وائل خير

الزمن الماروني

8 شباط 2020

02 : 00

الرئيس بشارة الخوري
"المارونية السياسية" اصطلاح شاع منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي قبيل الحرب اللبنانية ثم انكفأ استعماله إثر انزواء الموارنة وتقلّص منزلتهم السياسية. ليس في المعنى القاموسي لاصطلاح "المارونية السياسية" مهانة اذ يشير الى مواصفات الموارنة في فترة رفعة مكانتهم في لبنان. غير ان المعنى الاصطلاحي كان غير ذلك. من صاغ الاصطلاح هم اليسار والقوى الفلسطينية والاصوليون. ارادوا به الاساءة الى سمعة الموارنة بغية اقصائهم عن الحكم بأن ينسبوا اليهم الفساد والعمالة للأجنبي.

لكن ما مدى صحة اتهام الحكم الماروني بالفساد والتبعية للقوى الخارجية وتفضيل مصالحه على مصلحة الوطن.

بدا لنا ان المائة سنة الاخيرة من تاريخ لبنان يمكن ان تقسّم الى حقبات أربع يمتاز كل منها بخصائص انفرد بها. هناك اولا فترة الانتداب الفرنسي (1920-1943) حيث وضع الفرنسيون اسس نظام لبنان السياسي - حدوده، شكل الحكم، مصدر السلطة، السلطات الثلاث واستقلال كل منها عن الاخرى، حقوق المواطن وحرياته وضمانتها، حق التفكير والتعبير والحريات الدينية.

الحقبة الثانية تعارفنا على تسميتها بالحقبة المارونية (1943 – 1975) أعقبتها فترة احتضار استمرت اربع عشر سنة انتهت بمؤتمر الطائف 1989 ومقرراته التي افتتحت ما اصطلحنا علية بالفترة السنيّة التي استمرت حتى 2005 لتعقبها الفترة الشيعيّة وهي سمة زمننا الحاضر.

لا بد من توضيح ان نسبة كل فترة الى مجموعة دينية لا تعني استئثار ذاك المذهب بالحكم. جميع المذاهب ساهمت بمقادير تفاوتت مع الزمن. لكن القرار النهائي والحاسم في كل فترة هو ذاك الذي يعود الى المذهب الديني الذي وسم تلك الحقبة. فالفترة المارونية هي التي كان القرار النهائي فيها للبنية السياسية المارونية وهي محل بحثنا.

تعاقب على المقام الاول ما بين 1943 و1975 خمسة رؤساء: بشارة الخوري، كميل شمعون، فؤاد شهاب، شارل حلو وسليمان فرنجية. اما فترة الاضطرابات فبدأت في نهاية عهد فرنجية لتستغرق عهود الياس سركيس، بشير الجمّيل، وامين الجميّل.

اقام الرئيسان الخوري وشمعون اسس الدولة التقليدية فيما نقلها الرئيس شهاب الى مصاف الدولة الاكثر حداثة بمؤسساتها الاجتماعية والانمائية.

على مستوى اطلالة لبنان على المجتمع الدولي، كان عصر الرئيسين الاولين ذروة انجاز كل حقبات لبنان اذ لم يقتصر دور لبنان على الاشتراك في تأسيس هيئة الامم المتحدة والجامعة العربية، بل لعب ممثلوه دورا يفوق حجم لبنان المادي في بعض اهم وثائقها وبالتحديد الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي اقرّ في العام 1948.

لعب لبنان في عهد الرئيس شمعون دورا بارزا في الشؤون العربية اذ شدّته أواصر صداقة الى الكثير من الرؤساء العرب. لكن، لاكتمال الصورة، لا بد من الاشارة الى ثغرة كبرى في علاقته مع أهمهم الرئيس جمال عبد الناصر، ما قوّض السنة الاخيرة من عهده واضرمت اضطرابات العام 1958. لكن عهد الرئيس شهاب وقمة جديدة يابوس، اعادت الامور الى نصابها.

