عيسى مخلوف

وقفة من باريس

ليوبولد سيدار سنغور صوت "أفريقيا الخالدة"

4 شباط 2023

02 : 00

تحتفي باريس هذا العام بالكاتب والشاعر والسياسي ليوبولد سيدار سنغور (1909-2001)، من خلال معرض كبير عنوانه "سنغور والفنون/ إعادة اكتشاف البُعد العالمي"، يبدأ هذا الشهر في "متحف كي برانلي - جاك شيراك" ويتواصل حتى تشرين الثاني المقبل. يرسم المعرض صورة شاملة لأوّل رئيس للسنغال (1960 - 1980)، من خلال السياسة الثقافيّة التي اعتمدها غداة الاستقلال، ومن خلال إنجازاته في مجال الفنون، إضافة إلى أطروحاته الفكريّة والسياسيّة التي كانت مثار جدل واسع.

يُعَدّ سنغور أحد أبرز الأدباء والمثقّفين الأفارقة في القرن العشرين، وأحد روّاد حركة "الزّنْوَجة"، وهي حركة سياسيّة وأدبيّة - نَحَتَ اسمها الأديب والسياسي المارتينيكي إيمي سيزير – ندّدت بالاستعمار والتمييز العنصري، وتطلّعت إلى مصير أكثر عدلاً للسود وقِيَم عالمهم وحضاراتهم، من دون أن يعني ذلك الانطواء الذاتي واتّباع سياسة الإقصاء، بل، بخلاف ذلك، الانفتاح على الثقافات الأخرى والنّهل منها والتفاعل معها. من هنا، دافع سنغور طوال حياته عن فكرة تأسيس حضارة عالميّة تنطلق من عمل مشترك تساهم فيه الإتنيات والأمم بأفضل ما عندها، وتركّز على الإبداع ليستقيم حوار الحضارات ولا يبقى مجرّد شعار. في هذا السياق، جاء اهتمام سنغور، خصوصاً في فترة حكمه، بالتربية والتعليم، وبناء مدارس ومكتبات، وإيلاء أهمّيّة للفنون الحِرَفيّة التقليديّة، وإنشاء متاحف وصالات للفنون التشكيليّة والمشهديّة، إيماناً منه بدور الثقافة والإبداع في بناء المستقبل.

ومن المعروف أنّ سنغور الذي انتُخبَ عضواً في الأكاديميّة الفرنسيّة، كان على صلة بالحياة الثقافيّة في باريس حيث تلقّى علومه الجامعيّة. كما كان على علاقة وطيدة بعدد كبير من الفنّانين الذين تركوا بصماتهم على المشهد الفنّي في القرن العشرين، ومنهم على سبيل المثال، مارك شاغال، أندريه ماسون، بيار سولاج وزاووكي، وبعض هؤلاء تشارك معه في إنجاز كتُب فنّيّة ضمَّت رسومات إلى جانب نصوصه الشعريّة.

لقد أكّد سنغور أهمّيّة الفنّ الأفريقي وقدرته على أن يكون جسراً بين الثقافات، وهذا ما يسعى إليه متحف "كي برانلي" المخصّص لـِ"لفنون الأولى"، وهاجسه الإضاءة على تاريخها انطلاقاً من أنّ التراث ليس في خدمة تعظيم الهويّات، بل في تشريع الأبواب أمام إنسانيّة مشتركة.

ضمن هذا الأفق، جاء اهتمام روّاد الفنّ الحديث، منذ النصف الأوّل من القرن العشرين، بالفنون الأفريقيّة (منحوتات وأقنعة ونسيج). بيكاسو الذي سحرته تلك الفنون وفتحت أمامه الآفاق، قال في هذا الصدد: "الأقنعة لم تكن منحوتات. من المستحيل أن تكون كذلك. كانت أشياء سحريّة". هذه الأقنعة استلهم منها بيكاسو الكثير من أعماله، ونقلها إلى عالمه الفنّي بأشكال وأساليب مختلفة، وهي تطالعنا في لوحته الشهيرة "آنسات أفينيون" التي أنجزها في العام 1907، وشكّلت محطّة مهمّة في رحلة الحداثة الأوروبيّة، وإن كانت قد أثارت، في ذلك الوقت، حالة من الاستفزاز لاعتبارها ابتعدت كثيراً عن القواعد الأخلاقيّة والجماليّة السائدة آنذاك. تؤكّد هذه اللوحة، بتحويرها الأشكال والمَشاهد، الأثر العميق الذي تركه الفنّ الأفريقي على بيكاسو وعلى عدد كبير من روّاد الفنّ الحديث، وهذا ما ظهر أيضاً من خلال ابتكار المدرسة التكعيبيّة التي قدّمت رؤية جديدة للفنّ التصويري لم تكن معروفة في الغرب من قبل.

جمع ليوبولد سيدار سنغور في حياته بين الماء والنار، بين الشعر والسياسة. ولقد أطلق على إحدى مجموعاته الشعريّة العنوان الآتي: "القرابين السُّود". والقربان، هنا، يستحضر الذبيحة والقيامة معاً. أمّا الذبيحة فتتجسّد في "أجساد السود" الذين تمّت التضحية بهم، ضمن القوّات التي حاربت من أجل فرنسا في الحربين العالميّتين. وهؤلاء الجنود الذين كانوا وقوداً رخيصة في الحرب هم من أصول أفريقيّة. لذلك تلوّنوا جميعهم بأحمر الدم. مجموعة سنغور هذه نشيد يحيي ذكرى الذين ضحّوا بأنفسهم، وضُحِّيَ بهم، من قِبَل القوّة الاستعماريّة. إنّه النشيد الذي يكرّس وجودهم عَبر الكتابة، ويعطي معنى لموتهم: "لا، لم يكن موتكم بلا جدوى/ أنتم شهود أفريقيا الخالدة/ أنتم شهود على العالم الجديد الذي سوف يأتي".


MISS 3