خالد العزي

طرابلس والحراك اللبناني...

13 شباط 2020

09 : 30

دفعت طرابلس ثمناً كبيراً في محاولة لتركيعها

لم يكن يتصور أحد أن طرابلس ستكون عروس الانتفاضة اللبنانية حيث تشكل تحركاً مختلفاً عن باقي التحركات في المدن والساحات اللبنانية التي كانت تعتصم وتتظاهر يومياً بوجه السلطة الفاسدة.

لقد اربك الشمال بشكل عام، وطرابلس بشكل خاص المشهد السياسي اللبناني من حيث سلمية الانتفاضة والانضمام الكمي للجماهير الشمالية لهذه الحركة الجديدة في لبنان والتي باتت تعبيراً واضحاً عن رفض الجماهير للطبقة السياسية اللبنانية.

لقد دُفعت ملايين الدولارات في الصحف والتلفزيونات من اجل تصوير طرابلس كعاصمة للتخلف والارهاب ومصدر للخوف والرعب والتزمت حيث وقفت الحياة فيها منذ خروج السوري وطلائعه المرتزقة في العام 2005.

ربما ظاهرة ابو العبد حجي الذي شاهدنا لقاءاته على كل وسائل الاعلام المحلية ووسائل التواصل الاجتماعي، هي الصورة التي اعطيت للمدينة من البعض وكانت ما بين التقزيم والتضخيم، لكن صورة ابو العبد هي الصورة الحقيقية للطفل الطرابلسي الذي يعاني بشكل فعلي من الواقع الاجتماعي نتيجة الفقر والاهمال.

صورة ابو العبد هي الصورة الحقيقية لكل طفل طرابلسي حرم من أبسط الحقوق الانسانية والاجتماعية التي يفرضها مبدأ العدالة الاجتماعية، فهو الذي حرم من المدرسة وحرم من طفولته بشكل عادي، مما دفع ابو العبد ذلك الفتى الطيب البسيط الساذج الى الخروج، والتظاهر والتصريح بكل ما كان يقول به ويدعو الثوار للمشاركة في الثورة لتغيير الواقع الاجتماعي اللبناني.

اما حالة استدعاء اهالي عكار وطرابلس فكانت حالة غير مقبولة بطريقة حرب نفسية تشن على الثوار فكانت حالة استدعاء ليندا بولس مكاري بحجة تقديمها طعاماً للثوار وتأمين اموال للتنقل فهي رسالة للجنس الانثوي الشمالي لتخويفهن من المشاركة في الثورة.

كذلك اطلق لقب على مثيري الشغب في بيروت بأنهم مشاغبو طرابلس وكأن بيروت لأهلها وممنوع على المناطق المشاركة فيها بأي احتجاج، مما مهد الطريق لمحاولة عرقلة وتأخير ثوار طرابلس من الالتحاق بالساحات اللبنانية الاخرى وتقديم الدعم لها، فكل التحية لأهل طرابلس الذين رفضوا التهميش والفقر وقرروا العيش في قلب الدولة، وليس على هامشها حيث ينمو الفقر ويعيش الاغنياء.

بالطبع مشاركة ثوار طرابلس في ساحات بيروت كان لها صدى ايجابي في ايجاد معادلة جديدة للتعامل مع الثورة وتحريك الركود فيها، فكانت سناء الشيخ بنت سير الضنية ايقونة المشهد الاحتجاجي في اعادة المواجهات الى المكان الصحيح بمواجهة المجلس النيابي الذي شرع كل الهدر في لبنان.لم يكن احد يتصور بان عاصمة الشمال ستتصدر المشهد اللبناني المنتفض، وتقف بوجه الطبقة السياسية الشمالية حيث باتت طرابلس عروس المشهد السلمي بعدما كانت تحاول القوى السياسية ابقاءها ضمن المربع الطائفي وقد اطلق عليها عاصمة الارهاب او قندهار السلفيين، لكن طرابلس افشلت توجهاتهم وافعالهم فاطلق عليها قندهار ولم نجد فيها الملا عمر بل وجدنا فيها شباباً وشابات تصدروا الواجهة في رفضهم للطبقة السياسية التي افقرتهم وجعلت منهم مادة تتداول في الاعلام بشكل يومي يخافها الوطن.