النظام المصرفي الذي وضع اسسه ميشال شيحا في عهد بشارة الخوري وطوّر عبر سياسيين ومصرفيين موارنة ومسيحيين في الخمسينات والستينات، جذب رؤوس الاموال العربية التي فرّت من اجراءات مالية واقتصادية غير مدروسة فرضتها الانظمة الانقلابية العربية. كما استطاعت في السبعينات جذب بعض مداخيل الدول البترولية الى لبنان ومصارفه.

متخرجو الجامعات، خصوصاً في حقول الهندسة، نجحوا في انشاء شركات مقاولات كبرى نشطت في الدول العربية وكانت لها مساهماتها في اطار البناء السفلي في الكثير منها الى جانب صروح وابنية اصابت شهرة.

عرف لبنان في فترة الخمسينات في عهد الرئيس شمعون، ازدهارا اقتصاديا تختلف المراجع في تعيين نسبة نموه السنوي. استطاع الحكم في لبنان الافادة من الفوضى وتخبّط القرارات الاقتصادية وعشوائيتها التي شرعتها الانظمة العسكرية في دول الجوار. سهّل عهد الرئيس شمعون لهذه الرساميل دخول لبنان وهيأ لها سبل الاستثمار الصناعي والتجاري في لبنان.

ما من دليل على الانجازات المالية للفترة المارونية ابلغ من مسألة احتياطي الذهب الذي بلغ 285 طنا. تم تسديد ثمن ذاك الكم الكبير من مداخيل دولة صغيرة الحجم محدودة عدد السكان لا ثراء طبيعياً لها. تمّ توفير الاموال عن طريق ضرائب لم ترهق كاهل احد بل حسن تحديدها وجبايتها والاحتفاظ بها.

كانت القاهرة قبل ثورة يوليو 1952 مركز الصحافة في العالم العربي من دون منازع. غير ان التضييق على الحريات اجبر الصحافيين على الانتقال الى دولة عربية تحترم حقوق التفكير والتعبير والكتابة والنشر. وجدت طلبها في بيروت حيث لا تزال تمارس عملها في عاصمة لبنان.

الى جانب الصحافة لا بد من ذكر دور النشر. بيروت لا تزال الاولى في حقل نشر الكتب باللغة العربية ويعود سبق بيروت الى تلك الفترة بحيث شاع بين العرب مقولة "مصر تكتب، لبنان ينشر والعراق يقرأ".

من المفيد ذكر دور على قدر من الاهمية كان من نتاج تلك الفترة. انه مهرجانات بعلبك تلك الرافعة الحضارية يعود الفضل فيها للبنانية الاولى، زلفا شمعون، التي وضعت لبنان على لائحة المهرجانات العالمية واطلقت دوراً بارزاً في تطوير ألوان الموسيقى اللبنانية بحيث فاقت كل ما كان قبلها.

لكن لم تستطع الفترة المارونية الصمود طويلا في وجه التطورات الاقليمية ما ادى الى انطواء تلك الصفحة بسبب انتقال الثورة الفلسطينية الى الاراضي اللبنانبة وافادتها من هشاشة البنية السياسية اللبنانية.ابدأت الحرب بين مكونات لبنان وانتهت بحرب اهلية مارونية.

لكن ما هي اسباب هذا التألق الماروني؟ هل هو لأسباب ذاتية او هو مستمد من الخارج؟ ام ربما الامران معا؟

السبب الخارجي الواضح هو انتماء الموارنة الى القيم الحضارية الغربية من حكم القانون، الحريات العامة، حقوق الانسان.

ما كانت الحقبة المارونية مثاليّة بل كان لها نصيبها من الاخفاقات. غير انها بالمقارنة مع الحقبات اللاحقة بدت اكثر اشراقا اذ حققت انجازات في حقول مختلفة، كما ان الفساد الذي عم الحقبات اللاحقة كان نصيب الحقبة المارونية منها متواضعاً. حسبنا ان نستعرض الاوضاع المالية لرؤساء لبنان في تلك الحقبة:

ترك بشارة لخوري الحكم بعد 9 سنوات في الرئاسة. ما يظهر من ثروته كانت فيلا متواضعة في الكسليك اشترتها جامعة الروح القدس بعد وفاته وضمّتها الى الجامعة. لم تجد في البناء ما يوجب الحفاظ عليه فتم جرفه وبنت الجامعة عليه مرأب سيارات للطلاب.

