تمهيد
يترّقب المجتمع اللبناني بحذر شديد ما يمكن أن يصدر من توصية عن مجلس القضاء الأعلى بحق المحقق العدلي طارق البيطار يتم رفعها إلى وزير العدل، وذلك بهدف تنفيذ الوعيد بـ "قبع" القاضي العنيد والصلب، الذي لم يراعِ التوصيات ولم يرضخ للتهديدات رافعاً سقف التحدي مع أركان السلطة.
وطالما أن الكل على يقين أن ثمة ما يطبخ في المطابخ السوداء تكريساً لإفلات مجرمين محتملين من العقاب، نتقّدم برأي قانوني يُعالِج ما يتم التداول فيه همساً عن توافر نيّة مُبيَّة لدفع مجلس القضاء الأعلى إلى النيل من المحقق العدلي والعمل على عزله وإعفائه من مهمّته، خاصة بعدما انقلب النائب العام التمييزي على طلب تنحيه المقبول بقرار من محكمة التمييز بهدف تأمين نصاب إنعقاد الجلسات، ومحاولة محاصَرَة رئيس مجلس القضاء الأعلى من قبل بعض الأعضاء داخل المجلس لا سيما أولئك المعّينين بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء انسجاماً مع تطلُّعات ورغبات أهل السلطة.
عبثاً تحاول السلطة حرف الأنظار عن القضية الأساس وهي قضية إنفجار مرفأ بيروت مستغلة بعض أزلامها وأقلامها لإلهاء المجتمع بقضايا ثانوية وملاحقة بعض الناشطين بهدف الترهيب ومن أجل تمرير المخطط المعّد بعناية، ولعله بتنسيق دولي مع سفارات تدخلت من أجل تحقيق مطالب محددة، كل ذلك بمسعى مفضوح لوأد مسار العدالة في قضية إنفجار مرفأ بيروت.
ونكرر أننا من خلال هذا الرأي القانوني ننحاز للنصوص والمبادئ الدستورية والقانونية بعيداً عن التأثر بمحاولات شد العصبيات المناطقية أو الطائفية، فالغطاء الذي يحتاجه المحقق العدلي لمتابعة قضية وطنية هو غطاء قانوني دونما إهمال أهمية أي غطاء آخر قد يستحصل عليه دولياً أو محلياً.
كيف يتم تعيين المحقق العدلي؟
أشارت المادة 355 من قانون أ.م.ج إلى أن الدعوى العامة تحال على المجلس العدلي بناء لمرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء، في حين أن المادة 360 أ.م.ج نصَّت في فقرتها الثانية على أن: « يتولى التحقيق قاض ٍ يُعّينه وزير العدل بناءً على موافقة مجلس القضاء الأعلى».
إذاً من الواضح بحسب احكام المادة 360 أ.م.ج أن المحقق العدلي يتمّ تعيينه بقرار من وزير العدل بموافقة مجلس القضاء الأعلى.
هل نصّ القانون على أحكام خاصة لعزل أو إعفاء المحقق العدلي من مُهمّته؟
من الثابت أن أي نص قانوني، ولا سيّما نص المادة 360 أ.م.ج، لم يُشِر إلى إمكانية عزل المحقِّق العدلي المُعيَّن وفق أحكامها أو إعفائه من مهامه أو تحديد أيّة آلية لتقرير ذلك،
ومن هنا طرَح البعض إمكانية اللجوء إلى مبدأ "موازاة الأصول والصيَغ" (Parallélisme des formes et de procédure ) لعزل المحقِّق العدلي وإعفائه من مهمّته،
فما هو مبدأ موازاة الأصول والصيِغ ؟؟
إن مبدأ "موازاة الأصول والصيَغ" (Parallélisme des formes et de procédure ) هو قاعدة في القانون الإداري مفادها أنه عندما لا يُحدِّد القانون المرجع الصالح للرجوع عن قرار إداري ما، فإنه يكون للمرجع الإداري نفسه مُتّخِذ القرار الإداري صلاحية الرجوع عنه أو الغائه، على أن تُراعى في ذلك الأصول عينها التي جرى التقيُّد بها عند اتّخاذه .
