أنسي الحاج: تحوّلات شعرية وتمرّد وصعود إلى القمر

02 : 00

أنسي الحاج شاعر الحرية والتمرّد

"مسيرة أنسي الحاج هي مسيرة الحريّة، تلك التي انطلقت من المخاوف الشخصيّة إلى الأسئلة الكبرى. بذلك انتصر الشّعر بشعره، وعاد الشاعر معه إلى دوره الأصلي الفعّال في استخدام اللغة وسيلة لتحرير الإنسان وتغيير العالم".

بهذه الكلمات يصف الشاعر والكاتب فوزي يمّين التجربة الشعرية لأنسي الحاج (27 تموز 1937- 18 شباط 2014).



تجاوز "وقع" شعر أنسي الحاج، إضافة إلى كتابته النثرية والصحافية، على يمّين وكثيرين من أجيال الشعراء والأدباء والمثقفين ما بعد مجلة "شعر" (1957- 1970) والديوان الأول لأنسي الحاج، "لن" (1960)، التاثير في النص إلى التأثير في الأشخاص والنظرة إلى الشعر والنثر والكتابة واللغة، وإلى الشاعر والأديب، وإلى الحياة والوجود والله.

يروي يمّين في أطروحته الجامعية (دكتوراه في اللغة العربية)، بعنوان "أنسي الحاج: التحوّلات الشعرية من لن إلى الرسولة": "حين قرأت "لن" للمرة الأولى صُدمت. انفتح فمي كمسطول. شعرت أنّ أحداً يقذفني ببركان، يضربني بساطور. دفنت وجهي خوفاً بين دفّتي الكتاب، وتمتمت بشفتين متلعثمتين: نجِّني يا رب من هذا الدفق الشعوري".

وجهان وأكثر


وقد اكتشف يمّين، في رحلته مع شعر أنسي الحاج، "شاعراً شريراً، ملعوناً، مُصاباً بلوثة، مولود ضد العافية. عباراته مروّسة، استفزازية. ألفاظه ساخنة، جامحة، فاجرة. جُمله ملطومة، مدوّية، أشباه جمل. نبراته انفعالية، تموّجية. نمطه فوضوي في التوزيع والتنقيط. تلاعباته خطيّة. يعتدي اعتداء سافراً على العناصر المؤسِّسة للغة. يتعارض تعارضاً عنيفاً باتراً مع السائد الجمالي".

كذلك اكتشف "شاعر الحب. جيلاً من العشّاق. رسولاً. صوفيّاً حتّى الينابيع. شفّافاً وضّاء. له وحدة بنيوية. جُمل غنائية. نبرات إيقاعية. تكرارات. توازيات. متشابهات".

إضافة إلى اكتشافات يمّين هذه، اكتشف "شاعراً حرّاً متمرّداً. هو هو. ترتبط تناقضات صفاته، في اختلاف مراحله الشعرية، ارتباطاً وثيقاً ومباشراً بانحيازه التام والواضح إلى الحرية الفردية، حيث تضخم الأنا وتظهير صورها، في كل نزعاتها وميولها - تلك الأنا المأزومة القلقة الرافضة - ليست إلا سبيلاً إلى الحرية، ووسيلة خلاص. فلا غضبه سوى غضب مقدّس، ولا تجديفه غير حنان خفيّ على الله. في حين ينظر أغلبية البشر إلى هذه الحريّة على أنها مقامرة غير مضمونة أو معاهدة مع الشيطان".

الشيطان


ويلاحظ يمّين أن هذا التمرّد هو المساحة التي تأسس عليها الجدل والالتباس وسوء الفهم والبلبلة تجاه أنسي الحاج، فهُدد وسجن وتعرّض لكثير من الاعتراضات، بل اتُهم بالهرطقة و"تمّ تصويره شيطاناً على غلاف إحدى المجلات الدينية. إذ لم يُفهم "شرّه"/ غضبه المقدّس على أنه نموذج للتمرّد والحرية، مثل كبار المتمرّدين في كل المجالات، الذين لا يُعتبر رفضهم رفضاً آنيّاً لمسألة حياتية ظرفية، إنما رفضٌ كياني يدافع عن الحرية أينما كان، وتمردٌ على الوضعية الإنسانية بشكل عام".


"التحولات الشعرية"


وفي سياق رصد يمّين "التحولات الشعرية" في مسيرة أنسي الحاج، يتوقف عند التحول "من الرفض إلى المصالحة، من العدوانية إلى الحب، من التدمير إلى البناء، ومن اللغة المتوتّرة الصادمة إلى اللغة الغنائية الشفافة".

