د. ميشال الشماعي

زَمَنُ الأوَّل تَحَوَّلَ

8 شباط 2023

02 : 00

ما زال بعضهم حتّى السّاعة يُصِرُّ على التّعامل مع اللبنانيّين لكأنّ جيش البعث يجول ويصول في شوارع العاصمة بيروت. وروّاد هذه الأفكار هم الذين توارثوا تكتيكات النّظام الأمني اللبناني- السوري المشترَك. وتقودهم «منظمة حزب الله» التي عاهدت المنظومة بتسيير فسادها. فنشأ تحالف المافيا والميليشيا منذ ذلك السابع من أيّار 2008. واعتبروه يوماً مجيداً. واستمرّوا بتعطيلهم النّظام، حتّى تمكّنوا من السيطرة على الدّولة العميقة فيه، باستثناء بعض الحصون التي بقيت عصيّة على جبروتهم.

ربّما نسي الممانعون أنّ الاحتلال دُحِرَ في 26 نيسان من العام 2005، وما بقي منه بعض الفلول التي سرعان ما ستتساقط كأوراق الخريف. تناسى هؤلاء أيضاً الكلمة الفصل التي قالها النّاس في 15 أيّار 2022 يوم عرّوهم من أكثريّتهم النيابيّة. لذلك فلولهم اليوم يعطّلونها. والمسيحيّون أيقنوا حقيقة مَن باعهم بثلاثين تحت ذريعة تحصيل الحقوق. واكتشفوا جميعهم أنّ هذه الحقوق ما كانت إلا المكتسبات العائليّة والتيّاريّة الضيّقة، ولم تكن يوماً حقوق المسيحيّين.

أمّا دوليّاً فما كان في الماضي الاحتلالي لم يعد موجوداً. فدول العالم لا تستطيع أن تفوّض أمر لبنان لمنظمة مصنّفة إرهابيّة من حكوماتها. حتّى لو قدّمت هذه المنظمة صفقات ترسيم الحدود كلّها. فلا بدّ من إطلاق استراتيجيّة جديدة قوامها اللبنانيّون أنفسهم. ولا يبدو أنّ الاجتماع الخماسي الذي انعقد الاثنين في باريس سيشكّل أكثر من توصية بأن يعتمد اللبنانيّون على أنفسهم. وذلك كلّه لإيمان الغرب الدّائم بمبدأ حقّ الشعوب بتقرير مصيرها الذي أطلقه الرئيس روزفلت بعد الحرب العالميّة الثانية.إضافة إلى انشغالات الغرب بتأمين مصالحه الخاصّة. وفي هذا السياق بالذات، لا يبدو مندفعاً للتوصّل إلى حلّ في قضيّة تفجير مرفأ بيروت. والخشية أن تقوده هذه المصالح إلى الدّفع نحو تسوية على حساب هذه القضيّة؛ لكن حتّى الساعة يبدو ذلك مستبعداً، لا سيّما بعد تورّط المشغِّل الإقليمي لـ»منظمة حزب الله»، أي «نظام الملالي»، بحرب المسيّرات في أوكرانيا. ولعلّ هذا ما قد يستثمَرُ إيجاباً في الدّفع الأوروبي لفرض حلحلة في الملفّ اللبناني.

لكنّ ذلك كلّه يبقى مُستبعَداً إن لم يقل اللبنانيّون كلمتهم. فلا الزيارات الفرديّة لبعضهم إلى الكونغرس الأميركي ستنفع، ولا التسويات التي قد يقدّمها محور الممانعة ستفي بالغرض المطلوب. وذلك لأنّ المطلوب واحد. وهو الدّفع نحو اتّخاذ القرار الجمهوريّ الصائب أوّلاً لإنهاء الشغور الرّئاسي. ولا يعتقدنَّ أحد أنّ الدّفع نحو انتخاب المرشّح سليمان فرنجيّة من باب الإغراء بزعامة مسيحيّة لإقصاء النائب جبران باسيل وفريقه السياسي بالساحة المسيحيّة قد يغرّ الفريق المسيحي الأكثري، أي «القوّات اللبنانيّة». وذلك لأنّ هذا الفريق بالذات، تختلف مقاربته للأزمة الرئاسيّة عن هؤلاء كلّهم. فهو يقاربها من الزاوية الوطنيّة السياديّة لا من الزاوية الطائفيّة المناطقيّة.

إنّ طبيعة هذه الأزمة اليوم ليست مسيحيّة - مسيحيّة ليُصَارَ إلى دعوة الفرقاء المسيحيّين لأيّ اجتماع. وفي هذا الصدد، مباركة مساعي بكركي كلّها. لكن المفترض أن تكون الدّعوة لحثّ اللبنانيّين كلّهم، وليس المسيحيّين وحسب، لأنّ التعطيل الممَارَس راهناً، ليس من طبيعة مسيحيّة فقط، بل هو من طبيعة لبنانيّة. من هنا، تبرز الدّعوة الصحيحة والحقيقيّة التي يجب أن تكون من طبيعة لبنانيّة. وذلك في المكان الصحيح، أي في المجلس النيابي حصراً. وأيّ دعوات للحوار الثنائي أو الجماعي لن تؤتي بأيّ نتيجة، لأنّ أجنداتها معروفة. وهنا بيت القصيد.

فالوضع الذي نعيشه حاليّاً، من حيث مسألة تطبيق النّظام اللبناني، هو الأنسب للفريق الممانع. وبالتحديد لـ»منظمة حزب الله» ومنظومتها. فما تسيطر عليه باسم الميثاقيّة والثنائيّة وحقوق الطائفة هو حتماً لها، وما هو حقّ لغيرها من المكوّنات الحضاريّة اللبنانيّة تعطِّلُه مستخدمَةً بعض النفوس الرّخيصة التي تحاضرنا بضرورة أن نكون ذمّيّين عندها لنعيش في لبنان. وهذا بالطبع ما نرفضه؛ لأنّنا قومٌ فُطِرنَا على الحرّيّة، وهي جوهر فعل وجودنا الكياني، وسبيلنا لتفاعلنا الحرّ في عيشنا كِيانيّتنا مع اللبنانيّين كلّهم في صلب الكيانيّة اللبنانيّة التي لا نؤمن إلا بها. وذلك لا يُترجَمَ إلا في نظامٍ سياسيٍّ منطَلَقُهُ الأوّلي اللامركزيّة الموسّعة. ولن نقبل بأقلّ من ذلك بعد انتخاب الرئيس. ولعلّ هذا ما يرعبهم.

زمن الأوّل تحوّل، وعلى محور الممانعة أن يدرك جيّداً بأن لا عودة إلى الماضي. والتاريخ لن يرجع إلى الوراء. ولن يتمّ التسليم برئيس ممانِع، لأنّه سيأخذ الدّولة بالكامل إلى حضن الممانعة. ولا حتّى برئيس رمادي، لأنّه سيشكّل امتداداً لما نعيشه. ولن يكون للبنان إلا رئيس سياديّ إنقاذيّ. والمواجهة مفتوحة على مصراعيها حتّى الوصول إلى لبنان الجديد.


MISS 3