وعملاً بهذا المبدأ جاءَت بعض الأفكار القانونية القائلة بإمكانية عزل وإعفاء المحقِّق العدلي من هذه المهمّة بالآلية والأصول نفسها التي يجري بها تعيينه، والمنصوص عليها في المادة 360 أ.م.ج، أي بقرار من وزير العدل بموافقة مجلس القضاء الأعلى عملاً بمبدأ "موازاة الأصول والصِيَغ".
إلا أنه بالمُقابِل من المعروف أن لكل مبدأ حدوده وشروطه واستثناءاته، ما يُفضي إلى تساؤل لا بد منه،
هل أن لمبدأ "موازاة الأصول والصِيَغ" حدودٌ في ما يتعلَّق بعزل أو إعفاء المحقِّق العدلي من مهمّته؟
إن الجواب على هذا التساؤل لا بدّ أن ينطلِق من كوْن القرار بعزل وإعفاء المحقِّق العدلي من مهمّته ليس تدبيراً إدارياً عادياً وإنما هو تدبير يرمي في حقيقته إلى تنحِية قاضٍ عن النظر في ملف يتولّاه، ما يفرِض النظر في مدى توافقه مع مبادئ دستوريّة وقانونيّة يُمكِن أن تُشكِّل حدوداً لمبدأ "موازاة الأصول والصِيَغ" لا بل تقييداً وتعطيلاً له، ألا وهي:
1- مبدأ عدم جواز الرجوع عن القرارات الإدارية الفردية المُكسِبة للحقوق.
2- مبادئ استقلاليّة القضاء وعدم قابليّة القاضي للعزل.
فما هو أثر هذَيْن المبدأَيْن على إمكانية عزْل أو إعفاء المحقِّق العدلي من مهمّته؟
1- بالنسبة لمبدأ عدم جواز الرجوع عن القرارات الإدارية الفرديّة المُكسِبة للحقوق:
من البديهي القول أن إعفاء وعزل المُحقِّق العدلي من مهمّته يُشكِّل إلغاءً لقرار تعيينه المُتَّخَذ سنداً لأحكام المادة 360 أ.م.ج، ومن الثابت في قواعد القانون الإداري أن الرجوع عن القرار الإداري سواء بمفعول رجعي (الإسترداد أو السحب) أو للمستقبل (الإلغاء) له قواعد وضوابط صارمة لا يمكن الخروج عنها تحت طائلة إبطال القرار المُخالِف.
وقد استقرّ الفقه والإجتهاد الإداريَّيْن على أنه إذا كان يسوغ للإدارة وفقاً للمبادئ العامة القانونية أن ترجع عن عمل إداري فردي مُنشئ للحق لكن من الراهن أن لهذا الرجوع شرطين: أن يكون أولاً العمل الإداري مشوباً لمخالفته القانون وأن يحصل ثانياً الرجوع ضمن مهلة محددة هي مهلة المراجعة أو أثناء مدة المراجعة العالقة أمام القضاء، وأنه يحق للإدارة أن ترجع من تلقاء نفسها عن عمل إداري فردي مُنشئ للحق ومشوب بشائبة ما شرط أن يحصل هذا الرجوع ضمن مهلة المراجعة وإذا انقضَت هذه المهلة ولم ترجع الإدارة عن هذا العمل ولم يكن قد طُعن فيه من قِبَل أحد ضمن المهلة المذكورة امتَنَع عليها الرجوع نهائياً عن عملها لأنه يكون قد تولَّد عنه في مثل هذه الحالة حق مكتسَب .
وأن القرارات المُنشِئة للحق تستفيد عادة من مبدأ عدم قابليّتها للمساس ( Principe d’intangibilité ) وذلك إذا كانت قانونيّة بحيث لا يمكن سحبها وإلا اعتُبر قرار سحبها أو إلغائها مشوب بعيب تجاوز حد السلطة ؛ أما القرارات غير القانونية فتُنشِئ حقوقاً لا يمكن مسّها أو سحبها طالما أن الإدارة لم تستردها ضمن مهلة المراجعة أو خلال سير المحاكمة .
وقد طبَّق الفقه والإجتهاد هذه المبادئ والشروط على إلغاء قرارات تعيين الموظَّفَيْن، فقِيْل أنه : «تَحوْل صعوبات كثيرة دون إلغاء قرار إداري منشئ لحق مكتسب، بحيث لا يمكن إلغاء مثل هذا القرار إلا في الحالات والشروط المحدَّدة بموجب النص، فبالإستناد إلى قانون الوظيفة العامة لا يمكن على سبيل المثال إلغاء تعيين موظف ما إلا وفقاً للإجراءات القانونية المُحدَّدة في النص ( عزل، إحالة على التقاعد، صرف)...»
