حسان الزين

يرفض أن يكون "أبو ملحم" أو غيفارا

يحيى جابر: ليس هاجسي أن أعمل مسرحاً ترى فيه الطوائف نفسها جيّدة

18 شباط 2023

02 : 00

أخيراً، عرف يحيى جابر الطريق إلى تعايش الشاعر والصحافي والمسرحي في شخص واحد. وكان الوصول إلى ذلك معركة قاسية. فهو منذ البداية، حتى قبل الإلتحاق بمعهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، مسرحي، لكن الشعر والصحافة خطفاه وأبعداه سنوات عن الخشبة، وفي الأثناء، "عمل العمايل"، كما يقول، وأسهم في تأسيس صحف ومجلات، وخطَّ "تجارب معقولة": 5 مجموعات شعرية و3 روايات وكتباً أخرى. وفيما يواصل الإستمتاع في الكتابة والإخراج، بات يقول إنه تخلص من "أوهام كثيرة"، منها الحصول على جوائز والمشاركة في مهرجانات و"عداوة الكار". وإذ عاد إلى المسرح معتذراً من الخشبة ومعهد الفنون، ومن نفسه، لا يتردّد هذا المشاكس الدائم في ملاعبة المجتمع اللبناني ووضعه أمام مراياه المتعدّدة تارة وفي المنخل (الغربال) طوراً، ليضحك موجوعاً ويُضحك فاضحاً، ويُظهِر في الممثلين أفراداً وجماعات أجمل ما لديهم. معه هذا الحوار.




من أين يأتي يحيى جابر بهذه الهمّة والنشاط، ليخرج في ظل انهيار اقتصادي وأزمة سياسية... بخمس مسرحيات دفعة واحدة (هيكالو، مجدرة حمرا، بيروت- طريق الجديدة، بيروت فوق الشجرة وتعارفوا)؟

عدت إلى الحياة. أنا أعيش، إبداعياً، من الإنهيارات. الثقافة إذا لم يكن هناك فساد ودمار وانهيارات لا تُنتج. المأزق الإنساني يُجلّي الإنسان. وأنا مثل كلّ من يبقى لفترة طويلة في المسرح والأدب والفنون قلق. إما يقعد الإنسان على المدرّجات أو ينزل إلى الملعب و"يفك رقبته". العمل وحده ينقذني. وأشتغل على مدار الساعة (أستيقظ يومياً عند الخامسة والنصف صباحاً). كلّ ما أعمله هو دفاع عن نفسي، ليس أكثر. أخاف الفراغ. أتحرّك. يجب أن أتحرّك. لا أحبّ أن أقف. أنا ورشة شغل دائمة مستمرّة تصل إلى حدود الإدمان. أنا مدمن القمار الإبداعي. مدمن شمّ أنواع الناس. ودائماً بحالة تحدٍّ. القيامة غداً. وأحبّ التحديات وأن أكون الأول بيني وبين نفسي. عملت مسابقة لنفسي، وصار عندي جمهور يتابعني. باتت لتجربتي المسرحية هويّة بشكل أو بآخر. بنيت ثقة مع الناس. الناس يأتون إلى مسرحية يحيى جابر، إلى عمل متقن بالتمثيل.

كأن قلقك ازداد وصار لديك هاجس الموت؟

هذا شعور قديم، منذ 10 أو 12 سنة، وحينها قرّرت أن أرجع إلى العالم المسرحي. عدت عبر نصي "خذ الكتاب بقوة". وقفت على الخشبة ساعة وربعاً. قرّرت آنذاك أن أطلع من العالم الصحافي. الشعر أخذني إلى الصحافة، مع أنني خرّيج معهد الفنون الجميلة. وقدّمت مسرحية "ابتسم أنت لبناني" مع الممثل أحمد الزين في عمر الـ26 سنة. في العام 2013 قرّرت أن أعيش من المسرح وابتكار صيغة ما لذلك. إذا كنت أريد العيش حراً ومن المسرح فعليّ أن أكون مستقلاً ماديّاً، ولأكون كذلك عليّ أن أكون منتجاً لنفسي. استقلت من الصحافة وبدأت العمل في المسرح. "طلعت قرشين حطيتن بالبنك... وأخذهم".

وكيف واجهت ذلك؟

توتّرت. انقلبت حياتي رأساً على عقب. ماذا أفعل؟ أنا لا أعلّم في الجامعة، ولا أحبّ الدخول إلى التلفزيون مع احترامي للعاملين فيه، ولا أريد الرجوع إلى الصحافة. فكان ما كان. سواء كنت حزيناً أم فرحاً فأنا أكتب يومياً. أقوم بشغلي المسرحي الدائم حتى تأتي اللحظة، ولديّ مسرحيات جاهزة.

