جيمي الزاخم

السيناريو لوحةٌ ترسمها ريشةُ موهبة وعلم و...؟

11 شباط 2023

02 : 00

"في البدء كان السيناريو"... فملكُنا صاحبُ المقال والمقام اليوم، وباعتراف كبار المخرجين والعاملين في مجال صناعة الأفلام والمسلسلات هو المِدماك. كاتبه ممتهنٌ مهنةَ الخلق: خلق الشخصيات بأبعادها النفسية والاجتماعية... خلق الأمكنة... يبني، يُميت ويُحيي. قد يظنّ ناظرٌ من الخارج إلى هذه المهنة أنّها مهنة الشهرة، المال الوفير، والعلاقات العامّة. مهنة تُوصل إلى red carpet وآلاف المتابعين على مواقع التواصل. لكن من يمتهنها أو يقترب منها أو يتابعها عن بعد، يُدرك أنّ مهنة "الخلق" (إذا وُجد) هي لعبة نار. فأنت كسيناريست أشبه بإله يبني"ع أساس الحيطان الصلبة، ع العتبة بتساند عتبة": مشهد يساند مشهداً. تتجنّب الوقوع في حفر درامية قد تصبح مقابر فنّية. هذه المهنة الشاقّة المرهقة لممتهنها عن حقّ واستحقاق، هي ناتجة عن موهبة أو عن علم؟ ولأيّ منهما تميل الدفّة؟ وهل يكفيان لتكون "كاتب سيناريو"؟

ملاحظة: صديقي القارئ: ربّما يبدو المقال طويلاً نسبيّاً. قد تكون مُحقاً في عصر السرعة التي تجنح صوب التسرّع. لكنّ هذا الموضوع الإشكالي المُتشعّب يصلح لأطروحات بحثيّة. حاولتُ أن أصحبك بزيارة خاطفة ومبسّطة إلى عالم السيناريو. إذا كنت مهتماً في هذا المجال، سنتعرّف ولو بنسبة 1% إلى أساسيات هذه الخلطة. أما مقاديرها فتختلف من كاتبٍ إلى آخر. وإذا لم تكن مهتماً، قد تغتني بآراء وتجارب العاملين في هذا المجال.

في الميزان: أيّهما أثقل؟ الموهبة أو العلم؟

منذ 2500 سنة، ولّد أرسطو الهيكل الأساسي المسرحيّ لهذه "الحرفة" في كتابه "فن الشعر"، ومذّاك عُدّل ما عُدّل وكان ما كان وما سيكون في كتابة السيناريو.

"بالدراما ما بتلحق قلمك، بالدراما قلمك بدو يلحقك. بدك تلحق قلمك: روح أكتب شعر". هذا ما يقوله الكاتب مروان نجار لـ"نداء الوطن". ولكي يلحق بنا القلم، ينصح نجّار بالاطلاع على التطوير القائم على تحسين أخطاء الآخرين انطلاقاً من حقبة أرسطو وصولاً إلى اليوم، مروراً بالكاتب وأستاذ السيناريو الأميركي "سيدني فيلد" (أو "سد فيلد") الذي طبّق ما وضعه أرسطو على السيناريو مسقطاً مكتسبات المسرح على فنّ الكتابة السينمائية.

يستشهد صاحـــب بيت "من أحلى بيوت راس بيروت" بالسينمائي الكنديّ جيمس كاميرون -الذي"ما في أهم منّو ببناء سيناريو مبكّل متميّز بديناميكية الشكل" (من أعماله - Avatar- the Terminator titanic-...)- عندما يقول: "لا أستطيع أن أعلّمك صناعة طاولة مميّزة، لكنّني أرشدك إلى ما تحتاج لصناعتها". فيُشهر نجّار إيمانه بِ"نعمة" موهبة حرسها وحرثها، لكنّها غير كافية: فالموهوب "المتكئ على أفكار بنات حدس وإلهام مُستمَدّين من متابعاته وقراءاته، لا ضمانة له".

