جان كلود سعادة

المحاسبة قبل التعافي

24 كانون الثاني 2023

02 : 00

عندما نتحدّث عن الأزمة الحالية وما وصل إليه وضع البلد من إنحطاط وهريان على جميع الصُعُد، نجنح عادةً إلى الحديث عن كارتيل أو عصابة عبثت وفسدت وتسببت بوصولنا جميعاً الى قعر الحفرة. لكن ننسى احياناً أن هذه العصابة لم تأت من كوكب آخر أو رماها علينا ثقب أسود من أعماق الفضاء. فبعد زوال التدخلات الخارجية المباشرة بقي الفساد والمحاصصة في عُهدة عصابة محليّة بَلَدية نعرفها جميعاً، وتعيش بيننا وتنشر ثقافتها النتنة، وإن كنّا نختار أحياناً تجهيل الأسماء والفاعلين.

النهب ثم التدمير المُتعمّد

فالأذى الذي أنزله هذا الكارتيل على لبنان واللبنانيين لم يَقدِر عليه عدوّ قريب أو بعيد. فبعد عقود من المحاصصة والزبائنية التي جمعت على طاولة واحدة ميليشيات السلم الأهلي مع حيتان المال والإحتكارات والمافيات القديمة والجديدة منها، تمّت عملية شفط موارد الدولة وشَل قدراتها ومؤسساتها. وعمليات الإنعاش المتتالية عبر المؤتمرات الدوليّة كانت في الحقيقة عمليات إخفاء للمشكلة وتكبير للحفرة، ومزيد من شراء الوقت لإستمرار النهب وتهريب الثروات إلى الخارج والداخل.

لكن فداحة الجرم لم تردع المجرمين، بل زيّنت لهم أفكاراً أكثر إجراماً ونذالة. فبعد عملية منظّمة لنهب المال العام وتجفيف قدرات الدولة، مدّ الكارتيل يده على مدّخرات أجيال من اللبنانيين، فتم هدرها وتبديدها وتقاسمها وإستعمال دولاراتها الحقيقية لتحويل ثروات المحظيين إلى الخارج. هذه الجريمة المالية المتمادية لم تقم بها عصابة غريبة أو مجموعة من الهاكرز، إنما كانت من تخطيط وتنفيذ مصرف الدولة المركزي والقطاع المصرفي وحماتهم من أهل السياسة والأمن والقضاء والدين والمجتمع.

أكثر من ثلاث سنوات مرّت على إنكشاف الأزمة كانت سِمتها الأساسيّة الوقاحة؛ وقاحة الكارتيل اللامُتناهية في تعميق الأزمة وإدعاء البراءة الكاذبة بينما بؤس الشعب اللبناني أو ما تبقى منه داخل المعتقل الكبير يزداد كل يوم. خلال هذه السنوات الثلاث تم وضع الخطط الحسابيّة من قبل حكومات الكارتيل إيّاه، وتم إفشالها بالإلتفاف عليها من أزلام الكارتيل نفسه. وهنا لسنا في مجال الأسف على أشباه الخطط التي إعتمدت جميعها على حلول حسابية وأغفلت تقديم مبدأ المحاسبة ومصلحة اللبنانيين. أما الإتفاق الأولي الذي تم التوصل اليه على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي، فقد أورد مجموعة من الإصلاحات والخطوات التي يجب على لبنان تنفيذها بهدف الوصول الى الإتفاق النهائي الذي يقال أنه اصبح الطريق الوحيد لعودة لبنان الى الأسواق العالمية. لكن يجب الإشارة هنا ان سِمَة هذا الإتفاق هو الانبطاح المُفرط أمام شروط الصندوق وغياب مصلحة وحقوق الشعب اللبناني بالكامل عن طاولة المفاوضات.

إهتمامات الكارتيل في مكان آخر

على مدى سنوات الأزمة التي قلبت حياة اللبنانيين رأساً على عقب، كان عقل الكارتيل وتركيزه في مكان آخر. فالهَمّ الأول والأخير عند الكارتيل هو أمران مترابطان: إستمرار النهب والإفلات من العقاب. وفي كل المراحل يبقى تركيز الكارتيل على هذين الأمرين؛ فبعدما نهب وسرق أموال المغتربين والمودعين على مدى عقود، رأى في الثروة الموجودة في مياه لبنان فرصة متجددة للتحاصص في النهب، وطبعاً مع الإستمرار في الإفلات من أية محاسبة أو مساءلة. فانتعشت شهيّة أمراء المنظومة وها هم يسعون الى شراء الوقت للمحافظة على مكتسباتهم وإعادة تشغيل آلة شفط الثروات وتوزيعها في ما بينهم، ولو أدّى ذلك إلى خراب البلد بالكامل وضياع أموال اللبنانيين دون رجعة. فالأرجح أنهم الآن يحاولون الإستغناء عن خيار صندوق النقد أو إستعماله مرحلياً لكسب الوقت إلى أن يتمكنوا من وضع اليد على الثروة النفطية وتقاسمها.

المحاسبة هي في أساس الحل

فلا صندوق النقد ولا الثروة النفطيّة، ولا الدعم الخارجي إن أتى، يمكن أن يشكّل الحل السحري للأزمة النقدية والإقتصادية الراهنة. فأي مصدر دعم للإقتصاد اللبناني لا يسبقه تفكيك الكارتيل وتدقيق شامل بالأسباب التي أدّت إلى الإنهيار وتحديد المسؤولين عمّا حصل، تتبعه محاسبة شاملة وعادلة، سيكون عملية تجديد لنشاط المنظومة ولمخطط البونزي وآلة النهب المنظّم في موسم جديد.

فالمحاسبة هي في أساس الحل، لا بل هي شرط للنهوض والتعافي فلا يمكن معالجة المريض قبل إستئصال أسباب المرض.

@JeanClaudeSaade

(*) خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي