جاد طعمة ونجيب فرحات

المرتكز القانوني لقرار البيطار بشأن متابعة السير بالتحقيق

حين نتقدم بهذا الرأي القانوني فإننا نقارب الموضوع من وجهة نظر قانونية لا تأخذ بعين الإعتبار الآراء السياسية ولا المصالح الضيقة لشخصيات حزبية تنبري لأخذ النقاش نحو منزلقات العاطفية تعتمد على إثارة النزاعات والعصبيات الطائفية كذلك فإننا نبتعد عن أسلوب تقديم أوراق الإعتماد لرجال في السلطة أو الأمن عبر تسخير طاقاتنا الفكرية لخدمة ميولهم ورغباتهم.

سننطلق في إبداء وجهة نظرنا القانونية من قرارات صادرة عن أعلى المراجع القضائية في لبنان لننتهي إلى إبداء الرأي القانوني، وهذه القرارات هي:

- قرار المجلس الدستوري رقم 4/2002 تاريخ 15/7/2002.

- قرار المجلس الدستوري رقم 13/2022 تاريخ 17/11/2022.

- قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز رقم 23/1995 تاريخ 18/11/1995.

- قرارات مجلس القضايا لدى مجلس شورى الدولة لا سيّما منها القرارَيْن رقم 14/ 92- 93 تاريخ 19/11/1992 ورقم 346/ 2019 - 2020 تاريخ 6/2/2020.

لماذا نركن إلى قرارات صادرة عن المجلس الدستوري ؟

إن المجلس الدستوري شأنه شأن المحقق العدلي يخضع لنظام إجرائي خاص.

إن المجلس الدستوري شأنه شأن المحقق العدلي لا يمكن إستبدال أعضائه ولا مرجع بديل موازٍ له.

إن المجلس الدستوري شأنه شأن المحقق العدلي لا وجود لنص تشريعي خاص يتعلق بطلبات رد أو تنحي أعضائه.

المجلس الدستوري في قراره رقم 4/2002 تاريخ 15/7/2002 والذي تم التأكيد على مضمونه في قرار المجلس نفسه الصادر حديثاً برقم 13/2022 تاريخ 17/11/2022، كرَّس ما يلي:

- إن طلب رد أي عضو من أعضاء المجلس الدستوري أو تنحيته قد يؤدي إلى عرقلة عمل المجلس أو شل نشاطه.

- أنه لا وجود لهيئة بديلة عن المجلس الدستوري لتقوم بمهامه.

- إن سكوت القانون عن قضية رد الأعضاء أو تنحيتهم لم يكن نقصاً تشريعياً بل هو موقف تشريعي صريح ينطوي على عدم جواز رد أو تنحي أعضاء المجلس الدستوري.

- إن قانون أصول المحاكمات المدنية بنصوصه المتعلقة بطلبات الرد والتنحي هو قانون عام لا تطبق أحكامه في إطار قانون خاص إلا بالقدر الذي يتآلف فيه مع أحكام القانون الأخير، وبالتالي فإن أحكام القانون العام المتعلقة بطلبات التنحي والرد لا تتآلف مع طبيعة عمل المجلس الدستوري.

- إن اختيار أعضاء المجلس يتم بناء لشروط ومؤهلات علمية وأخلاقية وإن شكك بذلك المتضررون.

- أن عضو المجلس الدستوري عوني رمضان قد اشترك في النظر بالمراجعة المطلوب ردّه عنها وفي إصدار القرار المجلس الذي بتّ فيها رقم 13/2022 تاريخ 17/11/2022، ما يعني أن أحكام المادة 125 من قانون أصول المحاكمات المدنية- التي توجِب على القاضي المطلوب ردّه التوقُّف عن النظر في القضية منذ تبلّغه طلب ردّه - لا تسري على أعضاء المجلس الدستوري.

الهيئة العامة لمحكمة التمييز في قرارها رقم 23 تاريخ 18/11/1995 الذي تبنّاه المجلس الدستوري في قراره رقم 4/ 2002 واستند إليه المحقِّق العدلي القاضي طارق البيطار في قراره تاريخ 23/1/2023 لمتابعة السير بالتحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت، تَضَمَّن المبادئ التالية:

- ان دعوى مسؤولية الدولة عن أعمال القضاة هي مراجعة غير عادية تستند إلى نص المادة 630 أ.م.م وهي إستثنائية جداً بالنظر إلى خطورتها إذ تنال من سمعة وكرامة ومصداقية القضاة والقضاء بوجه عام.

- لا يمكن أن يُنحّى رئيس الهيئة العامة أو أعضاؤها أو عدد منهم لمجرَّد أن يُقدِّم صاحب علاقة دعوى مسؤولية الدولة بسبب حكم أصدروه فيشكك بمصداقيتهم وهم في قمة الهرم القضائي وبمصداقية القضاة الذين هم على رأسه.