الرأي الشخصي للكاتب بلال شحادات في هذه الثنائية "الإشكالية" أنّ الإثنين يتكاملان. ولكنّه وبثقة يقول: "الموهبة "number one" ويستكمل بالحماس نفسه أنّ الموهوب المتعلّم ينتج إبداعاً "مجنوناً". أمّا المتعلّم غير الموهوب يكون "إنتاجه ناشفاً".

هذا ما يصرّ عليه أيضاً المخرج سمير حبشي، رئيس قسم التلفزيون والسينما في كلية الفنون الجميلة والعمارة- الفرع الثاني. فكتابة السيناريو مهنة يحترفها الكاتب من أسس قد يتعلّمها في الجامعة أو خارجها. أما الأهمّ فهي الموهبة المتشبّعة بالتجربة الشخصية، ليأتي العلم ويؤطّر شكل المضمون.

الكاتب ابن تجربته

هذه التجرية الشخصية - التي شدّد عليها مخرج "لونا" و"باب إدريس" و"دخان بلا نار" وغيرها من المسلسلات والأفلام- تكوّنها البيئة العائلية والعلمية والإجتماعية التي تملأ حياة الكاتب بانفعالات تدعم الموهبة (لا مجال للدخول في نقاش ما هي الموهبة وما معاييرها؟). وتُطلق قدرته الاستثنائية باستعداد فطريّ غير عاديّ. فيكون الكاتب أو المبدع - حسب بيكاسو- عبارة عن وعاء ممتلئ بالانفعالات تأتيه من كل المواقع، ويعلن عنها بأشكال متعدّدة ليخفّف ازدحام الرؤى في عقله.

إستعداد مروان نجّار الفطريّ بدأ بالتشبّع في بداية المرحلة الثانوية قاصداً ساحة البرج ليستأجر مسرحيات من محلات "هيثم نحاس". لهفة أبي "مريانا" وصلت إلى خشبة الجامعة الأميركية في بيروت: قدّم مسرحيات مع زملائه في ختام سنواته المدرسيّة نتيجة اتفاقية بينها وبين مدرسته "إنترناشيونال كولدج"، وبعدها كتلميذ جامعيّ متخصّص بعلم المراهقة في قسم علم النفس التربويّ. وسّع رؤيته ومعارفه من أساتذته كَـ"خليل حاوي، أنطون غطاس كرم، إحسان عباس وشارل مالك... وآخرين أجانب".

يؤكد بلال شحادات كاتب "شتي يا بيروت" في حديثه لِـ"نداء الوطن" أن القراءة وشوَشَتْه وقادته نحو الكتابة. دخل قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي في الفنون المسرحية في دمشق. هنا، اختبر نفسه وموهبتَه ليتأكّد ما إذا كانت موجودة وصالحة: "عم تشتغل ساعات وساعات وما بتحسّ ع حالك:هيدا دليل إنّك بتحبّ اللي عم تعملو. واللي حولك عم يقلّك عم تقدّم شي حلو. يعني إنّك موهوب". موهبة دُعّمت بأساتذة - يستذكرهم شحادات بلائحة طويلة- وجّهوه ونصحوه كدليل ثقافي فنيّ خلال دراسته في المعهد، الذي عاد ليدخله كأستاذ لفترات متقطّعة: عاد طالباً أمام طلّابه ليراكم خبرته المعرفيّة الأكاديميّة.



"إنّ لك شيئاً في هذا العالم، فقُمْ"

"إنّ الكثير من الموهوبين فاشلون" هذا ما يقوله سد فيلد (أتينا على ذكره سابقاً). فمن مُنح موهبة وصقلها بعلمه أو ثقافته لا يمكنه أن يجلسها على أريكةٍ ويجلس قبالتها، وينتظر الفرج من باب المنزل، كمن ينتظر الكهرباء "24 ع 24". عليه أن يبحث عن المفتاح أو أحياناً أن يخلق الباب.