ويروي يمّين: "سمعت من بعض اللاهوتيين المسيحيين أنهم يسمّونه سرّاً في ما بينهم بأوغسطينوس الشعر، لِما تحتشد في تجربة الاثنين، القديس والشاعر، جدليّات متشابهة إلى مدٍّ ما: الشك والإيمان، الضلال والخلاص، الخير والشر، التواصل والانقطاع، العدوانية والحب. وقرأت أيضاً رأياً لبعض النقاد يعتبرون فيه أن كتاب "لن" يشكّل ثورة أنسي الحاج الحقيقية، وما تلاه هو خيانة له. ولا أعرف إن كان القصد هنا سلبيّاً، غير أني أجده إطراء لمسيرة الشاعر الذي أوضح هو بنفسه، في مقدّمة "لن" بالذات، أن على قصيدة النثر أن تلغي دوماً ما قبلها، بل أكثر من ذلك، أن تلغي نفسها وتخون أشكالها السابقة باستمرار، كي تنتصر على الموت وتبقى متجددة وحية".

كلمات حدث


لا تقتصر تجربة أنسي الحاج على البعد الشعري، على أهمية ذلك. فأنسي الحاج وفد باكراً إلى الصحافة في ظل والده الصحافي والمترجم لويس الحاج. لكنّه سريعاً كوّن شخصية واسماً مستقلّين. وإلى جانب نشاطه الشعري والثقافي في "صالون الخميس" ومجلة "شعر" مع رئيس تحريرها يوسف الخال والشعراء أدونيس وشوقي أبي شقرا وبدر شاكر السياب ومحمد الماغوط وفؤاد رفقة وآخرين، أسس "الملحق" الأدبي لجريدة "النهار". وشكّل مقاله الأسبوعي فيه، تحت عنوان "كلمات كلمات كلمات"، حدثاً ثقافياً، وفق ما يقول الأديب والصحافي سمير عطالله. وقد جُمعت تلك المقالات في ثلاث مجلدات تضيء على حيوية أنسي الحاج واتساع معارفه من خلال مواكبته الحياة الثقافية والفنية والسياسية في لبنان والبلدان العربية والعالم، في الستينات والسبعينات، وحتى الثمانينات بعد انتقال تلك الزاوية إلى "النهار العربي والدولي" من باريس إثر اندلاع الحرب (1975).

إضافة إلى تلك التجربة، كتب أنسي الحاج قبل توليه رئاسة تحرير "النهار" التي كان له لمسة على صفحاتها وعناوينها ولغتها بشكل عام، نصوصاً لا تتوقف أهميّتها مع نهاية اليوم. فمثلاً، "غطى" في 16 تموز 1969 من المركز الفضائي في العاصمة الفرنسية رحلة "أبولو 11" إلى القمر، فكتب تقارير تجمع بين الصحافة والشعر ونثر الحكمة الذي أخذه في السنوات اللاحقة حتّى آخر أيامه. وقد كان لقراء مجلة "الناقد" الشهرية التي أصدرتها "شركة رياض الريس للكتب والنشر"، من لندن في أواخر الثمانينات، موعد مع "خواتم" أنسي الحاج. وقد جُمعت في كتابين، ودفعت الشاعر سعيد عقل إلى القول: "قلم أنسي الحاج، الذي من نار، هو معماريّنا الأمثل". وقال الشاعر نزار قباني: "إني أحبّه وأحلم دائماً أن أقتني واحداً من خواتمه". وأفصح الشاعر محمد الماغوط بأن "الحرب قد لا تُبكيني، أغنية صغيرة قد تُبكيني، أو كلمة لأنسي الحاج". واعترف الشاعر شوقي بزيع بالآتي: "جعلني على امتداد صفحات خواتم كلّها أقف على أطراف روحي... والآن أعترف بأنني لن أستطيع العودة إلى ما كنته قبل قراءة الكتاب".

ومن أجيال الشعراء التي أثر فيها أنسي الحاج، بسام حجار الذي كتب: "بعض الشعر هو الصمت الذي يكتنف كلامه"، وعبده وازن: "خواتم انتهاك لنظام الكتابة ونظام العالم"، وعقل العويط: "نسمة مُعارة إلى الحقيقة الأبدية". وكتبت منى سابا رحّال: "صدقه العنيف القاطع الأنفاس يمشي في كتاباته كما يمشي القدر".

أما الشاعر بول شاوول فيحتفي بأن أنسي الحاج لم يساوم على الشعر ولم "يزعبر" فيها ولم يحقنها بموقف سياسي أو شعار أو قضية عابرة.

"كان هذا سهواً"


وفي رصيد أنسي الحاج عدد من ترجمات مسرحيات وأعمال عُرضت أيام عز لبنان ومهرجاناته في بعلبك وغيرها. ووزّع "نشيد الأناشيد" وقدّم له، مع رسوم للفنان بول غيراغوسيان. وبعد هذه المسيرة، وبعد رحيله، صدرت نصوص غير منشورة تحت عنوان "كان هذا سهواً"، لتُضاف إلى ديوانه الأول، "لن"، الذي أعلن في مقدّمته البيان رقم واحد لثورة توليد القصيدة من النثر، ومجموعاته الشعرية الأخرى: "الرأس المقطوع" (1963)، "ماضي الأيام الآتية" (1965)، "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" (1970)، والرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" (1975). واعادت "دار الجديد" نشرها في 1994. وقد تُرجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والبرتغالية والأرمنية والفنلندية.


MISS 3