تتناول في مسرحياتك الطوائف والمناطق كلّاً على حدة، لماذا، ما هي فلسفتك لذلك؟

من عملي الأول "ابتسم أنت لبناني" كان السؤال الأول مسرحياً- سياسياً. انطلقت أيضاً من فكرة الطوائف. بطل المسرحية شيعي متزوّج من مارونية يعيش في فندق يريد أصحابه هدمه. كانت، آنذاك، الحريرية في صعود. سكنني لبنان من البداية. عندما كنت في الحزب الشيوعي كانت هناك بالنسبة إليّ فكرة بلد اسمه لبنان. بعد ذلك، ومع المسرح تغيّرت نظرتي. لم يعد لبنان مكاناً أو وطناً أتجوّل فيه إنما يتجوّل بي. وشعرت بأنني إذا كنت ابن لبنان فعليّ أن أتعرف إليه. أنا أنصب حاجزاً للبنان وأقول له قف على اليمين أو على اليسار. أستجوبه بحنان. لا أتّهمه بشيء، لكن أريد أن أعرف كم هوية في الهوية اللبنانية. هناك عشرات الهويات. عندما نبحث عن هوية صافية تبدأ الحرب. هوية واحدة يعني "أكلنا هوا". لدينا ثروة من الهويات والاختلافات. لبنان أكثر بلد "تفدرل" ولا يعترف بالفيدرالية. وكل مجموعة لديها كتاب تاريخ. وأنا لست طائفياً وأريد أن أعرف نفسي. أريد أن أعرف الروافد والينابيع. لديّ رغبة دائمة بالاستطلاع والبصبصة على المجتمعات اللبنانية. أنا جاسوس يتجوّل. أكتب التقارير عن محيطي، وأفتّش في التغييرات فيه، وأسعى إلى فهم المجتمعات وأتعلّم لغاتها. المتنوّرون لم ينزلوا إلى الشارع ولم يتعلّموا لغته. ولا أركن للأحكام المسبقة. والتجوّل في المجتمع هو سير في حقل ألغام. يجعلك ذلك حذراً. لا أطمئن للبحر الشعبي. أخافه لأنه ينقلب. هو في حالة قلق. لا أثق بالزعيم ولا بالجماهير.

تلعب في مسرحياتك لعبة خطرة، تسير على الحافة بين الأحكام المسبقة عن المناطق والطوائف والتحرّر منها، بين أخذ كل طائفة بالجملة والدخول إلى تناقضاتها وإلى الأفراد؟

أنا أضع نفسي أمام مرآة. أحياناً أكون مرآة لطائفة ما كي ترى نفسها على الخشبة. عملت مسرحيتين باللهجة الجنوبية، "مجدرة حمرا" و"شو ها؟"، ثم اشتغلت "هيكالو" عن بعلبك. هي أعمال عن الطائفة نفسها، لكنها تُبرز تناقضات ضمنها. هناك تعدّد داخل الطوائف. في "مجدرة حمرا" ثلاث شخصيات نسائية. وهذه الشخصيات، وهذه الأعمال، تخرج عن الأحكام المسبقة وتختلف عنها. ليس هاجسي الطائفة، إنما أن أُرجع الناس إلى أصولهم وإلى أنفسهم. هناك شخصيات قائمة بذاتها، وهناك روافد لها، أبحث عن الشخصيات والروافد كي تكون الشخصيات صادقة. ليس هاجسي أن أعمل مسرحاً تعبوياً كي ترى فيه الطوائف نفسها جيّدة، أو كي ترى هذه الطائفة أو تلك الطوائف الأخرى رديئة. هاجسي هو الدراما التي يعيشها كلّ فرد.

هل واجهت اعتراضات من البيئات التي تناولتها؟

واجهت إشكاليات كثيرة. لم أهتم. لا أردّ على تساؤلات. أراكم كي أخرج بخلاصات. اشتغلت "بيروت - طريق الجديدة" في عز التوتر الشيعي- السني. أتيت بمواطن لبناني وعملت كي يبرز هذه المنطقة وما فيها من جمال، خارج صورة "داعش" و"الفهود السود". عملت عرضاً لأقدّم فكري. هناك من قال لي أنت كشيعي ألا ترى إلا الطريق الجديدة؟ أو أنت لست بيروتياً فلماذا تعمل عنها مسرحية؟ العمل فرض نفسه. الإقتراح الذي قدّمته فرض نفسه. لست "أبو ملحم" كي أحبّب الناس إلى بعضهم بعضاً ولا غيفارا كي أثوّر الناس أو أقوم بثورة بدلاً من الآخرين. لست بطلاً ولا تثويرياً. ولا أريد أن أسلخ الطوائف على الطريقة الرحبانية. لا أريد أن أبجّل أحداً.

هناك وجه درامي للضحكة التي تفجّرها في مسرحك!

أنا ولدت كوميدياً. كلمة كوميديا تعني الضحك حتى الموت، إخراج اللاوعي. شرّ البلية ما يُضحك. أن تسخر من قضيتك لتعرفها، من شعبك لتعرفه. يجب أن تنتقد المقدس. المسرح هو الوجه العاري للأفكار والمجموعات. كيف إذا كنت تعيش في بلد الآلهة؟ مشهدنا مفجع. من يصدق أننا على قيد الحياة؟ لا بدّ أن ترى الوجه الدرامي لكل ضحكة. الضحك وسيلة إلى حدّ ما. الضحك حيلة لجذب الناس إلى قضية كبيرة. هي أحياناً السم في الدسم، لأنك تريد أن تفتح الأبواب المغلقة. الفضيحة تعمل كوميديا. أنا أسخر من نفسي كي أعرف أن أسخر من الآخرين. وأنا أنتقد نفسي كي أعرف كيف تنظر من الضفة الأخرى. مسرحي أقرب إلى صورة الأشعة، وأعرضها على الناس. ليس لدي علاج.

