توفيق شومان

المحبوبة والملعونة

8 شباط 2020

02 : 00

ميشال شيحا

كان يمكن للموارنة اللبنانيين، أن يكونوا أكثر مفاخرة بالذات، في الذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير، لو أن الموارنة الحاليين، كانوا خلفاء نجباء للموارنة الأوائل، الذين أحدثوا واستحدثوا الدولة الأكثر حداثة في عموم الشرق الأوسط الكبير.

فاتحة كهذه، قد لا تلقى رحابة صدر ولا سعة قلب، لا من موارنة اليوم، ولا من الطوائف الأخرى التي ما فتئ مثقفون فيها يجادلون في "المارونية التأسيسية " لدولة لبنان، باعتبارها شرخاً عن المدى العربي أوعيباً مطلقاً رافق عملية الإنتقال من " المارونية التأسيسية " إلى " المارونية السياسية " التي تمثلت بالنظام السياسي والإقتصادي والثقافي الذي عرفه لبنان حتى عام 1975.

ثمة فكرة ذائعة الصيت للمدير العام الأسبق لوزارة الأشغال العامة إبراهيم عبد العال بعنوان "الماء والكهرباء في لبنان" صادرة في العام 1950، وهذه الفكرة هي في واقعها دراسة أنجزها المهندس حنا الشدياق واستهلها بإهداء تشوبه عاطفة جياشة قال فيه: "إليك يا اخي اوجه هذه الدراسة لأكشف لك عن ثروة بلادك المائية والكهربائية الضائعة في الوديان والمجاري"، وواقع حال الدراسة ينطوي على تفاصيل مذهلة لطرق توسيع الأراضي الزارعية وريها، والإستفادة من الأنهار اللبنانية ومتساقطات الأمطار، وتوليد الكهرباء وبناء السدود وتحديد أماكنها وأغراض فوائدها، مما يجعل لبنان طليعياً في مجالات استغلال طاقاته وثرواته الطبيعية.

أغلب الظن، لم يعقب دراسة حنا الشدياق المعروفة بـ "مشروع ابراهيم عبد العال" دراسة تضاهيها نوعية وأهمية.

هذه فكرة ثانية:

وهي عبارة عن تقريرعلمي ـ عملي صادرعن "غرفة تجارة بيروت" في عام 1953، يتناول بنى الإقتصاد اللبناني وآفاقه، مستنداً إلى لغة الأرقام بواقعها آنذاك وتوقعاتها المستقبلية المبشرة بنمو متراكم، قطف لبنان ثماره الفعلية بعد سنوات.

من يحدثنا اليوم بلغة رقمية وغير دفترية عن واقع الإقتصاد اللبناني فلا يخادع ولا يراوغ ولا يخاتل ولا يدلس؟

من يتفضل اليوم بمصارحة اللبنانيين عن سوء حالتهم المالية والإقتصادية، فيضع خططاً غيرغشاشة تنقذهم من اضطراب البال والأحوال؟

الإجابة مؤلمة.

كأن الذين سعوا إلى بناء دولة رحلوا أو اضمحلوا.

أو أنهم جفوا أو نضبوا.

أو أنهم عقموا ولم يخلفوا ورثة.

كان ميشال شيحا يردد ويقول:

" سنملك حتى الكمال مقاليد اللغة العربية، ولكننا لن نضحي بشيء من أية لغة أخرى، ومصلحة العالم العربي كله، أن نقرأ لأجله جميع الكتب، وأن نستوعب لأجله جميع المعارف".

هذه هي الفكرة الثالثة، فكرة أن يكون لبنان "صلة وصل" بين الشرق والغرب كما كان يرغب فيلسوف "المارونية السياسية " ميشال شيحا، وهي فكرة مأخوذة على الأرجح من استبحاره في تاريخ فينيقيا التي شكلت جسر تواصل معرفي واقتصادي بين أقطاب العالم القديم، فتعارف الإغريق من خلال فينيقيا على الفراعنة، وتعارفت شعوب بلاد ما بين النهرين من خلال الفينيقيين على المصريين واليونانيين، بثقافاتهم ومنتوجاتهم كلها، على ما يقول كبير مؤرخي القرن العشرين ول ديورانت، وعلى ما يزامله في الرؤية عينها مؤرخ كبير آخر هو أرنولد توينبي، فيما يرى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو أن الأبجدية اليونانية هي حرفة الفينيقيين لا دالة لغيرهم سبيلاً إليها او براءة اختراع.

ما المقصود من ذلك؟

لنعد إلى الحروف الفينيقية ونشرها شرقاً وغرباً.

ولنعد أيضاً إلى ما قاله ميشال شيحا عن الكتب والمعارف والعالم العربي.

يغدو المقصود أن يكون احد أدوار لبنان، معرفياً، في نظرية "صلة الوصل" بين العرب والعالم الحديث.

