باتريسيا جلاد

لبنانيون يتأقلمون مع الفقر والبؤس... ولا يثورون

من مشهدية إضرام النار أمام المصارف أمس (فضل عيتاني)

- مزّقت ألاعيب السياسة والطائفية المقيتة نسيج المجتمع

- إفشال 17 تشرين بالعنف جعل الناس تخاف تجدّد الحرب

- نجح السياسيون بخبث في إيهام الناس بأن الحلّ قريب

- المعاناة مستمرة منذ 50 سنة... ففقد الناس الأمل بالتغيير

- يشعر المواطن باليأس وهو عاجز عن خلق واقع جديد

- همّ اللبناني تأمين لقمة العيش والتداول عبر «صيرفة»

- شرائح واسعة جعلت همّها الاول والاخير «الفرش دولار»

- الهجرة أمس واليوم... أفضل السبل للهروب من الواقع

- يخشى المواطن على صحّته الجسدية لأنها كل ما تبقى له

- العجز يزيد حالات الاكتئاب والإنتحار مع فقدان الأمل بالغد



تتنوّع التوصيفات لشرائح من الشعب اللبناني الذي يعيش واقعاً مزرياً مع تفاقم سعر صرف الدولار الذي تخطّى أمس عتبة الـ80 ألف ليرة، بين «مبنّج» أو «ينتظر الفرج» أو غارق في سبات عميق... وتكثر التساؤلات حول الأسباب التي تدفع هذه الشرائح الفقيرة الى الرضوخ والسير على طريق الإرتطام الكبير مع تفاقم الفقر والجوع وعدم توفّر ادنى متطلبات العيش الكريم.

صحيح أن بعض المجموعات تتحرّك، فتنزل الى الشارع، تقطع الطرقات وتشعل النيران كما فعلت جمعية «صرخة المودعين» امس، ثم تنسحب، إلا أن الشعب بمعظمه قابع في منزله يندب حظّه المزري ويستمع الى أنين المرضى الذين يحتاجون الى الدواء والى بكاء الأطفال بسبب عدم توفّر او غلاء الحليب، والى ارباب الأسر العاطلين عن العمل غير القادرين على تلبية الحاجات المعيشية اليومية...

سياسة ومؤثرات إلهائية

فما المانع من التعبير عن رفض واقعه المزري والضغط على المسؤولين للتوافق في ما بينهم لوقف النزيف من خلال التظاهر في الشوارع؟

قال الباحث في الشؤون الماليّة والاقتصاديّة البروفسور مارون خاطر لـ»نداء الوطن» إن «الإرتفاعات الجنونية والمتسارعة التي يشهدها سعر صرف الدولار منذ أيّام تعكس هول الأزمة وامتدادها. فيُلقي الانهيار بثقل تداعياته على اللبنانيين وقد أتعبهم الصبر واستنفدت قواهم الأحداث والأوجاع. وبذلك يمكن تمييز أزمة لبنان بتشعُّبها وتمدُّدها لتطال اللبنانيين في حياتهم وتربيتهم ومعيشتهم وصحّتهم ومستقبلهم».

ولفت الى أن «السياسة أدخلت الى الأزمة «مؤثرات إلهائيَّة» كثيرة شغلت اللبنانيين وحصرت تفكيرهم بيوميَّاتهم ومعيشتهم، ويعتبرون أنَّ «الغد يهتم بنفسه». وبذلك فان خلو الشوارع من الغاضبين ليس لإنتفاء الغضب بل لضيق العيش. فمنهم من ينتظر «صيرفة» وحفنة من جنى أعمارهم امام المصارف وآخرون يخرقون صمت قصر العدل بحثاً عن حقيقة غائبة، وكثيرون يحتاجون الى الوقت ليقتاتوا خبزاً بات غير مؤكد التوافر».

تجربة الشارع غير مشجّعة

في مطلق الأحوال لم تكن تجربة اللبنانيين مع الشارع مشجِّعة. فهناك أيضاً دخلت السياسة تفريقاً وفقئاً للأعين، وركوباً من وصوليين لموجة الغضب أملاً في الوصول الى شاطئ الحُكم. فتتحكّم السياسة بكل شيء في لبنان وهي اليوم تعطل كل شيء فلم يبق للشعب إلا الإنتظار والصلاة».

وعن تداعيات الإرتفاعات السريعة التي يسجّلها الدولار يومياً، قال خاطر: «لإرتفاع سعر الصرف تداعيات مباشرة على أمن اللبنانيين الإجتماعي والمعيشي والتربوي والصحي والدوائي. في لبنان فقراء لا يشبعون خبزاً، ومرضى توقفوا عن شراء الدواء، وأطفال وعُجَّز يرتجفون برداً. ليس لبنان كله رواد مطاعم ونوادٍ، بل إنّ سواده الأعظم فقراء يُخفون الألم والخوف والظلم بعنفوان او عزة نفس. في لبنان شعب طيب وحكَّام مناكيد».

مقابل ذلك لا يرى خاطر أن الدولار بحد ذاته أحد أسباب الازمة، «بل هو أحد أبرز نتائجها». معتبراً أن «تفلّت سعر الصرف إنعكاساً لتعقيدات السياسة. أما «العلاجات الموضعية» والتي لم تعد قادرة على التخفيف من الألم فلا طائل منها اليوم. فالمطلوب العمل على اسباب الأزمة وليس على علاج نتائجها».