أنت ومسرحك مرتبطان بالمعاناة، بينما تُبعد الجمهور عن ذلك!

أنا في قمّة الدراما. شغلي كلّه دراميّ. أي عمل مسرحي يستغرق سبعة أشهر من التعذيب. تعذيب الممثل وتعذيبي أنا. الجمهور لا علاقة له بمعرفة هذا. حين كنّا نتمرّن على مسرحية "ضمائر منفصلة"، في بيتي القريب من الطيونة كانت الأحداث تجري هناك. الرصاص في الشارع ونحن نتمرّن على مسرحية عن الموضوع نفسه. الحياة اللبنانية هي التي تمنحني النص وتناقضاته. أريد أن أدخل إلى العمق، إلى عين اللبناني لأعرف الروح (العين مفتاح الروح). هذا ما أعمله بكثير من الكدّ والفقر. وأنا غير محميّ، لا من مؤسسة الدولة ولا من الطائفة. ولست زعلان، بل على العكس. اخترعت فكرة العيش من شباك التذاكر. وهذا حقي الطبيعي والمشروع. شباك التذاكر هو الذي حماني. البطاقة التي يشتريها المتفرّج تحمي فكرتي.

من هو جمهورك؟

"بيروت - طريق الجديدة" تحكي عن سنّة بيروت، وهؤلاء جزء ممّن شاهدوها. "اسمي جوليا" و"مجدرة حمرا" و"شو ها؟" مسرحيات عن الجنوب، والشيعة هم جزء ممّن شاهدوها. والأمر نفسه بالنسبة إلى "هيكالو" التي يشكّل البعلبكيون جزءاً ممّن يتفرجون عليها. جمهور مسرحياتي عريض. يريد أن يعرف عن المناطق الأخرى.

هناك معاناة للصناعة المسرحية، كيف تتعامل معها؟

الجمهور لا علاقة له بمشكلاتنا. والمسرحية صارت بالنسبة إليه رحلة. كلفتها صارت قضية. ثمن البطاقة، السهرة، موقف السيارة... وهذا يستدعي تحديد سعر البطاقة بدقة ومسؤولية. أزمة المسرح أزمة مازوت. عليك أن تؤمّن المازوت. أزمة طاقة. لا يمكن أن تتمرّن من دون مازوت، ولا يمكن أن تتمرّن كثيراً لأن سعر المازوت مرتفع. زيادة كلفة الإنتاج تفرض زيادة سعر البطاقة. نتمرّن قليلاً. وحرق دولاب مطاط في الشارع يربكنا.

إدارة الممثل ودوره

تميّز يحيى جابر ومسرحه بالعمل على الممثل الذي لا يُعدّ متلقياً للنص، إنما يدخله الكاتب والمخرج والمنتج في لعبة بناء العمل ككلّ، وهو أيضاً المادة الرئيسية للمسرحية. فجابر هو أكثر مَن عمل على ممثل واحد يبقى على الخشبة لـ105 دقائق. وخلال ذلك يتنقل من ريتم إلى آخر ومن حالة إلى أخرى. يلعب جابر معه حتى الوصول إلى الزمن المسرحي على الخشبة.

يكشف جابر رداً على سؤال عن كيفية إعداد مسرحياته والممثلين:

هي عملية معقّدة. إما أكون مشغولاً بفكرة وأريد أن أترجمها، فأعمل "كاستينغ"، وإما أُجري "كاستينغ" سرياً. مَن يعمل معي يجب أن يغرق، أن يتداعى ويقول ذاكرته. ومعه تبدأ عملية البحث. هو المادة، هو المنجم، هو العجين، هو ليس مَن يتلقّى النص. أنا أؤلف نصاً إخراجياً. الإخراج مع النص بعد شهور من التمارين. أنا أكتب وهو يتمرّن. وهو يكتب وأنا أشتغل. وأثناء ذلك، هو يحفظ، ليس الكلام إنما روحية الشخصية.

أحاول أن أصنع مدرسة صغيرة في إعداد الممثل. الفكرة أصل الإنتاج، لأن المسرح عملية اقتصادية وليس كتاباً فحسب. هناك عالم هائل من العاملين فيه، وصولاً إلى الظرف الأمني. نحن نعمل في ظروف انتحارية، في بلاد ليست آمنة. إذا اندلعت الحرب أعمل مسرحاً حربياً، وإذا صار في خطر أعمل مسرحاً فقيراً. المهم أن يستمرّ العمل. هذا جزء من لبننة المسرح. كل مسرحية مغامرة.


MISS 3