتالي.

الفيس لم يعد فسحة راحة، وقتاً مستقطعاً من الوقت. بات له حضوره الأكيد في حياتي، في كتابتي، لدرجة أن قسماً واسعاً مما أكتب، مما سأنشر في كتاب، يتجلى في الفيس بداية.

مع ذلك، أكتب ان الكتاب يبقى وجهتي الأكيدة، "الختامية"، إذا جاز القول. إلا ان الفيس بات يعين وجوداً إلى جنب الوجود، مجتمعاً إلى جانب المجتمع، وسوقَ كتابةٍ وظهورٍ إلى جانب المعارض والمكتبات واللقاءات...

الأكيد لي هو أن الكتابة- الختامية- تبقى ما يحركني، وما استهدفُه منها.

ففي الفيس أنا مكرهٌ احياناً على القيام بما لا انصاع له بالضرورة في حياتي.

الفيس يعيدني إلى اجتماعية تقليدية، أتبرم منها، وأتجنبها. فيما تكون الكتابة عندي للكتاب اوسع قدرة على تفلتي، على التلاعب بما انا عليه، بما اكونه، بما اشتهي وارغب فيه من دون بلوغه بالضرورة...

أكتب لأنني لست عنيفاً في الحياة، بل اريد من الكتابة أن تكون فعلي العنفي فكرياً ورمزياً وانفعالياً... هذا العنف الذي عندي فعلُ وجود، فعلُ كفاح، فعلُ تحققِ حياةٍ اخرى، مزيدة، لما لا اقبله في الحياة، لما استجلبه إلى ميدان ملاكمتي، إلى ميدان تفتح قدراتي، إلى ما أرغبه ولو في أفعال سلبية.

الكتابة تبقى نَفَسي، لا إظهار حضوري وترتيبه كما في الفيس.


MISS 3