جوزيف حبيب

"النسر" يُحاصر "التنين" في شرق آسيا

18 شباط 2023

02 : 00

تمتلك واشنطن أسطولاً بحريّاً متطوّراً وهائلاً يُعزّز حضورها العسكري في المحيطات والبحار حول العالم (البحرية الأميركية)

على الرغم من الأهمّية الاستراتيجية لأوروبا بشكل عام وشرقها بشكل خاص بالنسبة إلى واشنطن، لا سيّما في إطار سياستها القاضية باحتواء «الدب الروسي» ومنعه من الانفلاش غرباً، فضلاً عن تفعيل حراك الديبلوماسيّة الأميركية في الشرق الأوسط من بوابة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، إضافةً إلى الاهتمام بـ»القارة السمراء» وأسواقها ومواردها، والحفاظ كذلك على «حديقتها الخلفيّة» اللاتينيّة آمنة وبمنأى نسبيّاً عن الأعداء والخصوم الدوليين، وهو أمر بديهي، إلّا أن عيون «النسر الأميركي» شاخصة بتركيز عال نحو شرق آسيا، حيث التحدّي الجيوستراتيجي الأكبر الذي يفرضه «التنين الصيني» على مصالح «العم سام» العابرة للقارات، إذ تبقى بكين القوّة الصاعدة الوحيدة التي تمتلك المقوّمات التي تسمح لها بإعادة تشكيل النظام الدولي بشكل جذري.

للولايات المتحدة مجموعة كبيرة من «أوراق القوّة» في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، من خلال حلفاء محلّيين أقوياء لهم تموضعات جغرافيّة تسمح لها بفرض طوق جيوسياسي وعسكري على طول الخط المقابل لساحل الصين الشرقي. فهذا الخطّ يمتدّ من اليابان وكوريا الجنوبية إلى تايوان والفيليبين. وهذه الدول، إلى جانب الهند وإندونيسيا وفيتنام وماليزيا وبروناي وغيرها من الدول الآسيويّة، إضافةً إلى أستراليا ونيوزيلندا وجزر الهادئ، تخشى تنامي النفوذ الصيني. ومن هذا المنطلق، عزّزت واشنطن شراكاتها وتحالفاتها في المنطقة في الآونة الأخيرة، مع اتجاه أولويات اهتماماتها الاستراتيجية نحو شرق آسيا، التي تشهد تحدّيات أمنيّة وعسكريّة متنامية بشكل مضطرد، على الرغم من الحرب الروسية المستعرة في أوكرانيا وتهديد موسكو للأمن الأوروبي.

وعلى رأس حلفاء واشنطن في المنطقة اليابان، التي تعمل بدورها على توسيع دائرة الدول الحليفة، الأمر الذي تجسّد في الجولة الديبلوماسية المكوكيّة التي قام بها رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا على معظم حلفاء بلاده من دول «مجموعة السبع» منتصف الشهر الماضي، لتفعيل انخراطها أكثر في المنطقة. لأميركا قواعد عسكريّة في اليابان تضمّ نحو 50 ألف جندي أميركي يتمركز أكثر من نصفهم في جزيرة أوكيناوا، حيث ستنشر واشنطن بحلول العام 2025 وحدة للتدخّل السريع من سلاح مشاة البحرية الأميركية (المارينز) التي ستكون «أكثر فتكاً وأكثر قدرة على الحركة»، بحسب تعبير وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن.

ويمنح موقع جزيرة أوكيناوا جنوبي اليابان والقريب من تايوان، مكانة استراتيجيّة بالغة الأهمية بالنسبة إلى الجيش الأميركي، لا سيّما في إطار تنويع سيناريواته المحتملة للردّ على غزو عسكري صيني لتايوان في المستقبل. حتّى أن الحلف الدفاعي الأميركي - الياباني يشمل الهجمات التي قد تحصل عبر الفضاء في ظلّ تطوّر تكنولوجيّات الأقمار الإصطناعية العسكرية، بحيث يُفعِّل شنّ أي «هجوم فضائي» ضدّ واشنطن أو طوكيو، تلقائيّاً، المادة الخامسة من المعاهدة الدفاعية الثنائية، والتي تنصّ بشكل واضح على أنّ أيّ اعتداء ضدّ أيّ من البلدَين هو اعتداء أيضاً على البلد الآخر. كما أن الدعم العسكري الأميركي لتايوان، الذي تكثّف في السنوات الأخيرة بشكل لافت، واكب المخاطر الجيوستراتيجية والعسكرية المتزايدة في المنطقة.