وحول وصولنا الى مرحلة الإرتطام الكبير قال: «في كل مرّة نهوي نقترب من الإرتطام يصعب علينا النهوض. حبَّذا لو خطت السياسة خطوة بالأمس إلا انها اليوم ما زالت ممكنة… تتقلص فرص التعافي مع الوقت إلا أن الأمل يبقى ما بقي لبنان… ويزداد إن ذهب حكّامه الى نفس الجحيم الذي أرادوه لنا».

عوامل نفسية: إستسلام

وعزت الاخصائية والمعالجة النفسانية دلال بو خليل قبول المواطنين بواقعهم المرير من دون تسجيل إعتراضات وتحرّكات في الشارع، رغم حالة اليأس التي وصلوا اليها، الى عوامل عدة:

- لم يستطع الشعب في التحركات أو التجارب السابقة الوصول الى أي نتيجة، فدخلوا في دائرة الإستسلام.

- الأوضاع المادية والإقتصادية الصعبة، جعلت من أولويات المواطن البحث عن السبيل لتوفير إحتياجاته الأساسية مثل تأمين المأكل والمشرب. فاتجه تفكيره نحو الوسيلة التي توفّر له هذا الهدف، حتى أن البعض وجد المتاجرة بالدولار او شراء الدولار عبر منصّة «صيرفة» ضمن مهمات العمل اليومية التي يقوم بها.

إكتئاب وجرائم

واعتبرت بو خليل أنّ «هناك رابطاً قوياً بين الأزمة الإقتصادية والصحّة النفسيّة، لأن الأزمات تنعكس على حياتنا اليومية. ومن المعلوم أن من حاجات الإنسان الأساسية الشعور بالأمان وتأمين المأكل والمشرب، وهذا الأمر في لبنان بات مشكلة المشاكل. وبذلك أدى هذا الواقع الى معاناة كل فرد من القلق وظهور عوارض إكتئاب، ترجم ذلك من خلال ردّات فعل غير صحيّة مثل السرقات والجرائم والقيام بأعمال عنف، مع الإشارة هنا الى أن الإكتئاب قد يوصل الى الإنتحار.

كل تلك العوامل الأساسية والمذكورة آنفاً جعلت الشعب اللبناني برأي بو خليل في حالة إنكار تام: لا يتحرك، لا ينزل الى الشارع ولا يبدي رأيه، همّه تأمين لقمة العيش وإطعام اولاده.

ضربات متتالية منذ 50 سنة

وبدورها اعتبرت باحثة نفس-إجتماعية تانيا تابت خلال حديثها الى «نداء الوطن» التزام الشعب المنازل وعدم القيام بأي انتفاضة أو تحرّكات في الشارع بشكل مستدام لحين النظر في وضعه، الى العوامل التالية:

- لتعرّضه منذ 50 سنة لضربات واحدة تلو الأخرى ولسلسلة من العنف. فالشعب اللبناني جبّار وكان ينزل دوماً الى الشارع، مطالباً بحقوقه ومنتفضاً على واقعه، وكان يطلق عليه لقب طائر الفينيق اذ يستفيق لينهض مجدّداً مهما تفاقمت الضغوطات عليه.

- لشعوره بالقلق وأنه في حالة عجز عن خلق واقع جديد وصولاً الى حدّ اليأس. فهو لن يستطيع أن يحقّق تغييراً مستداماً في تحرّكاته، علماً أنه سبق أن انتفض الشعب اللبناني من خلال تظاهرات مليونية وحتى أنه شارك في تظاهرات عدة.

- لخوفه من إلحاق الأذية الجسدية به وفقدان يده أو عينيه... كما حصل للبعض في التحركات التي شهدناها. فصحّته الجسدية هي كل ما تبقى له، مع فقدانه الأمل نهائياً بكل شيء، حتى أنه ليس لديه أي أمل بغد أفضل وبإحداث اي تغيير. فقد الأمل نهائياً!

- لعدم وجود وجه قيادي لاتباع توجيهاته عند النزول الى الشارع. فكل الشعوب تحتاج الى من يديرها للتوصّل الى مرحلة التغيير.

وبذلك من كلّ ما ذكرنا تعتبر تابت أن الشعور بالعجز وانعدام الثقة هما العاملان الأساسيان الرادعان للنزول الى الشارع.

متى سيحين وقت النزول الى الشارع؟

أشارت تابت الى أن «السبب الوحيد الذي سيجعل الناس تنزل الى الشارع، هو الرغبة في الحصول على الحليب والمأكل للأولاد، حتى أن الشعب قد يقوم بأي عمل آخر كالسرقة والقتل لإعالة عائلته». معتبرة أننا اليوم «بحالة عجز لذلك قد تزيد حالات الإنتحار مع فقدان الأمل بالغد. والله يسترنا!».

صحيح اننا لم نصل الى مرحلة الإنهيار او الإرتطام الكبير، قد نصل الى مرحلة عنفية حيث سيأخذ الأفراد حقوقهم من مأكل ومشرب بيدهم، ولكن «ما بعد الإنهيار سيكون هناك بصيص أمل»، كما ختمت تابت.