ستيفن م.والت

بوتين محقٌّ في مسائل كثيرة خلال حربه في أوكرانيا؟

20 شباط 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في إقليم "دونباس" | أوكرانيا، 8 نيسان 2021

أخطأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جزء كبير من حساباته حين قرر غزو أوكرانيا، فبالغ في تقدير قوة جيشه، واستخف بزخم النزعة القومية في أوكرانيا وقدرة قواتها المسلّحة على الدفاع عن أراضيها. كذلك، يبدو أنه أساء تقدير مستوى الوحدة الغربية، وسرعة المساعدات التي تتلقاها أوكرانيا من حلف الناتو وأطراف أخرى، واستعداد الدول المستوردة للطاقة لفرض العقوبات على روسيا والتخلي عن صادرات الطاقة الروسية. حتى أنه بالغ في تقدير استعداد الصين لدعمه: تشتري بكين كميات كبيرة من إمدادات النفط والغاز الروسية، لكنها لا تمنح موسكو أي دعم دبلوماسي قوي أو مساعدات عسكرية قيّمة.

عند تقييم هذه الأخطاء كلها، يتبيّن أن قرار الغزو انعكس سلباً على روسيا ومن المتوقع أن تستمر تداعياته لفترة طويلة بعد رحيل بوتين. بغض النظر عن نتيجة الحرب النهائية، ستكون روسيا أكثر ضعفاً وأقل تأثيراً مما كانت لتصبح عليه لو اختار بوتين مساراً مختلفاً.

لكن يُفترض أن نعترف في المقابل بأن الرئيس الروسي كان محقاً في مسائل أخرى. لا شيء يبرر قرار شن الحرب أو طريقة تنفيذها من الجانب الروسي، لكن تكشف هذه المسائل بكل بساطة جوانب معينة من الصراع حيث أثبت بوتين أنه كان محقاً في أحكامه. يعني تجاهل هذه العناصر تكرار الأخطاء التي ارتكبها الرئيس الروسي، أي الاستخفاف بالخصم وإساءة قراءة أهم جوانب الوضع القائم.

أولاً، كانت إدارة جو بايدن تأمل في أن يمنع التهديد بفرض "عقوبات غير مسبوقة" بوتين من تنفيذ الغزو، ثم راحت تتمنى أن تكبح تلك العقوبات جهوده الحربية، وتطلق موجة من السخط الشعبي، وتجبره على عكس مساره. لكن خاض بوتين الحرب وهو مقتنع بأن روسيا قادرة على تجاوز العقوبات المفروضة عليها، وقد أثبت أنه محق حتى الآن. لا يزال الطلب على المواد الروسية الخام (بما في ذلك إمدادات الطاقة) كافياً لدعم اقتصاد البلد رغم تراجع الناتج المحلي الإجمالي بدرجة بسيطة. قد تكون العواقب المتوقعة على المدى الطويل أكثر خطورة، لكن كان بوتين محقاً حين افترض أن العقوبات وحدها لن تُحدد نتيجة الصراع قبل مرور فترة معينة على الأقل.

ثانياً، كان بوتين محقاً عندما افترض أن الشعب الروسي سيتحمّل هذه التكاليف المرتفعة وأن الانتكاسات العسكرية لن تؤدي إلى إسقاطه. ربما بدأ الرئيس الحرب وهو يأمل في خوض صراع سريع وغير مكلف، لكنّ إصراره على المضي قدماً بعد الانتكاسات الأولية يعكس قناعته بميل معظم الشعب الروسي إلى دعم قراره وقدرته على قمع أي معارضة ناشئة. وربما بدت التعبئة العسكرية الأخيرة عشوائية وفق المعايير الغربية، لكن تمكنت روسيا من إبقاء قوات عسكرية واسعة في ساحة المعركة رغم خسائرها الضخمة ومن دون تهديد سلطة بوتين. قد يتغير هذا الوضع طبعاً، لكن أثبت الرئيس الروسي أنه محق في هذه المسألة أيضاً حتى الآن.

