ماري قصيفي

هل تصمد المارونيّة بلا لبنان؟

8 شباط 2020

02 : 00

يبدو مصطلح "المارونيّة السياسيّة" في عصر ما بعد العولمة والعلمنة والذكاء الاصطناعيّ والروبوت وغزو الفضاء والأمراض المتنقّلة القاتلة كأنّه من مخلّفات عصر غابر، لولا أنّه عالق في يوميّات الوطن، يستعاد عندما يعجز أكثر اللبنانيّين عن إيجاد أسباب لمشكلاتهم التي لا تنتهي.

ولكن هل يمكن الحديث بعدُ عن مارونيّة سياسيّة، في زمنٍ تكثر فيه المخاوف على المارونيّة نفسها: كطائفة تضعف روحانيّتها كلّما ابتعدت عن لبنان، وروحانيّة يخفّ وهج نسكها كلّما ابتعدت عن وادي القدّيسين في قنّوبين؟

لعلّ الموارنة اليوم مدعوون إلى مراجعة نقديّة ذاتيّة لهذه "المارونيّة السياسيّة"، فيدرسون أسباب نشأتها، ومن يقف خلف التسمية نفسها، ومَن طرح أفكارها وربط الدين بالسياسة على عكس ما دعا إليه المسيح، ومن استفاد منها أكان من الموارنة أو من سواهم، وإن كان الموارنة وحدة متجانسة كي تكون "سياستهم" موحّدة يمكن الحكم عليها. فقد نجد في الأجوبة عن هذه التساؤلات ما يلقي الأضواء الكاشفة على المارونيّة في مراحل أساسيّة ثلاث من تاريخ لبنان: قبل الحرب حين كان لهم الدور الأساس في تكوين لبنان الكبير، وفي خلالها حين دفعوا أثماناً باهظة من أجل بقائهم فيه أحراراً، وبعدها حين دافعوا عن المارونيّة "السياسيّة" وأهملوا المارونيّة الروحيّة والفكريّة والثقافيّة والعلميّة والفنيّة. وقد نرى عند ذاك الهبوط الحادّ في مسيرتهم الدينيّة والحضاريّة والوطنيّة على الرغم من آلاف الشهداء والمخطوفين والمعوّقين والمهجّرين والمهاجرين.

يتخوّف الناس عادة من تغيّر هويّة لبنان إن غابت عنه المارونيّة، لكن السؤال الذي لا يقلّ أهميّة هو عن مصير الموارنة بلا لبنان. وهل حين يتوزّعون في العالم سيبقون محافظين، جيلاً بعد جيل، على هويّتهم، أم سيذوبون في المجتمعات التي لجأوا إليها؟ الموارنة يتباهون دائماً بقدرتهم على التأقلم مع أيّ حضارة والتجذّر في أيّ أرض، وكأنّ سعيد عقل يشير إليهم مباشرة حين يقول: "ونبني أنّى نشأ لبنانا". وهذا ما يؤكّده الواقع الذي يثبت يوماً بعد يوم تخلّيهم عن لغتهم وتقاليدهم وروحانيّتهم، ما يجعل الخوف على وجودهم في مدى ليس ببعيد أمراً منطقيّاً لا مبالغة فيه. فهل يبقى لبنان، مع ارتفاع هجرة الموارنة منه، مجرّد مركز حجّ يقصده موارنة الانتشار كما يقصد المسلمون مكّة، أو الكاثوليك الفاتيكان؟ وإلى متى يدوم ذلك في محيط غير مسيحيّ، مع التذكير بأنّ المجمع المارونيّ المنعقد عام 2006 أقرّ بأنّ "الكنيسة لا تسعى إلى لبننة المنتشرين"، وهذا ما لم يفعله الأرمن مثلًا.

