د. ميشال الشماعي

مِقْوَمُ مُقَوِّمَاتِ المُقَاوَمَةِ

18 شباط 2023

02 : 00

المِقْوَمُ هو خشبة المحراثِ التي يمسكها الحرّاثُ، أي الفلاحُ، ليَحرُثَ أتْلامَهُ في حقلِهِ بشكلٍ مستقيمٍ. وأيّ حركة مقاومة في العالم بحاجة إلى مِقوَمٍ يضبطُ مقوّماتِ استمرارها. وما لم يعد خافياً على أحد، وجود حركتَيْ مقاومة على مساحة الوطن اللبناني كالآتي:

- «حركة المقاومة الإسلاميّة» التي تقودها «منظمة حزب الله» منذ العام 1982 وقد سيطرت على الحركة الوطنيّة التي كانت تقاوم العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان؛ وتولّت هذه المنظمة مقاومة العدوّ إلى حين انسحابه في 25 أيّار من العام 2000؛ وحافظت على قواعد اشتباك مع العدو تحت سقف القرارات الدّوليّة، لا سيّما القرار 1701، إلى أن وقّعت معه اتّفاق سلام صامت تحت ذريعة ترسيم الحدود البحريّة.

- «المقاومة اللبنانيّة» التي نشأت وتنظّمت وتكودرت في الحرب اللبنانيّة والتي حاربت الاحتلال الفلسطيني مع مؤسّسها الرّئيس الشهيد الشيخ بشير الجميّل، ونجحت بإخراجه في 30 آب 1982، وإيصال مؤسّسها إلى رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة. وتابعت مسيرتها في مقاومة الاحتلال السوري مع رئيسها الذي أصبح من العام 1986 وحتّى الساعة الدكتور سمير جعجع؛ حتّى نجحت بمقاومتها السلميّة بإخراج الاحتلال السوري في 26 نيسان من العام 2005. وتتابع هذه الحركة عبر حزب «القوّات اللبنانيّة» راهناً مقاومة « السلبطة» الإيرانيّة عبر «منظمة حزب الله» التي تحوّلت احتلالاً صامتاً للدولة العميقة حتّى تحريرها بالكامل، لاستعادة مقوّمات وجود الدّولة السيّدة والحرّة والمستقلّة، بعيداً من أيّ «سلبطة» أو احتلال.

هذا في توصيف الواقع الإشكاليّ الذي يحكم الحياة السياسيّة. المِقوَم الذي يمسك فيه أمين عام «منظمة حزب الله» مقوّمات «المقاومة الإسلاميّة» قد انكسر على مذبح مفاوضات الطاقة في شرق المتوسّط. بينما مِقوَم مقوّمات «المقاومة اللبنانيّة» ما زال ثابتاً في موقعه والمحراثُ يسير بخطى ثابتة ليحفر في أرض الوطن ثباتاً واستقراراً وسيادةً وحرّيّة. ولعلّ هذا ما يميّز المقاومَتين بعضهما من بعض. «الإسلاميّة» تنازلت عن مشروعها برمي العدو الإسرائيلي في البحر، أمّا «اللبنانيّة» فلم تتنازل يوماً عن مشروعها في بناء دولة لبنان الحرّيّة.

ولعلّ ما يجعل تمايُزَ «المقاومة اللبنانيّة» محطّ أنظار العالم كلّه هو ذلك التمسّك بالمشروع الكِياني للبنان الجديد. ولا يمكن لأيّ مشروع أن ينتصر في دولة من دون أن يكون مرتبطاً بجوهر وجود هذه الدّولة. وهذا ما أسقط مشروع «المقاومة الإسلاميّة» في لبنان لأنّها ترتبط بالأمّة المذهبيّة في الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. أمّا مشروع «المقاومة اللبنانيّة» فما زال حتّى اللحظة مشروعاً حيّاً وفاعلاً. ولم يخبُ لحظةً حتّى في عزّ تعرّض قادته للتّصفية الجسديّة.

وما يجب الاعتراف به هو نجاح مشروع «المقاومة الإسلاميّة» الإيديولوجي حيث تمّ ربط قسم كبير من المجموعة الحضاريّة (الطائفة) اللبنانيّة أيديولوجيّاً بمشروع ولاية الفقيه الذي يعتبَرُ في الأساس مشروعاً دنيويّاً نجحت الثورة في إيران بتحويله إلى مشروع إيديولوجيٍّ. والهدف الأوّل لهذه المقاومة هو فكّ الارتباط الحضاري الذي لم يُبْنَ يوماً على القاعدة الإيديولوجيّة بين «المقاومة اللبنانيّة» وكلّ ما هو غربيّ تحرّريّ تحديثيّ أوروبيّ أميركي ليبراليّ.

ولعلّ هدف ضرب الدّولة العميقة الذي وضعته «المقاومة الإسلاميّة» نصب عينيها لقناعتها بعدم قدرتها على استتباع كل لبنان؛ على الأقلّ في هذه المرحلة. وذلك للوصول إلى تمكين هذا المشروع من القدرة السياسيّة على إقامة الجمهوريّة اللبنانيّة التي لن تكون إلا تابعاً إيديولوجيّاً لهذا الفكر بالذات. أمّا هدف «المقاومة اللبنانيّة» فهو الحفاظ على لبنان التاريخ الذي لا يقوم إلا على قبول الشراكة بين اللبنانيّين كلّهم، على أن يحكم بقاعدة واحدة هي الحرّيّة.

لذلك كلّه، فشل مشروع «المقاومة الإسلاميّة» في لبنان. والرّفض سيأتي من البيئة التي حضنت هذا المشروع أوّلاً لأنّها تَنَمْذَجَتْ بالحرّيّة التي يقودها مشروع المقاومة اللبنانيّة. هذه المقاومة التي حافظت على ثبات مِقومِها، مع العلم بأنّ مقوّماتها اليوم أضعف بكثير ممّا كانت تملكه في ثمانينات القرن المنصرم. إلا أنّ «المقاومة الإسلاميّة» قد فقدت مِقْوَمَها، وحتّى مقوّماتها التي عملت على تثبيتها خلال عقودها الأربعة قاربت على الانتهاء حتّى لو باعت نفسها للشيطان الرّجيم كما تسمّيه في أدبيّاتها الإيديولوجيّة، فلن تستطيع الاستقرار على الاستمرار.

مِقوَمُ «المقاومة اللبنانيّة» ثابت ثبوت الأرز في جبال لبنان. وأيّ لبنانيٍّ كِيانيٍّ لا يخاف المقوّمات المتبدِّلَة. لن يكون إلا لبنان «المقاومة اللبنانيّة»، حتّى باختلاف شكله، لكنّ جوهر وجوده القائم على الشراكة الحضاريّة لن يتبدّل. علينا أن نصمدَ، مهما شحّت مقوّماتُ صمودنا، لكنّ إيماننا كبير جدّاً بانتصار لبنان الحرّيّة.


MISS 3