كما قضى مجلس شورى الدولة بأنه: «يقتضي تحديد ما إذا كان تعيين المدعي صدر موافقاً للقانون فلا يحق عندئذ للسلطة الرجوع عنه إلا وفقاً للأصول المُعيّنة في القانون، أو أنه صدر خلافاً للقانون فلا يجوز لها في هذه الحال الرجوع عنه إلا ضمن مدّة الشهرين المحدَّدة للطعن به » .
كما قضى أيضاً بالنسبة لرجوع إدارة الجمارك عن قرار تعيين مخلص بضائع مرخَّص بما يلي:
«بما أنه على فرض صحة ما تدلي به المستدعى ضدّها من أن القرار رقم 282 تاريخ 9/11/2001 غير مشروع فلا يمكنها استرداده أو إلغاؤه دون التعرُّض للحقوق المُكتسبة إلا ضمن مهلة المراجعة القضائية أو ضمن مهلة الجواب على مراجعة إدارية أو إذا قُدّمت المراجعة القضائيّة طيلة مدّة المحاكمة وحتى صدور الحكم.
وبما أن القرارات الإدارية الفردية المنشئة للحقوق سواء أكانت صحيحة أو معيبة لا يمكن استردادها أو إلغاؤها تحت طائلة الإبطال خارج المهلة القانونية.
وبما أنه بات للمستدعي حق مكتسب لا يحق لإدارة الجمارك الرجوع عنه بعد انقضاء مهلة الشهرين القانونية للرجوع عن القرار الذي مَنَحَه حقوقاً مكتسبة والمنتهية في 23/1/2002 حتى ولو كان القرار مخالِفاً للقانون لعدم جواز مس الحقوق المكتسبة المُشار إليها، بعد صيرورته نهائياً ونافذاً وغير قابل للتغيير في ظل انتفاء النص القانوني الصريح الذي يُجيز مسها» .
واستناداً إلى كل ما تقدَّم،
ونظراً لكون قرار تعيين المحقِّق العدلي هو قرار إداري فردي مُنشئ لحق مُكتسب بهذا التعيين عملاً بما استقرّ عليه الفقه والإجتهاد الإداريين لناحية إعطاء هذه الصفة لقرارات التعيين حتى في ما خصّ مخلِّصِيْ البضائع الجمركيّة، فكيف الحال بقاضٍ مُعيَّن لتولّي التحقيق في جريمة على قدر عالٍ من الخطورة والأهمية وهو ما أملى إحالتها إلى المجلس العدلي؟
وطالما أن تعيين المحقِّق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار تم بقرار من وزير العدل بموافقة مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 19/2/2021 وفق الأصول القانونية المنصوص عليها في المادة 360 أ.م.ج ولم يشُبه أي شائبة أو عيب قانوني، وفي ظلّ انقضاء مهلة الطعن بهذا القرار المنصوص عليها في المادة 69 من نظام مجلس شورى الدولة البالغة شهرَيْن من تاريخ تبليغه إلى المحقق العدلي المُعيَّن دون الطعن به خلال تلك المهلة،
فإنه يكون من غير الجائز بحسب قواعد القانون الإداري المسّ بالحق المُكتسَب الناشئ عن هذا القرار ولا يمكن بحسب هذه القواعد الرجوع عنه إلغاء أو سحباً طالما أن القانون لم يُجِز هذا الأمر، مما يعني أنه لا يجوز عزل أو إعفاء المحقِّق العدلي من مهمّته في ظلّ غياب النص القانوني الذي يُتيح ذلك عملاً بمبدأ عدم جواز الرجوع عن القرارات الفردية المُكسبة للحقوق التي استقرّ عليها الفقه والإجتهاد الإداريَّيْن. لا سيّما أن المشترع الذي حدَّد آلية تعيين المحقِّق العدْلي لم يكن قاصِراً عن تحديد آلية وأصول صريحة لإعفائه من مهامه في ما لو أراد أن يُجيز هذا الأمر وهذا لم يحصُل.
2- بالنسبة لمبادئ استقلالية القضاء وعدم قابليّة القاضي للعزْل:
تنص المادة 20 من الدستور اللبناني على أن: «السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصها ضمن نظام يضعه القانون ويُحفَظ بموجبه للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة أما شروط الضمانة القضائية وحدودها فيُحدِّدها القانون».
