نحو اتحاد أقوى ماذا حصل للفكرة الأوروبية الأصلية

11 : 29

قد يكون الاتحاد الأوروبي من أكثر التجارب طموحاً ونجاحاً على مستوى التعاون الدولي الطوعي في التاريخ. فقد صمد أكثر من معظم الديموقراطيات الوطنية في العالم المعاصر. لكنه يبقى باهتاً على نحو مريع. لا عجب إذاً في أن يتهرب الروائيون من تناول سياسات الاتحاد الأوروبي. كيف يجد أي كاتب مصادر الإلهام التي يحتاج إليها بين مباني بروكسل الفولاذية والزجاجية الخانقة، حيث يُحضّر البيروقراطيون الحذقون والدبلوماسيون المستقيمون سياسياً وجماعات الضغط العدائية تنظيمات السوق؟



قَبِل الكاتب النمسوي الشهير روبرت ميناس هذا التحدي. منذ عشر سنوات، انتقل إلى بروكسل لكتابة أول رواية عظيمة عن الاتحاد الأوروبي. فأنتجت جهوده كتاب Die Hauptstadt الذي نُشِر في العام 2017 وفاز بجائزة الكتاب الألماني، أهم جائزة أدبية في العالم الناطق باللغة الألمانية. ظهر الكتاب حديثاً باللغة الإنكليزية بعنوان The Capital (العاصمة)، من ترجمة جيمي بولوش وإنتاج دار نشر "ليفرايت"، وهو مؤلف من 416 صفحة.

يكثر منتقدو الاتحاد الأوروبي، وهم ينقسمون إلى معسكرين: فريق مقتنع بضرورة أن تقلّص بروكسل جهودها، وآخر مقتنع بضرورة أن تبذل جهوداً إضافية. يؤكد الفريقان سعي الاتحاد الأوروبي إلى استبدال الدول القومية، لكن يرفض الفريق الأول هذا الهدف، بينما يرحّب به الفريق الثاني. يشمل الرافضون المشككين بالاتحاد الأوروبي، أي المسؤولين عن "بريكست" وحلفائهم الشعبويين والقوميين اليمينيين في فرنسا والمجر وإيطاليا وبولندا. يظن هؤلاء المنتقدون أنهم يدافعون عن مفهوم الدولة القومية في وجه "دولة الاتحاد الأوروبي العظمى" التي تميل إلى فرض الاشتراكية. انتهى كتاب The Capital قبل إقرار "بريكست" وتوسّع المخاوف من التدخل الروسي في الديموقراطية الأوروبية، لذا يتجاهل العمل هذه الآراء عموماً.

يُركّز مينــاس على الفريق الثاني من المنتقدين، أي أولئك الذين يتذمرون لأن الاتحاد الأوروبي لا يتقدم بدرجة كافية. بشكل عام، يكون أعضاء هذه المجموعة يساريين في توجهاتهم السياسية ويعتبرون الاتحاد الأوروبي بناءً نيوليبرالياً خطيراً ينشر مظاهر اللامساواة ويحمي المؤسسات ويُضعِف السياسات الحكومية التقدمية. يظن هؤلاء المنتقدون أن أوروبا يجب أن تتجه نحو "اتحاد أقوى من أي وقت مضى" من خلال صياغة سياسات مالية واجتماعية أوروبية أكثر سخاءً، والاحتماء من آثار العولمة والليبرالية القاسية، والحد من تلوث البيئة وصلاحيات الشركات، والدفاع عن حقوق الإنسان، ومحاربة القومية والشعبوية اليمينية.

لا يلقى المنتقدون اليساريون للاتحاد الأوروبي اهتماماً إعلامياً بقدر نظرائهم اليمينيين، أقله في الصحافة الناطقة باللغة الإنكليزية، لكن يرتفع عددهم على الأرجح في أنحاء أوروبا، لا سيما في بروكسل. تنتمي أكثر الشخصيات تعاطفاً واتزاناً في كتاب ميناس إلى هذه المجموعة. كان الاتحاد الأوروبي برأيهم مشروعاً مثالياً منذ البداية، ولطالما تحسنت حظوظه أو ضعفت بحسب طموحات داعميه. خلال الخمسينات، كان مطلقو مفهوم التكامل الأوروبي سياسيين معتدلين عموماً، معظمهم من الديموقراطيين المسيحيين الذين اعتبروا الفدرالية أداة لهزم القومية والتطرف السياسي الذي سبّب الصراعات على مر قرنين في أوروبا، قبل أن تبلغ الأحداث ذروتها في الحرب العالمية الثانية. برأي المثاليين في كتاب ميناس، نشأ الاتحاد الأوروبي في الأصل لمنع اندلاع حرب أخرى في أوروبا أو ظهور ما يشبه معسكر الاعتقال "أوشفيتز"، وذلك من خلال تجريد الدول القومية من سلطتها وصلاحياتها واستبدالها بنظام حكم عابر للأوطان.