لذلك فإن كان لا بدّ من الحديث عن "سياسة" الموارنة – لا عن المارونيّة السياسيّة – فلا بدّ من الاعتراف بجملة أخطاء تطال الطائفة في جوهر وجودها أوّلاً، وفي دوريها الوطنيّ والقوميّ ثانياً: منها تهميش دور اللغة في تحديد الهوية، والتخلّي عن الأرض والعمل فيها، والنأي بالنفس عن فلسطين كأنّها ليست مهد المسيحيّة، والترفّع عن وظائف الدولة ورفض الانضمام إلى الجيش والقوى الأمنيّة، وتمجيد الاغتراب واعتباره من طبيعة الحياة اللبنانيّة، والتمسّك بفكرة لبنان البوّابة لا لبنان البيت، والتعامل مع الثقافة كوسيلة تفوّق لا غاية معرفيّة، والهوس باللغات كوسائل تواصل للعمل لا للعلم، وإهمال الريف والجبل والأطراف، والانبهار بكلّ جديد في غياب حسّ نقديّ واعٍ (بدءاً من روما وفرنسا، مروراً بالأميركيتَين، وصولاً إلى دبي).

في كلّ الأحوال، وبعيداً عمّا يمكن اعتباره جلداً للذات وتنكّراً لإنجازات، من المجحف الحديث عن "حالة" مارونيّة واحدة في ظلّ توزّع الموارنة بين فقراء وأغنياء، متمدّنين وفلّاحين، إقطاعيّين ومزارعين، مقيمين ومغتربين، متعلّمين وأميّين، إكليروس وعلمانيّين، فضلًا عن انقساماتهم السياسيّة الكثيرة والحادّة. لكنّ هذه الانقسامات بقيت جمراً تحت رماد الخوف على المصير إلى أن جاءت انتفاضة 17 تشرين الأوّل التي، وإن لم يشارك فيها الموارنة كما يجب، فضحت الشرخ الكبير في طائفة توحّدها عجائب القديس شربل وتشرذمها عظات البطريرك. فحين يظهر هذا العدد الكبير من الفقراء والمرضى، ينتبه الموارنة إلى ثراء رعاتهم الروحيّين، وحين يعلن جيل الشباب المنتفض أنّ ديانة رئيس الدولة لم تعد تعنيه في غياب أدنى مقوّمات العيش، يعاين أبناء مارون ويوحنا مارون "نجاح" الإكليروس في تلميع صورة العلمانيّة وتشويه وجه الكنيسة، وحين تتصحّر الأرض التي طالب البطريرك الياس الحويك بضمّها إلى جبل لبنان كي لا تتكرّر مآسي المجاعة الكبرى، يلتفت إخوة شربل ورفقا والحرديني وإسطفانوس والدويهي إلى زعمائهم وهم يتساءلون: أهؤلاء موارنة وأولئك موارنة؟

اليوم، وبعد مئة عام على المجاعة الأولى وولادة لبنان الكبير، وعلى عتبة المجاعة الثانية وما يرافقها من أمراض وهجرة، صار لا بدّ من ثورة مارونيّة لبنانيّة تحاسب مرتكبي الفضائح الماليّة والجنسيّة، وتفرز صحيحها من فبركاتها، فتطرد الباعة من الهيكل، وتعطي ما لقيصر لقيصر، وتعيد ربط المجد بالنسك، والصلاة بالطبيعة، وتذكّر الإكليروس بأنّ العلم لم يعد محصوراً بهم كما كان في الماضي البعيد، وأنّهم خارج لبنان ليسوا من أصحاب المقامات. وإلّا فلن يبقى لبنان الكبير كبيراً، ولن يكون مجده من ممتلكات بكركي، وستكون المارونيّة - إن خسرت لبنان - كطائفة "المورمون" في أميركا أو كسواها من الطوائف والكنائس الطفرات: حركة دينيّة من خارج المكان والزمان.

نعم، صار لا بدّ من ثورة على بكركي والمطرانيّات والرهبانيّات التي تملك ثلث الأراضي اللبنانيّة، وهذا أمر يُسجّل للفاتيكان التي منعتهم من بيعها، في حين يسجّل على قادة الموارنة الروحيّين إبقاء أكثرها هشيماً يسهل على نيران الإهمال أن تأكله، ولن تجد علمانيّاً مارونيّاً يهرع لإخمادها.

(*) كاتبة


MISS 3