أما المادة الأولى من قانون أصول المحاكمات المدنية فتنص على أن: «القضاء سلطة مستقلة تجاه السلطات الأخرى في تحقيق الدعاوى والحكم فيها لا يحد من استقلالها أي قيد لا ينص عليه الدستور».
ومن هذا المنطلق قضى المجلس الدستوري اللبناني في قراره رقم 5/2000 بأن استقلال القضاء، فضلاً عن النص الدستوري الذي يُكرِّسه، يُعتبَر مبدأ من المبادئ ذات القيمة الدستورية ولا يستقيم إذا لم يتأمن استقلال القاضي بتوفير الضمانات اللازمة التي تحقق هذا الإستقلال .
كما قضى المجلس الدستوري اللبناني في قرار رقم 6/2014 بأن أوكل إليه الفصل في نزاع قضائي ينبغي أن يتمتع بالاستقلالية والضمانات اللازمة لهذه الإستقلالية .
ومما لا شَكّ فيه أن أهم هذه الضمانات هي أن ألا ينقل ولا يُعزل ولا يُقال ولا يُنحى قاضٍ عن ملف يتولى النظر فيه إلا في الأحوال التي ينص عليها القانون صراحة، وهو المبدأ الذي تبنّاه قانون القضاء العدلي الصادر بالمرسوم الإشتراعي رقم 150 تاريخ 16/9/1983 وتعديلاته حيث نصّت المادة 44 منه على أن: « القضاة مستقلون في إجراء وظائفهم ولا يمكن نقلهم أو فصلهم عن السلك القضائي إلا وفقاً لأحكام هذا القانون».
وتُعتبَر هذه الضمانة من أهم المبادئ المُعترَف بها دولياً لاستقلاليّة القضاء، وتُعرَف بمبدأ "عدم قابلية القاضي للعزل" é Principe d’innamovibilit وهو ذو وجهَيْن أولّهما الحفاظ على الأمن الوظيفي للقاضي وهو ما يعني ثبات القاضي في الوظيفة القضائية منذ دخولها وثانيهما أوسَع شمولاً ومفاده عدم جواز نقل القاضي من منصبه إلا برضاه أي ثبات القاضي في المنصب الذي يتولّاه ضمن القضاء.
وقد كُرِّس ذلك في مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائيّة، فنصّ المبدأ رقم 12منها على أن: « يتمتع القضاة، سواء أكانوا معينين أو منتخبين، بضمان بقائهم في منصبهم إلى حين بلوغهم سن التقاعد الإلزامية أو انتهاء الفترة المقررة لتوليهم المنصب، حيثما يكون معمولاً بذلك»؛ فيما نصّ المبدأ رقم 18 منها على أنه: « لا يكون القضاة عرضة للإيقاف أو للعزل إلا لدواعي عدم القدرة أو دواعي السلوك التي تجعلهم غير لائقين لأداء مهامهم».
وكذلك نصّت المادة 12 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان ، الذي انضمّ إليه لبنان بالقانون رقم 1 تاريخ 5/9/2008 والمُتمتِّع بالقيمة الدستورية سنداً للفقرة (ب) من مقدّمة الدستور اللبناني ، على أن «جميع الأشخاص متساوون أمام القضاء. وتضْمن الدول الأطراف استقلال القضاء وحماية القضاة من أي تدخل أو ضغوط أو تهديدات. كما تضمن حق التقاضي بدرجاته لكل شخص خاضع لولايتها».
وغني عن القول أنه إذا كان عزل القاضي يشكِّل مساساً بالأمن الوظيفي للقاضي فإن نقله من دون رضاه ولو على سبيل الترقية يُعتَبَر من باب العقوبة المقنعة وفق ما قضى به المجلس الدستوري الفرنسي .
