عيسى مخلوف

في البدء كان العنف!

18 شباط 2023

02 : 00

لوحة "الوجه والسكاكين" للفنّان المصري جورج البهجوري

بدأ العالم الذي نحن فيه بانفجار كونيّ، لكنّ الانفجار لم يتوقّف يوماً. ظاهرُ السماء في ليالي الصيف الصافية متعةٌ للعين وللنفس، ومصدر راحة تدفعنا إلى تكرار ما قاله ابن حزم يوماً: "أريحوا النفس لأنها تصدأ كما يصدأ الحديد". وكم تحتاج النفوس بالفعل إلى هذه الراحة، خصوصاً نفوس الذين يملكون "كمشة" عاطفة وذرّة عقل. لكنّ ظاهر السماء الصافي الذي يمنحنا الشعور بالاطمئنان، يخفي وراءه انفجارات لا تنتهي، ومعها ولادة النجوم وموتها، والثقب الأسود الغامض الذي يُعدّ أحد أكثر الأجسام ثقلاً في الكون، ويمتلك حقول جاذبيّة قويّة تسمح له بأن يلتهم النجوم والأجرام السماويّة، ولا يفلت منه حتّى الضوء.

لسنا وحدنا أحياء. كلّ ما حولنا حيّ، بطريقة أو بأخرى. ثمّة صخور وحجارة تختزن في باطنها ماء منذ ملايين السنين. والصخور التي لا تختزن ماء يلين قلبها حين تكون ممرّاً لينابيع ومجاري مياه تصقلها، كما حصى الأنهار. لم يكشف العلم بعدُ إلاّ جزءاً يسيراً من أسرار هذا العالم. منذ برهة من الزمن فقط، اكتشفَ أنّ للنباتات حياة خاصّة، وأنّ الأشجار التي تصل الأرض بالسماء تتواصل في ما بينها ولها شكل حياة اجتماعيّة. أمّا الحيوانات، ونكتفي هنا بحيوانات أليفة، كالقطط مثلاً، فإنّ لها من العمر الذهني ما يوزاي عمر طفل في السنتين، ما يجعلها تعيش طفولة دائماً، من خلال ردود فعلها وتفاعلها مع المكان حولها.

يبقى الإنسان المُحَيِّر، الأكثر غموضاً وتعقيداً بين الكائنات، والأكثر عنفاً. الإنسان الذي لم يُعرَف حتى الآن إلاّ القليل من مجاهله العميقة. هذا الكائن العجيب يؤمِّن استمراريّة النسل، يُحبّ ويُبدِع، يَقتل ويُقتَل. ليل الإثنين الماضي، أطلق شخص النار داخل حرم جامعة ولاية ميتشيغان فقُتلَ وجُرح عدد من الطلبة. المشتبه به وصفته الشرطة بأنّه كان يرتدي حذاء أحمر اللون، وسترة جينز وقبّعة بيسبول، وهذا لا يكفي لمعرفة دوافع القتل. وفي الشهر الماضي، اعتُقل في ولاية فيرجينيا طفل في السادسة من عمره بعد إطلاق النار على معلّمته، وهي في الثلاثين من عمرها ما أدّى إلى إصابتها بجروح خطيرة. قبل هذه الحادثة، في أيّار العام الماضي، قتلَ مراهق 19 تلميذاً ومدرّستين في مدرسة ابتدائيّة في مدينة أوفالدي في ولاية تكساس.

إطلاق النار، لا سيّما في المدارس الأميركيّة ظاهرة فعليّة في بلد يوجد فيه ما يقارب الأربعمئة مليون قطعة سلاح قيد التداول. ولقد سُجِّلَ، العام الماضي، أكثر من 44 ألف قتيل بالأسلحة الناريّة، أي ما يوازي 120 قتيلاً في اليوم الواحد، نصفهم مات انتحاراً والنصف الآخر قتلاً أو أثناء الدفاع عن النفس. وفي العام 2022، كان ثمّة 45 مدرسة ومعهداً وجامعة مسرحاً لإطلاق النار.

كُتُب ودراسات كثيرة رصدت هذا الموضوع في السنوات الماضية، ولاحظ بعضها أنّ سهولة حيازة الأسلحة الناريّة في أميركا لا تكفي وحدها لمعرفة العوامل التي تدفع إلى ارتكاب هذا النوع من الجرائم. ولقد صدرت مؤخّراً عن دار "أكت سود" في باريس الترجمة الفرنسيّة لكتاب عنوانه "بلد الدم" للكاتب الأميركي بول أوستر، وهو يزاوج بين السيرة الذاتية والبحث السياسي، ويكشف فيه المؤلّف عن سرّ عائلي إذ يحكي عن مقتل جدّه لأبيه على يد جدّته التي أطلقت عليه النار في العام 1919. ويدعو أوستر إلى البحث عن حلول جدّيّة لإيقاف هذا النزيف اليومي. لكن، كم تبدو الكتابة في حيرة من أمرها أمام سطوة الرصاص، كأنّ الكلمات في هذا المجال مجرّد كفَنٍ أبيض خفيف ملقى فوق جثث القتلى.

في موازاة إطلاق النار في مدارس البلد الأكثر تقدّماً تكنولوجيّاً والأشدّ تسلُّحاً في العالم، هناك الحروب التي لا تنتهي في مكان إلاّ لتبدأ في مكان آخر. لا يستريح القتل ولا يهدأ، في كلّ زمان ومكان.

في كتاب بعنوان "تقرير برودي" للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخِس قصّة قصيرة عنوانها "اللقاء" تنطلق من السؤال الآتي: هل الرجال هم الذين يتقاتلون من خلال الأسلحة، أم الأسلحة هي التي تتقاتل من خلال البشر؟ في هذه القصّة، يُبَيّن بورخِس أنّ الأسلحة هي التي تنجو دائماً من جحيم المعارك، كأنه يقول إنّ البشر أدوات لهذه الأسلحة ولغرائز الموت وحسب.


MISS 3