ثالثاً، أدرك بوتين على ما يبدو أن الدول الأخرى ستسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة وأنه لن يواجه إدانة عالمية رغم كل ما يفعله. أطلقت أوروبا والولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى رداً قوياً وصارماً، لكن امتنع أهم أعضاء الجنوب العالمي وعدد من أبرز البلدان الأخرى (مثل المملكة العربية السعودية وإسرائيل) عن اتخاذ موقف مماثل. أساءت الحرب حتماً إلى صورة روسيا على الساحة العالمية، لكن بقيت مظاهر المعارضة محدودة واقتصرت على مجموعة فرعية من دول العالم.

الأهم من ذلك هو إدراك بوتين أن مصير أوكرانيا يهمّ روسيا أكثر من الغرب. لا يعني ذلك أن مصير البلد يهم روسيا أكثر من الأوكرانيين الذين يقدمون تضحيات هائلة للدفاع عن بلدهم، لكن يتفوق بوتين على أبرز داعمي أوكرانيا لأنه مستعد لتحمّل التكاليف وأخذ المجازفات. هو لا يتفوق على الآخرين لأن القادة الغربيين ضعفاء أو جبناء، بل لأن الاصطفاف السياسي في جوار روسيا يهمّ موسكو أكثر من الشعوب البعيدة عن هذه المنطقة، لا سيما من يعيشون في بلد غني وآمن على الطرف الآخر من المحيط الأطلسي.

هذا الوضع يفسّر أيضاً السبب الذي دفع الأوكرانيين وأشرس داعميهم في الغرب إلى بذل أكبر الجهود لربط مصير بلدهم بمسائل أخرى لا علاقة لها بالصراع. يقول البعض مثلاً إن سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم أو أي جزء من إقليم "دونباس" تشكّل ضربة موجعة للنظام الدولي، وتدعو الصين صراحةً إلى الاستيلاء على تايوان، وتنعكس إيجاباً على الحكام المستبدين في كل مكان، وتعكس فشلاً كارثياً للديمقراطية، وتشير إلى سهولة تنفيذ الابتزاز النووي واحتمال أن يلجأ إليه بوتين لإرسال جيشه إلى بحر المانش. يستعمل المتشددون الغربيون هذا النوع من الحجج لإقناع الغرب بأن مصير أوكرانيا يهمّهم بقدر ما يهمّ روسيا. لكنّ هذا التكتيك محكوم بالفشل. لن يتأثر مستقبل القرن الواحد والعشرين بقدرة كييف أو موسكو على فرض السيطرة في الأراضي المتنازع عليها راهناً، بل بقدرة الدول على التحكم بأهم التقنيات، والتغير المناخي، والتطورات السياسية في أماكن كثيرة أخرى.

من خلال فهم هذه التناقضات، سندرك أن منافع التهديدات النووية تبقى محدودة، وسنفهم أن المخاوف من الابتزاز النووي ليست في محلّها. لا أحد يرغب في استعمال ولو سلاح نووي واحد، لكن سيكون الطرف الذي يهتم بمسألة معينة أكثر استعداداً لأخذ مجازفات إضافية، لا سيما إذا أصبحت مصالحه الحيوية على المحك. لهذا السبب، لا يمكن استبعاد احتمال أن تستعمل روسيا سلاحاً نووياً حين توشك على مواجهة هزيمة كارثية، ويحدّ هذا الاحتمال من الخطوات التي يستطيع الغرب اتخاذها. مجدداً، لا يتعلق السبب بضعف القادة الغربيين أو جُبْنهم، بل بحسّهم المنطقي وحكمتهم.