واستناداً إلى كل ذلك،
يتبيَّن بشكل واضح وجليّ أن تطبيق قاعدة "موازاة الأصول والصيَغ" بغية عزل المحقِّق العدلي وإعفائه من مهمّته - بموجب قرار من وزير العدل بموافقة مجلس القضاء الأعلى قياساً على طريقة تعيينه المُحدّدة في المادة 360 أ.م.ج- يتعارض بشكل واضح وفاضح مع ضمانات استقلاليّة القضاء وأهمّها مبدأ عدم قابليّة القاضي للعزل ذي القيمة الدستورية والواجب احترامه بحسب نصوص ومدلول القوانين الداخلية والشرعات الدوليّة، ما يُفضي إلى وجوب تفضيل هذه المبادئ والضمانات لاستقلالية القضاء على قاعدة موازاة الأصول والصيغ بحيث يكون عزل وإعفاء المُحقِّق العدلي من مهمّته دون رضاه ودون أن يُجيز ذلك نص قانوني صريح مُخالِفاً للمبادئ الدولية والدستورية والقانونية الضامنة لاستقلالية القضاء.
وفي ظلّ هذه النتيجة، وأمام النيّة الواضحة بالإنزلاق نحو صدور قرار مخالِف للقانون بعزل وإعفاء المحقِّق العدْلي من مهمّته بموافقة من مجلس القضاء الأعلى، يُطرَح السؤال حول الدور الذي يمكن أن يقوم به رئيس مجلس القضاء الأعلى بمواجهة هذا الواقع.
ما هو الدور الذي يمكن أن يقوم به رئيس مجلس القضاء الأعلى في هذا الميدان ؟
تنصّ المادة 6 من قانون القضاء العدلي الصادر بالمرسوم الإشتراعي رقم 150 تاريخ 16/9/1983 وتعديلاته على ما يلي:
«يجتمع مجلس القضاء الاعلى بناء على دعوة من الرئيس وعند غيابه بناء على دعوة من نائب الرئيس كما يجتمع بناء على طلب اربعة من اعضائه، ويحق لوزير العدل ان يدعو المجلس الى الانعقاد.
وفي حال غياب الرئيس او نائبه يترأس الجلسة أعلى القضاة درجة وفي حال تساوي الدرجة الأقدم عهداً في القضاء وعند التساوي في الأقدمية الأكبر سناً.
تتضمن الدعوة موعد الاجتماع وجدول الأعمال على أن يودَع مبدئياً جدول الأعمال تحت تصرف الأعضاء لدى أمانة سر المجلس قبل 24 ساعة على الأقل من تاريخ الجلسةٌ».
إذاً من الثابت بحسب نصّ المادة 6 أعلاه أن مجلس القضاء الأعلى يجتمع مبدئياً بدعوة من رئيسه الذي يُحدِّد جدول الأعمال ويترأس الجلسات.
ومن البديهيات القوْل أنه لرئيس المجلس السلطة التامّة في إدارة الجلسات وضبط إدارتها وفرْض مراعاة أحكام القوانين والأنظمة فيها بحيث يحرُص على أن لا يحضرها ولا يُشارك في اتّخاذ القرارات فيها من لا يحقّ له ذلك بسبب مانع قانوني أو بسبب تضارُب المصالح، فضلاً عن أن الرئيس وانطلاقاً من سلطته المُبيّنة أعلاه هو الوحيد المخوَّل بعرْض أي بند على التصويت بعد انتهاء النقاش فيه ولو كان وارداً على جدول الأعمال بناء على دعوة للإجتماع من وزير العدل أو نائب رئيس المجلس أو أربعة من أعضائه وفق ما تُجيزه المادة 6 من قانون القضاء العدلي.
ومن هذا المُنطلَق، ومن ناحية أولى، فإنه على رئيس المجلس الحِرْص على عدم السماح باشتراك أي عضو في اجتماعاته واتّخاذ القرارات فيه بشأن ملف انفجار المرفأ إذا كان له مصلحة خاصّة في هذا الملف أو إذا كانت تنطبِق عليه إحدى حالات تضارب المصالح بهذا الشأن أو إذا كان هناك مانع قانوني يحول دون حضوره، وهو ما ينطبَق حالياً على عضوَين من أعضاء المجلس هما:
- النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، وهو نائب رئيس مجلس القضاء الأعلى، والذي كان قد تنحّى عن ملف انفجار مرفأ بيروت وقُبِل تنحيّه بقرار الغرفة العاشرة لمحكمة التمييز تاريخ 29/12/2020 لوجود صلة قرابة مانعة بينه وبين أحد المدعى عليهم في الملف المذكور، فضلاً عن كونه هو نفسه أحد المدعى عليهم في ذلك الملف، إضافة إلى أنّه اتَّخَذ في الملف العديد من الإجراءات المريبة دون أي سند قانوني والتي يمكن أن تكون موضع نظر أمام مجلس القضاء الأعلى، وبالتالي لا يجوز له حضور جلسات المجلس أو الإشتراك فيها لهذه الأسباب مُجتمعة.