- لا يجوز طلب رد أحد أعضاء الهيئة العامة لمحكمة التمييز لعدم وجود هيئة قضائية من ذات النوع وذات الدرجة تستطيع البت بهذا الطلب وأن حرمة القضاء لا تسمح بأن يكون حياد أعلى هيئة قضائية موضوع شك وريبة.

- إن الهيئة العامة لمحكمة التمييز تُشكِّل بكامل أعضائها وحدة لا تتجزأ ولا يمكن تنحية رئيسها أو أحد أعضائها لمجرد أن يستدعي أحد ذلك أو يستهدفهم بمراجعة أو دعوى1

- أن الذهاب بخلاف هذا الرأي فيه عرقلة لسير العدالة إذ يصبح بإمكان المدعين طلب رد أحد أو جميع أعضاء الهيئة فيتوقف حينها مسار الدعوى2.

- أن رئيس وأعضاء الهيئة العامة لمحكمة التمييز اشتركوا بالنظر والبت في طلبات ردّ تتناولهم أمامها بناء على المبادئ المُتقدِّمة، ما يدلّ على أنه لا تسري عليهم الأحكام القانونية المُتعلِّقة بالتوقف عن النظر في الدعوى أو عدم القيام بأي من أعمال وظيفتهم يتعلَّق بالمدعي عند تقديم طلبات الرد بحقّهم أو دعاوى مسؤولية الدولة عن أعمالهم المنصوص عليها في المادتين 125 و751 من قانون أصول المحاكمات المدنية.

- أنه لا مرجع أعلى من المجلس العدلي مصّدر الحكم المشكو منه الأمر الذي يتعذر معه تقديم دعوى مسؤولية الدولة نظرا لأهمية القضايا التي تُحال إليه والتي تمس بأمن الدولة وتحتاج إلى سرعة في البت فيها بأحكام قاطعة.

اجتهاد مجلس القضايا لدى مجلس شورى الدولة، وهو أعلى جهة قضائيّة في القضاء الإداري والموازي للهيئة العامة لدى محكمة التمييز في القضاء العدْلي:

- أخذ في قرار مجلس شورى الدولة (مجلس القضايا)، رقم 14/ 92-93، تاريخ 19/11/1992، القاضي يوسف سعد الله الخوري/ الدولة والقاضي جوزف شاوول، والقرارات الوارد ذكرها فيه، بنفس الوجهة التي سارَت عليها الهيئة العامة لمحكمة التمييز مجيزاً اشتراك رئيس وأعضاء مجلس القضايا بالنظر في قضية تم طلب ردّهم عنها تلافياً لشلل الهيئة الحاكمة وعرقلة حسن سير العدالة، لأنه «إذا كانت المبادئ العامة والقوانين المرعية الإجراء حرصت على إفساح المجال أمام كل صاحب علاقة لطلب رد القاضي لسبب من الأسباب التي حدَّدتها، فما ذلك إلا صوناً لحقوقه وضمانة له تجاه الهيئة الحاكمة التي ستنظر في قضيّته. إلا أن ذلك لا يعني أن طلب الرد يمكن أن يتحول من قِبَل صاحب العلاقة إلى وسيلة لعرقلة حسن سير العدالة وتعطيل الهيئة الحاكمة...».

- قضى في قرار مجلس شورى الدولة ( مجلس القضايا)، رقم 346/ 2019 – 2020، تاريخ 6/2/2020 بشأن طلب الردّ ونقل الدعوى المُقدَّم من شركة اسمنت الأرز ش.م.ل، بعدم جواز نقل الدعوى المُحالة أمام مجلس القضايا لعدم وجود مرجع بديل يوازيها، إذ جاء في القرار المذكور ما حرفيّته: «وبما أن نظام مجلس شورى الدولة خلو من أي محكمة توازي في درجتها مجلس القضايا لديه فإن إمكانية تقرير نقل دعوى محالة إليه تكون متعذرة قانوناً...».

بناء على ما ورد سابقاً وعلى سبيل المُقارنة وانطلاقاً من المبادئ الثابتة في القرارات المُبيّنة أعلاه، نجد:

- أن المحقق العدلي يتم تعيينه سندا للمادة 360 من قانون اصول المحاكمات الجزائية بقرار من وزير العدل بموافقة مجلس القضاء الأعلى الذي يركن إلى شروط ذاتية تتعلق بالتاريخ المهني للقاضي المقترح اسمه وتتضمن الأخذ بعين الإعتبار المؤهلات العلمية والسمعة والأخلاق والمصداقية والحيادية وهذه الأمور لا تتغير في حال ارتأى المحقق العدلي خلال مسار تحقيقاته السير بمسار لا يراعي أهواء أحد إلا ضميره.

- أن القرار المتعلق بتعيين المحقق العدلي يعطي القاضي المعّين ضمانات لشخصه كي يمارس مهامه بكل إستقلالية بعيدا عن الخضوع لأي ضغوط تأتيه من جهات سياسية أو قضائية.