عملياً هذا ما كانه لبنان حتى عام 1975، حيث شكلت المطابع اللبنانية مصانع أفكار العرب ووسيلة نقل معارف الغرب إلى الشرق، والناظر إلى الكتب الصادرة في العالم العربي أثناء تلك الفترة، سيستقر عند المقارنة، على قناعة مفادها أن مصر دون غيرها، كانت قادرة على منافسة لبنان تأليفاً وطباعة ونشراً.

في المجال المعرفي أيضاً،لا يمكن فصل الصحافة اللبنانية في مرحلة ما قبل الحرب المشؤومة عن "صلة الوصل" الشيحية ـ الفينيقية، إذ بقدر ما كانت تلك الصحافة لبنانية الإنتماء، فقد كانت أيضاً عربية الفضاء أو الهواء، ومن خلالها بات لبنان لسان العرب وصوتهم ومرآة لنزاعاتهم أو تفاهماتهم.

وهناك أيضاً "صلة الوصل" الإقتصادية، وهي فينيقية بامتياز.

ليس من قبيل الصدفة، أن يتحول لبنان إلى "مصرف العرب" في مرحلة عزه وسطوع نجمه، فحين كان من يفكر في جعل لبنان حاضرة الشرق، استجمع عقله فاستجلب المال العربي وغير العربي لإدارته في المصارف اللبنانية، ولما حلت كوارث التأميم الإشتراكي في الأقطار العربية، ثمة من فكر أيضاً في إيواء الأموال الهاربة في الملاذ اللبناني، فاستفاد وأفاد مستفيداً من نعمة المقولة الصينية الشهيرة: اجعل من كل ازمة فرصة.

هل قطاعنا المصرفي الآن على ما كان عليه من زمان؟

غدا أضحوكة بعدما كان نموذجاً ورائداً.

وغدونا معه "أضحوكات" عابرة للقارات لا يضجرها الآخرون حين يروننا شحاذين ومتسولين على أبواب المصارف.

قد يكون مفيداً ان نعود إلى الماضي قليلاً، وكيف كنا "ضحكة" وتحولنا "أضحوكة":

في الستينات وعلى سبيل المقارنة بين لبنان والصين (مرة أخرى بين لبنان والصين) قضى ملايين الصينيين جوعاً.

كوريا الجنوبية، ما كانت في ذاكرة العالم إلا ذاكرة موت وجثث وحرب ضروس بينها وبين شقيقتها الشيوعية كوريا الشمالية، وقعت وقائعها في خمسينات القرن العشرين.

تركيا كانت نكتة سخيفة.

لبنان وحده أمام ثلاثية مجتمعة تضم الصين وكوريا الجنوبية وتركيا، كان في الأعالي والعلالي.

ذاك الوجه الإيجابي لـ"المارونية السياسية".

أين وجهها السلبي ؟

لم تدرك "المارونية السياسية" أبعاد الرؤية الإصلاحية للرئيس فؤاد شهاب القائمة على توزيع أكثر عدالة للثروة كقاعدة لا بد منها لتعزيز الرابطة الوطنية وتثبيت الإنحياز للدولة والهوية اللبنانية، فنازعته وخاصمته وأسقطت نهجه في الإنتخابات النيابية عام1968، وأنهته في الإنتخابات الرئاسية عام 1970.

ولم تجدد "المارونية السياسية" مفهمومها للمواطنة وعما طرأت عليها من تحولات بين لحظة إعلان دولة لبنان الكبير ولحظة استقلاله ولحظة ما بعد الإستقلال، فبقيت أقرب إلى "احتكار" مفهوم المواطنة وتجييره في مؤسسات الدولة وفي عوالم الإقتصاد والمال، ومن دون النظر إلى الوعي الجديد الذي طرأ لدى الأجيال الجديدة من الأطراف الأخرى، ذاك الوعي الذي كانت معادلته تقول: أن تكون مواطناً يعني ان تكون متساوياً.

لم تحدث المساواة.

وقعت النزاعات ثم وقعت الحرب، ثم "دبت" صراعات الإقليم دبيبها في الميدان اللبناني، وسرعان ما بات لبنان "ساحات حروب" عالمية.

أبدعت "المارونية السياسية " في بناء لبنان.

وأخفقت في تطوير دولة لبنان.

لا تتحمل وحدها أوزار الإخفاق.

الآخرون لم يقصروا.

والسؤال: ماذا بعد؟

مشكلة "المارونية السياسية" أنها بلا أبناء.

مشكلة الموارنة اليوم انهم لا يعرفون ماذا يريدون.

ومشكلة الآخرين من الطوائف الأخرى، انهم يعرفون ماذا لا يريدون، ولا يعرفون ماذا يريدون.

هي مشكلة لبنان التائه.

هي مشكلة اللبنانيين في زمن التيه، حيث "يتفلسفون" كثيراً وليس بينهم فيلسوف واحد.

عشتم وعاش ولبنان

MISS 3