رامي الرّيس

الثنائيّات المناقضة للتعدّدية!

22 شباط 2023

02 : 00

سواء أعيد تعويم «تفاهم مار مخايل» وإنعاشه بعد دخوله في حالة موت سريري أم تمّ إعلان وفاته، ففي الحالتين ستكون الخلاصة السياسيّة واحدة: التفاهمات الثنائيّة في الأنظمة التعدديّة لا تعدو كونها تقاطعات مصلحيّة ظرفيّة تخدم حصراً الفريقين الموقعين دون سواهما، ولا تصب حتماً في المصلحة الوطنيّة، كي لا نقول إنّها تقف على طرفيْ نقيض معها!

كلّ العناوين البراقة التي ألبست لهذا التفاهم منذ توقيعه في العام 2006 إلى اليوم هي مجرّد غطاء سياسي وإعلامي توسّله كل من الطرفين لإرساء قواعد عمل مشترك تخدمهما. الأول يبحث عن «غطاء مسيحي» لأنشطته وأعماله وأجندته العابرة للحدود، والثاني مستعد لتسليف مواقف غبّ الطلب في موضوع «السلاح والمقاومة» مقابل التغاضي عن سياساته، مهما كانت مدمرة ومكلفة، في الساحة الداخليّة.

على هذه القاعدة من التوازن الدقيق، صاغ كل من الطرفين سياساته ومواقفه. لم يأبه الرئيس ميشال عون أثناء ولايته الرئاسيّة لأن ينشئ ذاك التطابق الكامل بين الخطاب الرسمي اللبناني وخطاب «المقاومة»، وهو ما سبّب ضرراً سياسيّاً واقتصاديّاً كبيراً على البلد لا تزال تداعياته قائمة إلى يومنا هذا. في غالبيّة مواقفه المرتجلة والمكتوبة، سجّل إلتزاماً تاماً بحماية هذا التطابق، ولو على حساب المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة. لا يهم!

يسوق العديد من المدافعين عن التفاهم، في أوج «نجاحاته» كلاماً وذرائع من النوع الذي يضعه في مرتبة «حماية السلم الأهلي»، ومنع «الانزلاق إلى الحرب الأهليّة». طبعاً، هذه العناوين كانت بعيدة تماماً عن الواقع، وسرعان ما تبيّن أنّ هذه الشعارات مخصصة لجمهوري الفريقين بهدف إلباس التفاهم لبوساً «وطنيّاً» هو أبعد ما يكون عنه بحكم إنطلاقه حصراً من ثنائيّة تختصر المشهد وتبتعد عن الصيغة التعدديّة التي تطبع الواقع اللبناني والتي لا يمكن تجاوز أطرها السياسيّة والدستوريّة.

بطبيعة الحال، إنّ التحالف بين أي فريقين سياسيين هو حق ديمقراطي في إطار اللعبة السياسيّة. ولكن، إذا كان هذا الحق المشروع من بديهيّات العمل السياسي في يومياته واستراتيجياته، إلّا أنّه لا يتيح الانطلاق منه للانقضاض على الأسس الديمقراطيّة ومن ثم زيادة تشوهاتها فقط في سبيل المصلحة الوطنيّة العليا. إنها مفارقة غريبة: أن يسعى أي تفاهم ثنائي عُقد تحت «الراية الديمقراطيّة» إلى ضرب الفكرة الديمقراطيّة بذاتها وتشكيل سوابق سياسيّة والسعي إلى تثبيتها في إطار الحياة الوطنيّة هو بمثابة استخفاف بمصالح اللبنانيين وإشاحة كاملة للنظر عن المجازفة التي يولدها الرقص على أوتار التوازنات الداخليّة الدقيقة.

الواقع أنّ طبيعة النظام التعددي اللبناني تلفظ الثنائيّات التي غالباً ما قد «تورّط» البلاد بمغامرات تفوق طاقتها أو بحسابات تتجاوز إمكانيّات الأطراف الأخرى المعنيّة بالصراع بأن تتقبلها لأنها تمثّل في مكانٍ ما محاولة لإحلال موازين قوى جديدة تطيح بالتوازنات القائمة وتعرّضها لاهتزازات كبرى من غير المستبعد أن تنفجر بشكل عنفي في وجه اللبنانيين جميعاً، وهو ما حصل عمليّاً عند اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة سنة 1975.

إذاً، القراءة النقديّة لأي تفاهمات ثنائيّة يُفترض أن تتجاوز الأسباب الموجبة التي ترسمها وتسوّقها الجهات المعنيّة وأن تذهب نحو البحث المعمق في إنعكاسات ذلك على الصيغة اللبنانيّة برمتها من حيث طبيعة تكوينها ودورها وسبل الحفاظ على ديمومتها.

عندما تتحوّل تلك العلاقات الثنائيّة إلى بازار للابتزاز السياسي المتبادل، فهي تعكس الصورة الرخيصة للسياسة التي ترتكز بشكل حصري على المحاصصات وتوزيع المغانم. للسياسة الكثير من المعاني الأخرى غير المكاسب المصلحيّة، هي معنيّة أولاً وأخيراً بقيادة المجتمع نحو التقدّم والحداثة من دون إغفال الأخلاق التي تأتي في المرتبة الأولى.