- عضو المجلس القاضي حبيب مزهر، كونه توجَد بحقّه دعوى مسؤولية دعوى عن أعمال القضاة مُقدَّمة أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز من قِبَل بعض المدعين في ملف التحقيق العدلي بانفجار مرفأ بيروت وعن أعمال تتعلَّق بهذا الملف وهي مسجلّة برقم 48/2021 تاريخ 19/11/2021، ما يحول قانوناً دون قيامه بأي عمل من أعمال وظيفته فيما يخصّ ملف انفجار المرفأ سنداً للمادة 751 أ.م.م ، كما أنه توجَد شكاوى مسلكيّة بحقّه أمام مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي عن أعمال قام بها تتعلَّق بملف التحقيق العدلي في انفجار المرفأ، وقد ثبُت اتّخاذه قرارات لا يملك حقّ إصدارها بهدف عرقلة التحقيق في هذا الملف وفق ما أكّده قرار محكمة الإستئناف المدنية في بيروت رقم 67 تاريخ 7/12/2021، وكل ذلك يحوْل قانوناً دون حضور العضو المذكور لأعمال مجلس القضاء الأعلى بشأن ملف انفجار المرفأ أو الإشتراك في اتّخاذ أي من قراراته بهذا الخصوص.
ومن ناحية أخرى، يقع في صلب سلطة رئيس مجلس القضاء الأعلى أن لا يطرح على التصويت في المجلس أمراً مخالِفاً للقانون كعزل أو إعفاء المحقِّق العدلي وفق ما فصّلناه أعلاه.
الخاتمة
إن ما يحصل في ملف التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت يستدعي الإلتفاف الوطني حول المحقق العدلي القاضي القاضي طارق بيطار بعد أن برَزَت إلى العلن وفي دائرة الشبهات أسماء من الصف الأول داخل السلطة و الإدارة وسواء أكان الجرم المنسوب إلى هؤلاء نتيجة فعل قصدي أم نتجت عن قصد إحتمالي أو إهمال، فإن المشتبه به يكون توصيفه القانوني "مدعى عليه في جريمة" والإختلاف يكون في وصف جريمته بالجنائية أم الجنحية على ضوء معطيات الملف والأدلة المتوافرة.
لا يُرَدْ على ذلك، أنه كان حرّياً بالمحقق العدلي استعمال مقاربة أخرى في مسار تحقيقاته أو تكتيكاً مختلفاً، كون هذا الأمر خاضعاً لسلطته التقديريّة الممنوحة له قانوناً، وحين يصدر القرار الإتهامي حينها فقط يمكننا جميعاً، وعلى ضوء البيان والحجة، تقييم صحة أو عدم صحة المسار المُعتمد من قبل المحقِّق العدلي، فلا أحد يعلم اليوم ما هي المعطيات المتوافرة لديه والمبسوطة أمامه في ملف تحقيقاته السرّية.
وليس الآن وقت البحث في مدى جدوى ودستورية وجود المجلس العدلي وأصول التحقيق والمحاكمة لديه، ولا وقت الإنتحاب على وجود قضاء إستثنائي يحقِّق ويحاكِم على درجة واحدة، فالمجلس العدلي نَظَر في العديد من القضايا ولم تكن أي من الأصوات التي تعلو تتفّوه بموقف مباشر، فإذ بالبعض ينبري لطرح هذه الإشكالية القانونية، التي لا تقّدم ولا تأخر، حين طالت الشبهات رجالات من السلطة.
إن أي حديث اليوم عن إقالة أو عزل المحقق العدلي عملاً بمبدأ "موازاة الأصول والصيغ" فيه ضرب للقانون وتحديداً لقواعد القانون الإداري المُستقَرّ عليها فقهاً واجتهاداً ولمبادئ استقلالية السلطة القضائية، وأهمّها مبدأ عدم قابليّة القاضي للعزل، التي هي بحمى الدستور اللبناني والإتفاقات الدولية التي صادق عليها لبنان كذلك المبادئ الأساسية للأمم المتحدة المرتبطة بإستقلالية السلطة القضائية.