باب الشاشة الرسمية لبلد مأزوم، أُغلق في البدايات في وجه مروان نجار لكتابة السيناريو. عمل في الصحافة المكتوبة سبعة أعوام. وجد نفسه هو"غير الطائفيّ" أمام بلاد تصنّف أبناءها في منتصف السبعينيّات، وفق معطيات طائفية لا مبدئيّة: "كنت عم إتعذّب كتير" رغم الحرية المطلقة خلال عمله في مجلة "الدستور". لهفة نجار وحلمه بالفنّ آن لهما أن ينطلقا. "فرصة لم تكن في البال" (عنوان أحد فصول كتابه "حكايتي مع الشاشة:هشاشة أم بشاشة؟"، الصادر عن دار سائر المشرق -2019) أتته عن طريق الخطأ بدلاً من الوزير نهاد المشنوق زميله حينها في المجلة وجاره في الفندق. طُلب منه الاستفسار في المنطقة عن مصير أحد المفقودين، نسيب الممثلة هند أبي اللمع. استفسر وحمل الجواب في زيارة أولى لمنزل هند وزوجها المخرج أنطوان ريمي. في تلك الجلسة، تحدّثت هند عن رغبتها في تحويل رواية سويسرية إلى مسلسل. حلمٌ طلبته من كاتب سيناريو منذ ثلاث سنوات، وكانت ما زالت تنتظر. ليلتَها، لاذ مروان نجار بالصمت. خرج مروان كصحافيّ من بيت آل ريمي. وبعد ثمانية أسابيع عاد إليه ككاتب سيناريو المسلسل الشهير"ديالا" (لا يزال يحتفظ ببقايا من السيناريو بخطّ يده). ومذّاك وقبل، كاتب كلمات شارة "زينة ونحّول" وغيرها من الرسوم المتحركة، كتب أبجديّته الخاصة من ألف البداية إلى ياء يومه الحاليّ في مجال الكتابة للشاشة، المسرح، الإعداد، التعليم الجامعيّ وعالم الإعلانات.

قبل دخوله مجال الكتابة للشاشة، كان لبلال شحادات باع في الصحافة المكتوبة الثقافية، إضافة إلى عمله المسرحيّ كدرامالوجيّ. أستاذ + مسرحيّ + صحافيّ: معادلة مثاليّة لمسار تلقائي نحو عالم كتابة المسلسلات. لكنّه يشدّد أنها ليست معادلة سهلة، فالصعوبات كانت بالمرصاد. لكنّ الصبر والتصميم أساسيان ليصنع الحالم معادلته الخاصّة المرجوّة: الفرصة قد لا تأتي بسهولة حتى لو "النصّ قوي ولافت". ممنوعٌ أن يتراجع الكاتب وعليه المحاولة باستمرار. سنة 2010، كانت تجربته الأولى كمشارك في كتابة مسلسل "بعد السقوط" (يصفه بِـ"الجديد" على صعيد تقنيّة السيناريو). المسلسل أخرجه سامر برقاوي، ومن بطلاته أمل عرفة التي شاركها كتابة مسلسله الثاني "رفّة عين". البرقاوي صوّب عينه صوب شحادات وتعاونا مع الكاتبة نادين جابر في مسلسل "لو"، أولى تجارب الدراما المشتركة لبلال ولشركة الصبّاح أيضاً، وصولاً إلى مسلسلات كـَ "2020، لا حكم عليه، شتي يا بيروت، من إلى" (تشارك كتابةَ بعضها مع كاتبات). تجربةٌ يعتزّ بها شحادات خوّلته ترجمة أفكار شغلته، بدعم ومساندة لمى الصبّاح.

الكاتب ابن بيئته المتغيّرة

الكاتب ليس فقط ابن تجربته الشخصية. لا تستطيع أن تعزل رأسك وقلمك عن العالم، وتُخرج منهما سيناريو يمسّ إحساس المتلقّي ومنطقه. فالكاتب عليه أن يبقى "طازجاً" ليكون ابن بيئته وعصره. وهذا ما يشدّد عليه الثلاثي نجار- حبشي - شحادات. يعتبرون الكاتب ورشة مستمرّة للتجدّد بمتابعةٍ يوميّة لقراءات ومشاهدات وأرشفة في كل المجالات. يشدّدون على أنّ الكاتب الناجح هو موسوعة بعلم النفس-التربية- الاجتماع، الطبّ، إلخ. فيكون على استعداد دائم ليستحضر من هذه المعارف عندما يحتاجها في صياغة أحداث النصّ وحياكة شخصياته.

