عبده جميل غصوب

قانونية استئناف التحقيق من قبل المحقق العدلي بجريمة تفجير المرفأ في ظل طلبات الرد المتكررة

شهدنا في الآونة الاخيرة، نقاشاً قانونياً حول مدى قانونية استئناف التحقيق من قبل المحقق العدلي القاضي طارق البيطار في ظل طلبات الرد المتكررة.


هذه المسألة يجب مقاربتها ليس من قبيل التفسير الحرفي للنصوص القانونية التي تلزم القاضي بالتوقف عن متابعة الدعوى لحين البت بطلب الرد، بل من قبيل وضع طلبات الرد في اطارها القانوني، وتالياً منحها التوصيف القانوني الصحيح.


هذه الطلبات، بعد ان تجاوز عددها العشرات، لم تعد مجرد طلبات رد عادية، تهدف الى رد القاضي، بل ان تكرارها وامتدادها الى قضاة آخرين غير المحقق العدلي، كانوا بصدد النظر بطلبات الرد، باتت تشكل تصرفات تعسفية بحتة، لا يهدف مقدموها من خلالها سوى إعاقة التحقيق وتأخير صدور القرار الاتهامي. وقد بات القاصي والداني يعلم ذلك. ولسنا بحاجة الى التفكير مطولاً للوصول الى هذه النتيجة ! فالطابع الصارخ لعدم الامانة caractère flagrant de malhonnêteté وصل في طلبات الرد المتكررة المقدمة بصورة تعسفية الى حد الفضيحة scandale وباتت تشكل تصرفات " غير اخلاقية " immorale. ولم يعد جائزا للمحقق العدلي انتظار ما ستؤول اليه هذه " الطلبات المشبوهة " ، تحت طائلة اعتباره مستنكفا عن احقاق الحق ومخالفا لمبدأ دستوري هو الحق لكل فرد باللجوء الى القضاء حماية لحقوقه.


أ ـ في الطابع التعسفي لطلبات الرد


بات معلوماً من الجميع ان طلبات الرد هي في جوهرها وغايتها تعسفية لا يقصد منها مقدّموها سوى المماطلة والتسويف والحؤول دون صدور القرار الاتهامي. فهل يحق للمحقق العدلي استئناف التحقيق بالرغم منها ؟


لقد انتظر المحقق العدلي ثلاثة عشر شهراً ونيف، ولم تنته " سلسلة طلبات الرد ". نعم لقد تحولت هذه الطلبات، من وسيلة لصيانة حقوق المتقاضين ضد تصرفات غير مقبولة قد يقدم عليها القاضي، الى إعاقة واضحة لسير التحقيق، خصوصاً بعد ان تكاثر عددها لتبلغ العشرات وطالت أكثر من قاضٍ. ثم راح مقدموها يتوزعون الادوار، ويتناوبون على تقديمها، الواحد تلو الآخر، ما أكّد انهم متحايلون على القانون بالتواطؤ فيما بينهم. وبات مؤكداً ان الهدف الوحيد منها هو إعاقة التحقيق وحرمان ذوي الضحايا والمتضررين من نيل حقوقهم. ان سوء النية في هذه الحالة، الذي وصل الى حد التحايل على القانون، لا يجب ان يبقى بدون نتائج. ففضلاً عن جواز إلزام المماطلين المتعسفين بالعطل والضرر، يجب الوصول الى حد اهمال هذه الطلبات التعسفية التحايلية عبر عدم ترتيب اي نتائج قانونية عليها وتاليا استئناف التحقيق من النقطة التي وصل اليها.




وهذا ما ذهب اليه الفقه في فرنسا:

« Le caractère abusif de cette procédure la prive donc de l’intérêt légitime dont elle doit être assortie et conduit à faire admettre son irrecevabilité »


ان الهدف من طلبات الرد المتكررة والتعسفية ليس مشروعاً. ولا يمكن للمحقق العدلي تعليق التحقيق بانتظار الفصل بها، لانها لن تتوقف. وهي سلسلة اجراءات مقدمة عن سوء نية وتحايلاً على القانون وهي باطلة اصلاً، عملاً بالقاعدة الكلية القائلة بان " الغش يفسد كل شيء " Fraus Omnia corrompit ".



هذا فضلاً عن بقاء المحقق العدلي منتظراً الى حين الفصل بطلبات الرد التعسفية، يشكل خرقاً لمبدأ الحق باللجوء الى القضاء لحماية الحقوق، واستنكافاً عن احقاق الحق.



ب ـ مبدأ الحق باللجوء الى القضاء لحماية الحقوق

ان هذا المبدأ مكرس دستورياً وأممياً. وقد ادت طلبات الرد المتكررة والمتعسفة الى حرمان ذوي الضحايا وسائر المتضررين في جريمة تفجير المرفأ، من المطالبة بحقوقهم عن طريق القضاء. وبالتالي ان استمرار المحقق العدلي في " انتظار " ما ستؤول اليه طلبات الرد التعسفية، كان سيشكل مسّاً بهذا المبدأ. فبين تفسير النص بمعزل عن روحه والغاية منه، لتبرير الاستمرار في انتظار ما ستؤول اليه طلبات الرد المتعسفة التي لا نهاية لها؛ وبين تفعيل مبداً الحق باللجوء الى القضاء لحماية الحقوق المكرس دستوريا وأممياً، واستئناف التحقيق، اختار المحقق العدلي – عن حق – الخيار الثاني.


ج ـ خطر الاستنكاف عن احقاق الحق

نصت المادة 4، البند 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية أنه " لا يجوز للقاضي تحت طائلة اعتباره مستنكفا عن احقاق الحق ان يتاخر بغير سبب عن اصدار الحكم ".


فعلى ذلك، نقول بأنه لا يجوز للمحقق العدلي ان يتأخر عن اصدار قراره الاتهامي، بغير سبب مشروع وهو وجود طلبات رد عديدة، متعددة، غير مشروعة وتعسفية.



ان التأخر عن استئناف التحقيق، بانتظار طلبات الرد المذكورة، المعروفة نتائجها سلفاً، يشكل بذاته تأخراً عن ختم التحقيق واصدار القرار الاتهامي بالدعوى العالقة امام المحقق العدلي. وهذا يشكل صورة من صور الاستنكاف عن إحقاق الحق.


بين تفسير النصوص بصورة جامدة وخارج إطارها القانوني الصحيح، وتفسيرها وفقاً للغاية الحقيقية المعدة لها، يجب ترجيح الخيار الثاني على الاول.



فالنصوص القانونية لم توضع اصلا لتعطيل العدالة، بل لخدمتها. ولا يجب ان يتحول النص الى وسيلة لعرقلة العدالة، بل يجب ان تكون النصوص وسيلة لتفعيل العدالة. فالنصوص موضوعة اصلاً لخدمة الانسان. والقاضي ليس اداة صمّاء لتطبيقها خارج اطارها الصحيح. فالتفسير الحرفي للنص بعيداً عن الغاية منه " يقتله " ! ألا يكفينا قتل مئات الابرياء في جريمة تفجير المرفأ، حتى نقتل ايضاً النصوص القانونية في معانيها الجوهرية، التي هي وحدها كفيلة بتحقيق العدالة في هذه الجريمة ؟