فكانت تحركات طرابلس وساحة النور مرآة الفقر والحالة الخاصة التي تكتم عنها النظام والاعلام طوال المدة السابقة مما دفع بالإعلام الى تصوير احياء وحالات لم يكن اللبناني على معرفة بها فكانت منطقة (جبل محسن وحي التنك وظهر المغر وباب التبانة والقبة واحياء اخرى..)، ما دفع الشباب الطرابلسي للتعلق بالمراسل التلفزيوني الان درغام الذي نقل مشاكلهم وعاش معهم في الخيم وركب وراءهم على "الموتوسيكلات"، واكل معهم في مطابخهم وفي مطاعمهم بعكس الوسائل الاخرى التي كانت عن عمد تحاول اظهار شباب للتحدث عن الثورة والانتفاضة دون المستوى المطلوب (اغبياء) متعمدين ذلك لإبعاد الشخصيات الجيدة والواعية التي تعبر عن الثورة وحالتها.


طرابلس عنوان المرحلة المقبلة

لقد دفعت طرابلس ثمناً كبيراً في محاولة لتركيعها فكان الجوع والفقر والحرب الطائفية التي استمرت لمدة ثلاثة اعوام متتالية سبباً في افقار احيائها، لقد زُج بأولادها في السجون من دون محاكمات عادلة تحت حجج وهمية غير مرتبطة بالعدالة التي هي مطلب الجميع، بات الدم هو الذي يحكم العلاقات بين فقراء طرابلس والشمال، مما دفع بالعديد من الشباب الى الهجرة نحو التطرف من دون معالجة جدية لظهور هذه الامراض لان السلطة كانت راضية بما يحكم على طرابلس والشمال.

فجأة تغير كل شيء وحدثت اجمل مصالحة بين الشعب الشمالي في رفع شعاراته ضد الفاسدين وحكم الزعران، وقد تبلورت هذه المصالحة الشعبية بين كافة الشرائح في ساحة الثورة "ساحة الله" ساحة عبد الحميد كرامي الرافضة للزعامات التقليدية ورافعة البطاقة الحمراء بوجه رئاسة الحكومة السنية حيث باتت طرابلس خط الدفاع الاول عن الانتفاضة.

بالرغم من ان طرابلس تمثلها كتلة نيابية طرابلسية تنتمي الى كتلة معينة ويوجد فيها اكثر من مليونير فقد بقيت بحالة فقر يرثى لها بعيدة عن لبنان فكانت تحمل اسم المنطقة المحرومة بكل معنى الكلمة.

وحتى حديث الزعيم وليد جنبلاط الذي اطلقه من بيت الوسط بان لطرابلس والشمال حقاً اساسياً بالتنمية وعندها مطار ومرفأ ومعرض ومنطقة اقتصادية وكان هذا الكلام يراد فيه حق لكن لم يأت في وقته بل جاء متأخراً جداً وخاصة بان الزعيم جنبلاط شارك في الحكم من 1992 حتى اليوم، فهذه ليست منّة لأهل طرابلس بل هي حق رسمي ويجب الانطلاق من ذلك تحت عنوان التنمية المستدامة.

فطرابلس كانت ترتبط بالساحات الاخرى وتناديها وخرجت من ثوبها الطائفي ووقفت بوجه الزعماء التقليديين واسقطت شرعيتهم وكانت تدعم كل الساحات في الايام الصعاب وتوفد ثوارها الى كافة الاماكن، فهي وقفت بوجه العنف الذي تعرضت له النبطية وصور، وجل الديب وبعلبك وساحة الشهداء والرينغ، وأرسلت التحيات والهتافات عبر الاعلام المرئي والمواقع الالكترونية والوسائل المكتوبة، هي التي استقبلت الوفود القادمة من المناطق وفتحت منصاتها لهم، وخاصة الوفود التي جاءت من الجنوب، وذلك بعد ان منعت البوسطة التي اطلقها الشمال ومنعت من الوصول الى الجنوب.

بالرغم من التكلم عن المنصة التي احتلها بعض المتسلقين، والمشاكسين فيها لكن هتافات طرابلس وأغانيها باتت تترد في الساحات بلكنة طرابلسية جميلة (معلمي يا معلمي مصيتلي دمي، ويا طرابلسي يا كبير)، وشعاراتهم كانت لا تقف امام الشوائب البسيطة بسبب مفهوم الانتفاضة فهي شارع لا يمكن ضبطه.

ستبقى طرابلس عنوان المرحلة المقبلة في عملية التحركات المطلبية التي تقوم بها الكتل الشعبية من كافة الشرائح الاجتماعية التي لا يمكن اسكاتها بالرغم من محاولة ممارسة البعض أعمالاً لا تليق بالثورة، وبات الجميع يعلم بهم، ويعرف شكلهم ومشاكلهم، طرابلس، والشمال لا يتحملان اي مسؤولية عن هذه الاعمال المشاغبة او التي تلصق بأشخاص دون اللجوء للعدالة، لان طرابلس رسمت اسمها بخط من عرق الثوار بانها عروس الثورة.

*صحافي وكاتب لبناني


MISS 3