إختصاص كتابة السيناريو في الجامعات اللبنانيّة

في السنوات الأخيرة، راجت ورشات تعليم كتابة السيناريو، مع انتشار كبير لفيديوات "أونلاين" تسرد لغير المتخصّصين تقنيّات هذه الكتابة. في لبنان، كيف تتعاطى الجامعات مع هذا الفنّ؟

المخرج سمير حبشي وبصفته رئيس قسم التلفزيون والسينما يوضح ألّا تخصص في كتابة السيناريو في كلية الفنون الجميلة والعمارة – الجامعة اللبنانية. هي تُعطى كمادّة أساسية خلال سنوات الدراسة. ويجزم أن التلميذ يكتسب المهارة في تقنية السيناريوات، فيكتب عدداً من السيناريوات خلال سنوات دراساته بإشراف أساتذته. قاصدو المعهد يدخلون إليه بعد انتقائهم بدقّة لتركيبتهم الفنية ورؤيتهم الثقافية. ويغادره الشغوف محترفاً إذا أراد خوض تجربة الكتابة.

وللسنة الثانية، تفتح الجامعة اليسوعية أبوابها للراغبين بالتخصص في كتابة السيناريو، من خلال دبلوم لمدّة سنة واحدة. رئيسة قسم اللغة العربية وآدابها الدكتورة ندى معوض وصاحبة فكرة دبلوم "كتابة السيناريو باللغة العربية" تعتبر أنّ الإقبال جيدٌ جداً من حاملي شهادات عليا، من شعراء أو روائيين يصقلون موهبتهم بالتقنيّة من خلال ورشات تدريبية مع كتّاب. إضافةً إلى مواد أخرى تُطلق موهبة بعض التلاميذ في أفكار لسيناريوات وكتابة حلقات، تسعى معوّض لتتبنّاها المنصات أو شركات الإنتاج. فكرة الدبلوم أتت لتوسّع خيارات التلاميذ عبر مجالات الكتابة الإبداعية باللغة العربية، بعد تراجع كبير في عدد المُسجّلين في الأدب العربي (لامس أحياناً الصفر) في كل الجامعات اللبنانية. فأتى اقتراحها بعد تواصلها مع أصحاب المحطات التلفزيونية وشركات الإنتاج الذين أجمعوا أن الأزمة الأكبر على صعيد الدراما العربيّة هي أزمة نصوص.

إذاً، الأزمة في الدراما هي "أزمة نصّ"؟

بالنسبة لسمير حبشي، الأزمة هي أزمة تُسبّبها بعض شركات تنتج مسلسلات مستوحاة من أعمال أجنبيّة. فتتحكّم طلبات "السوق"بإبداع الكاتب.

مروان نجّار "المبتعد والغيران ع المصلحة، مش من حدا" يوافق أن قرار الموزّع قد يحجّم الرؤية عند الكاتب الذي يعاني من تحديات وصعوبات "أنا شخصيّاً مررتُ بها". ولكنّه يؤكّد "إنّو في نصوص حلوة".

أما بالنسبة لبلال شحادات هي أزمةٌ بوجوه متعدّدة: من النص، إلى الكاتب الذي قد يُظلم ماديّاً فينكفئ، وصولاً إلى كل الجهات المشاركة بالعملية. ويعتبر أنه "طالما هناك إبداع، هناك أزمات". لا يتخوّف منها ولا تمنع الاستمرار.

يقول المخرج الألماني Wim Wender إنّ الكلمات هي صاحبة القرار في ما إذا كان يحقّ للصورة السينمائية أن تولد. هذا المقال كان دليلاً صغيراً لعالم هذه الكلمات، كلمات الحكايا التي تُصنع للضوء: يبقى بعضها في الضوء وفي الذاكرة. وبعضها الآخر وُلد في العتمة وفيها انتحر...

الحلقة انتهت...

تمّت!


MISS 3