هنري كيسنجر والرئيس ريتشارد نيكسون




هل يعني ذلك أن نرضخ للابتزاز النووي؟ وهل يستطيع بوتين استعمال هذه التهديدات لانتزاع تنازلات إضافية في ملفات أخرى؟ لن يحصل ذلك لأن دوافعه المتناقضة تصبّ في مصلحة الغرب مهما حاول تحقيق أهدافه. إذا سعت روسيا إلى إجبار الآخرين على تقديم التنازلات في مسائل مرتبطة بمصالحهم الحيوية، فلن تلقى مطالبها أي آذان صاغية. لنتخيّل أن يتّصل بوتين بنظيره الأميركي جو بايدن ويخبره بأنه ينوي إطلاق ضربة نووية إذا رفضت الولايات المتحدة إرجاع ألاسكا إلى روسيا. سيضحك بايدن حتماً حين يسمع كلامه ويطلب منه أن يعاود الاتصال به عندما يسترجع وعيه. لا تحمل التهديدات النووية القسرية التي يطلقها الخصم أي مصداقية حقيقية حين يتمسك الغرب بقوة تصميمه، ويجب ألا ينسى أحد أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لم ينجحا يوماً في استعمال الابتزاز النووي خلال الحرب الباردة الطويلة، ولا حتى ضد الدول غير النووية، رغم ضخامة ترسانة كل طرف منهما.

لا يمكن تغيير الوضع القائم إلا بطريقة واحدة، لكنها لن تكون محبذة. كلما استمر تدفق المساعدات، والأسلحة، والمعلومات الاستخبارية، والدعم الدبلوماسي، من الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى أوكرانيا، ستصبح سمعتهما أكثر ارتباطاً بنتيجة الصراع. إنه أحد الأسباب الذي دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والأوكرانيين عموماً إلى متابعة المطالبة بتلقي أشكال أكثر تطوراً من الدعم. من مصلحتهم أن يربطوا الغرب بمصيرهم قدر الإمكان. من حقهم أن يفعلوا ذلك طبعاً، إذ من الطبيعي أن يحاول أي بلد تحقيق مصالحه في هذه الظروف.

يميل الجميع إلى المبالغة في تقدير العواقب المرتبطة بسمعة الدول عموماً، لكنّ هذا النوع من المخاوف قد يضمن استمرار الحروب حتى لو لم تكن أهم المصالح المادية على المحك. في العام 1969، أدرك هنري كيسنجر أن فيتنام لا تحمل قيمة استراتيجية كبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة وفَهِم أن تحقيق النصر هناك غير ممكن. لكنه أعلن في مطلق الأحوال أن "التزام 500 ألف أميركي هو الذي يحدّد أهمية فيتنام لأن المسألة الأساسية الآن تتعلق بتعزيز الثقة بالوعود الأميركية". انطلاقاً من هذه القناعة، أصرّ كيسنجر والرئيس ريتشارد نيكسون على استمرار التورط الأميركي في الحرب لأربع سنوات إضافية، فبدأت محاولات عقيمة "لإرساء السلام بطريقة مشرّفة". قد ينطبق الدرس نفسه على قرار إرسال دبابات "أبرامز" أو طائرات "ف-16" إلى أوكرانيا: كلما أصرّ الغرب على إرسال أسلحة إضافية، سيصبح أكثر التزاماً بالصراع. لكن حين يقتنع الطرفان بأن مصالحهما الحيوية تفرض عليهما إلحاق هزيمة حاسمة بالخصم، ستزداد صعوبة إنهاء الحروب ويصبح التصعيد أقرب إلى الواقع.

مجدداً، لا يعني كل ما سبق أن بوتين كان محقاً في شن الحرب أو أن حلف الناتو أخطأ في حساباته حين قرر مساعدة أوكرانيا. لكن لم يكن بوتين مخطئاً في كل فعله، وقد يسمح الاعتراف بالمسائل التي أصاب فيها برسم مسار أوكرانيا وداعميها خلال الأشهر المقبلة.


MISS 3