قال لي في نهاية الثمانينات المحامي انطوان برتو الخوري: "انا من قام بحصر ارث الرئيس شمعون. كل ما ترك لا يتعدّى سيارتين اميركيتين قديمتين وعقارا في السعديات لا قيمة له سوى ثمن العقار بعد حسم كلفة ازالة ركام بيته الذي فجّره الثوار والفلسطينيون. كان الرئيس يحتفظ بمبلغ 700 الف ليرة لبنانية نصحه احد اصدقائه من آل جابر ان يحوّل المبلغ الى الدولار فمات عن 130 الف دولار اميركيا".

الرئيس شهاب لم يترك ثروة تذكر ومؤخرا ذكرت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مؤثر عن الوحدة والاوضاع المزرية التي توفيت فيها من كانت يوما سيدة لبنان الاولى.

على بعد بضعة مئات الامتار الى الجنوب من منزل بشارة الخوري في الكسليك تقوم فيلا شارل الحلو. بناء اعرفه جيدا اذ طوال 6 اشهر في العام 1982 كنا نعقد اجتماعات اسبوعية برئاسته. كنا ندخل البناء عبر حديقة مهملة اذ لا اعتقد ان ثمة من يعنى بها. طوال تلك الفترة كانت الضيافة تقوم بها نينا طراد، ربة المنزل شخصيا، اذ ليس في ذاكرتي صورة خادمة تولّت العناية بنا.

لكن، كي لا تكون الصورة التي رسمناها عن الموارنة مثالية تجانب الواقع، يجدر بي ذكر محاكمة انطون سعاده العام 1949 التي تمت خلال ساعات من التحقيق والاتهام والمرافعة فالحكم بالاعدام ثم تنفيذه. تلك صفحة قاتمة في تاريخ القضاء اللبناني لم تمر من دون امتعاض علني من قبل اثنين من ثلاثة في قمة الهرم القضائي. من الصفحات القاتمة ايضا المكتب الثاني واستشراء انتهاكاته لمعارضي الرئيس شهاب. غير ان اعتراضات قيادات مارونية وفي العلن على التجاوزات تحتسب لمصلحة البنية السياسية المارونية اذ القيادات السياسية لمعظم الطوائف الاخرى افادت ودعمت اجراءات تلك المؤسسة الامنية. علي ان اختم بالاشارة الى امرين آمل ان يوفق الموارنة الى معالجتهما. الاول بعض نزق واستعلاء، ان استثنينا بعض المثقفين الجديين في صفوفهم، يكاد يشمل الجميع. انها ميغالومانيا لا تخطئها العين. المنزلق الآخر، ما لم يتجنبه الموارنة، اخشى ان يكون فيه سقوطهم واضمحلالهم. انه التفسّخ والشخصانية وروح الأثرة في قياداتهم. التفسخ صفة شائعة في جميع مكوّنات لبنان، لكنه يبقى في اطار السيطرة خلافا لما هو عليه عند الموارنة حيث لا تبدو ضوابط له.

ما هي خياراتنا ونحن نقف على منعطف حاسم. لا سبيل للرجوع الى التفوق الديموغرافي او المالي او الاقتصادي او الاداري العناصر التي عملت لمصلحة المسيحيين عند انشاء دولة لبنان الكبير. كما ان التفوّق النوعي للمسيحيين على انكماش مستمر. خياراتنا تنحصر باثنين: اما الاستمرار على هذا المنزلق بحيث نصبح كأي اقلية مسيحيية في دولة اسلامية، او ان نفكّر جديا باستبدال نظام الحكم بدولة فدرالية. هل من بديل ثالث؟ لا أظن.

(*) مدير تنفيذي لمؤسسة حقوق الإنسان

والحق الإنساني ـ لبنان


MISS 3