وفي السياق عينه، وسّعت واشنطن تحالفها مع الفيليبين بداية هذا الشهر كما فعلت مع اليابان منتصف الشهر الماضي، عبر توقيع اتفاق يُفسح المجال أمام الجنود الأميركيين للوصول إلى أربع قواعد إضافية في البلاد، ما يرفع عدد المواقع التي يُمكن للقوات الأميركية الوصول إليها إلى تسعة، فيما تجري محادثات في شأن موقع عاشر محتمل، فضلاً عن قرار إعادة تسيير دوريات مشتركة أميركية - فيليبينية في بحر الصين الجنوبي، حيث تُسجّل احتكاكات خطرة متكرّرة مع قوارب عسكريّة صينية. كذلك، تبحث مانيلا وطوكيو توقيع «اتفاق الوصول المتبادل» الذي يسمح لكلّ من البلدَين بنشر قوات على أراضي البلد الآخر، بينما سبق لليابان أن وقّعت اتفاقات عسكريّة مماثلة مع المملكة المتحدة وأستراليا.

بدأت الولايات المتحدة، التي شكّلت في أيلول 2021 تحالف «أوكوس» مع أستراليا والمملكة المتحدة، وأحيت في الشهر ذاته أيضاً تحالف «كواد» الذي يضمّ إلى جانبها كلّاً من أستراليا واليابان والهند، إعداد «مسرح العمليات» في المنطقة عبر تعزيز وجودها العسكري لدى حلفائها وتقويتهم وتهيأة جيوشهم لحروب المستقبل، من خلال تكديس مخزونات الأسلحة والذخيرة وإبرام صفقات لبيعهم مقاتلات ومسيّرات وسفناً وغوّاصات وصواريخ وأنظمة دفاعية متطوّرة، وتجميع البيانات والمعطيات الاستخباراتية الضرورية لدراسة مكامن قوّة العدو وضعفه. بالتوازي، أنشأت «جبهة معلوماتيّة» متراصة مؤلّفة من خبراء متخصّصين تستطيع تشييد «جدار دفاعي» متين في وجه الهجمات الإلكترونية على أشكالها وأنواعها، وتهيئتها لاحقاً للعب دور «المنصّة الجاهزة» لإنطلاق الهجمات السيبرانية الساحقة ضدّ «العدو الشيوعي» عندما تحين الساعة لذلك.

إنّ لمسرح العمليّات جبهات متعدّدة ومتنوّعة، واقعيّة وافتراضيّة، سياسيّة وديبلوماسيّة وعسكريّة وثقافيّة وعلميّة وتكنولوجيّة وتجاريّة وماليّة واقتصاديّة... وتحتلّ «الرقائق الإلكترونية» أو ما يُعرف بـ»أشباه الموصلات» التي تُستخدم في معظم الصناعات من السيّارات والأدوات المنزليّة إلى التكنولوجيّات العسكرية والصواريخ العابرة للقارات، مكانة خاصة في الصراع الجيوستراتيجي بين واشنطن وبكين، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة أخيراً إلى فرض قيود على تصدير بعض المكوّنات الإلكترونية إلى الصين باسم المصلحة الوطنية والأمن القومي، بتبنّيها «قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم»، الذي يوفر عشرات مليارات الدولارات لدعم إنتاج «أشباه الموصلات» في الولايات المتحدة، علماً أن حلفَي واشنطن، تايبيه وسيول، يُعتبران من أكبر مصنّعي «الرقائق الإلكترونية».

وفي وقت تستخدم فيه الولايات المتحدة ملف قمع الحرّيات في هونغ كونغ وقضيّة اضطهاد أقليّة الأويغور في إقليم شينجيانغ، وحتّى منشأ فيروس «كوفيد» الذي انطلق من ووهان قبل أن يتحوّل إلى جائحة عالميّة كان لها تداعياتها الدراماتيكيّة الكارثيّة على البشريّة بأسرها، ضدّ بكين في المحافل الأممية والدولية، ترتفع حدّة المخاوف من أن تتحوّل منطقة المحيطَين الهندي والهادئ إلى «أوكرانيا ثانية»، لا بل حتّى إلى ما هو أكثر رعباً من ذلك بكثير، في حال تفجّر صراع عسكري كبير في المنطقة، وسط ازدياد عدوانيّة السلطات الشيوعية في بكين تجاه جيرانها بالتعاطي مع «الخلافات السياديّة» في ما يتعلّق بالجزر والشعب المرجانية المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي.

لدى بكين النيّة في مهاجمة تايوان تحت شعار «إعادة توحيد» الجزيرة مع البرّ الصيني، لكن يبقى السؤال متى؟ وكم ستكون كلفة هكذا حرب وتداعياتها عالميّاً، خصوصاً في حال دخلت على خطّها الولايات المتحدة واليابان وغيرها من الدول؟ ماذا لو تحوّل احتكاك غير محسوب فوق سطح البحار أو تحته إلى حرب بحريّة هرمجدونيّة؟ وماذا لو تفجّر الصراع في أقصى الشرق الآسيوي من شبه الجزيرة الكوريّة، حيث يمتلك النظام الشيوعي المعزول عن العالم في بيونغ يانغ، حليف بكين، السلاح النووي؟ أسئلة كثيرة تطرح لاستشراف مستقبل منطقة باتت تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى ساحة مضطربة تقف فوق فوهة بركان، إذا انفجر، ستطال حممه الحارقة المعمورة برمّتها!


MISS 3