- أنه لمن الطبيعي أن يقوم المتضررون بالتشكيك في شخص المحقق العدلي وأن يقوموا بكل الوسائل القانونية بما هو متاح لهم من أجل عرقلة مسار العدالة وبات واضحاً أن هناك سعيّ لإرهاق القضاء بدعاوى مسؤولية الدولة وطلبات الرد لتمكين بعض المطلوبين من الإفلات من العقاب.

- أن القانون الخاص الذي لم ينص على تمكين أي من الخصوم من تقديم طلبات الرد أو دعاوى مسؤولية الدولة اتجاه المحقق العدلي لم يفعل ذلك سهواً أو من دون قصد وبالتالي لا مجال لتطبيق أحكام قانون أصول المحاكمات المدنية وهو قانون عام بما لا يتآلف وطبيعة عمل المحقق العدلي الذي يفترض فيه النظر بالقضايا التي تمس أمن الدولة والتي يحتاج فيها المجتمع إلى سرعة في التحقيق وإصدار قراره الظني، وتتأكد هذه الوجهة بكون المحقق العدلي يخضع في تعيينه لأصول خاصة فلا إمكانية لرده عن الدعوى المحالة امامه او رفع يده عنها لعدم وجود مرجع آخر بديل يوازيه لتُحال الدعوى اليه فيما لو تم قبول طلب الرد او دعوى مسؤولية الدولة.

- أن أحكام وقف النظر في الدعوى من قِبَل القاضي المطلوب ردّه أو وجوب عدم قيامه بأي عمل من أعمال وظيفته اتّجاه المدعي، أو ما يُصطلح على تسميته بـ " كف اليدّ "، المنصوص عليها في المادتين 125 و 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية لا تسري على المحقِّق العدلي في ضوء المبادئ الواردة أعلاه.

- لا يُرَدّ على ما تقدَّم بأن تطبيق أحكام القانون الخاص يحول دون إمكانية تخلّي المحقق العدلي إرادياً عن التحقيق المولَج به وإلزامه بالنظر في ملف رغماً عنه، لأنه يستطيع بكل بساطة أن يطلب من وزير العدل إعفاءه من مهمة المحقق العدلي متى أراد وهو ما تم في حالات سابقة3.

- إن هذا التوجُّه هو الذي تبنّاه عادة المحقِّقِيْن العدليِّيْن الذِيْن كانوا موضع طلبات ردّ أو نقل دعوى، وهو ما يظهر مثلاً من جواب المحقِّق العدلي في قضية جريمة إخفاء الإمام السيّد موسى الصدر ورفيقيه القاضي زاهر حمادة المُقدَّم منه بتاريخ 21/3/2016 أمام محكمة التمييز الجزائيّة، الغرفة السادسة، رداً على طلب نقل الدعوى من يده، إذ جاء في جوابه ما حرفيّته:

«إن المحقق العدلي لا تنطبق عليه الأصول المنصوص عليها في المادة 340 أ.م.ج كونه يخضع في تعيينه لأصول خاصة، فلا وجه لنقل الدعوى المحالة أمامه ورفع يده عنها، لعدم وجود مرجع قضائي آخر يوازيه لتحال إليه الدعوى، ما يوجب رد طلب النقل شكلاً»4.

- إن أي قرار قضائي سابق وارد خلافاً لهذا الرأي يبقى يتيماً ولا يمكن الركون إليه للقول بوجود إجتهاد ثابت ومستقر.

وعليه،

وبغض النظر عن أسباب تأخر المحقق العدلي في إعلان هذا الموقف القانوني في وقت مبكر وهو ما يندرِج على كل حال في إطار سلطته في إدارة ملفّه،

فإن قرار المحقق العدلي يأتي في موقعه القانوني الصحيح لتوافقه مع المبادئ المُكرَّسة في قرارات المجلس الدستوري اللبناني والهيئة العامة لمحكمة التمييز وقرارات مجلس القضايا لدى مجلس شورى الدولة.

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

1 بنفس المعنى قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز رقم 17 تاريخ 20/3/19982


بنفس المعنى قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز تاريخ 16/4/1992.


3 وهو ما حصل مثلاً مع المحقِّقِيْن العدليِّيْن القضاة طربيه رحمه وسهيل عبد الصمد وسميح الحاج في ملف جريمة إخفاء الإمام السيد موسى الصدر ورفيقيه؛ ومع المحقق العدلي القاضي ميشال أبو عراج في ملف جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.


وقائع قرار محكمة التمييز الجزائيّة، الغرفة السادسة، رقم 204/2016، تاريخ 19/أيار/ 2016، بشأن طلب نقل الدعوى المُقدَّم من هانيبال القذّافي/ المحقِّق العدلي زاهر حمادة وعائلة سماحة الإمام السيّد موسى الصدر ورفاقهما؛ وهو القرار الذي جرى إبطاله من قِبَل الهيئة العامة لمحكمة التمييز بقرارها رقم 11/2017 تاريخ 19/1/2017.