يتبنى كتاب The Capital نسخة مختلفة جداً من هذا الانتقاد، فيطلق هجوماً على لسان الأستاذ النمسوي المتقاعد ألويس إرهارت. لم تعد الدول القومية برأيه تعكس أي قناعات أو ممارسات مشتركة، فكيف بالحري القيم الأخلاقية المهمــة؟ بل أصبحت صناعة السياسة تحت سطوة المزارعين والشركات متعددة الجنسيات ومصالح خاصة أخرى قابلة للرشوة. وحين تتضارب تلك المصالح الضيقة، تتعثر سياسة الاتحاد الأوروبي. اتضحت هذه النزعة في المراوغات اللامتناهية حول ميزانية الاتحاد وفي امتناع ألمانيا عن التصرف بسخاء إضافي مع الدول المدينة في منطقة اليورو، على غرار اليونان. الأسوأ من ذلك برأي إرهارت هو أن السياسيين يسوّقون مفهوم القومية، فيقتنع المواطنون بأن ادعاءاتهم المحدودة مبررة أخلاقياً وسرعان ما تُعميهم عن هويتهم الحقيقية كأوروبيين أو كائنات بشرية. وحتى المفكرون المرتبطون بسياسة الاتحاد الأوروبي يفتقرون إلى أي رؤية مستقبلية. يقول إرهارت غاضباً إن هؤلاء الأشخاص ليسوا أفضل من "البراغماتيين" الذين دافعوا عن العبودية في اليونان القديمة، أو انخفاض الأجور خلال الثورة الصناعية، أو تنفيذ أوامر هتلر.من بين جميع الآراء التي تؤيدها رواية ميناس ضمناً، يتعلق أكثرها التباساً بمستقبل أوروبا. حتى لو أغفلنا غموض رؤيته، يكمن وراءها سؤال مقلق: هل سيكون تدمير الدول القومية أو بناء دولة أوروبية في حقبة ما بعد القومية عملاً شرعياً بنظر الأوروبيين؟ في هذا المجال، يطرح ميناس قناعة أخرى تتماشى مع اليسار الأوروبي: التعبير عن ثقة عمياء بالديمقراطية الجماهيرية. سيكون النظام الجديد شرعياً برأي ميناس لأن مسار النقاشات الديموقراطية العابرة للأوطان سيدفع الرأي العام الأوروبي حتماً إلى تبني قيم لها طابع عالمي وتضامني إضافي. لو أن الحشود الأوروبية تُبنى عن طريق مسار مماثل، كانت لتعارض بشدة القومية والعنصرية وتزيد دعمها للتكامل الأوروبي في مجالات مثل السياسة المالية والاجتماعية وتصبح أكثر انفتاحاً على الهجرة، على أن تحصل هذه الخطوات كلها على حساب الحكومات الوطنية.

لكن تبقى هذه القناعة بعيدة المنال، أو حتى خيالية، كما أثبت تاريخ الاتحاد الأوروبي الحديث. أدت ظاهرة مشابهة لرؤية ميناس، لكن من دون الإصرار على التمثيل الإقليمي، إلى محاولة إصلاح العجز الديمقراطي المزعوم في الاتحاد الأوروبي، في أواخر التسعينات، من خلال وضع دستور أوروبي. زعم المدافعون عن هذا المشروع حينها أن النقاشات الحيوية والانتخابات الأكثر تنافسية في البرلمان الأوروبي ستُشجّع على المشاركة الحاشدة وتوعية الناخبين وتعميق التفكير، وصولاً في نهاية المطاف إلى توسيع الثقة والدعم تجاه الاتحاد الأوروبي. لكن حصل العكس تماماً. في الاستفتاءات والانتخابات، صوّت الأوروبيون عشوائياً، فتجاهلوا أهم الحقائق وفضّلوا القيم القومية المبهمة على حل المشاكل بطريقة براغماتية. بدل أن يكون البرلمان الأوروبي رمزاً للانفتاح العالمي، أصبح مصدراً لتشريع وتمويل المشككين بأوروبا، على غرار نايجل فاراج، أحد السياسيين البريطانيين وراء الحملة الداعمة لخطة "بريكست" في العام 2016. وفي الانتخابات الوطنية، زاد نفوذ الشعبويين والقوميين على حساب الديموقراطيين الاجتماعيين.

على عكس ميناس كاتب المقالات، يدرك ميناس الروائي الساخر أن خططه الرامية إلى إعادة إحياء النزعة المثالية الأوروبية محكومة بالفشل. في رواية The Capital، يبدو جميع المثاليين الحقيقيين متقدمين في السن أو وحيدين أو مختلّين أو أمواتاً، ولا علاقة لهم بالعالم المعاصر. وبغض النظر عن حجم التزام القادة الأوروبيين بتجنب الحروب والإبادات الجماعية بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً، لم يشهد أي مواطن في الاتحاد الأوروبي تحت عمر الخامسة والسبعين (باستثناء المهاجرين وبعض سكان كرواتيا) هذا النوع من الأحداث. ولا يعتبر أي منهم الحرب أو الإبادة الجماعية تهديداً واقعياً اليوم في قارة تنتشر فيها دول ديموقراطيـة ومُكتفيـة وطنيــــاً ومترابطة اقتصادياً.

لكن لا يمكن اعتبار نزعة ميناس المثالية غريبة، بل يتقاسمها معظم قادة الأحزاب اليسارية الأوروبية، فضلاً عن الفلاسفة الاجتماعيين اليساريين، على غرار يورغن هابرماس. إذا لم يكن الإيمان بالديموقراطية بعد عصر القومية في محلّه، لماذا يتمسك اليسار الأوروبي بهذه الرؤية؟ يتعلق السبب جزئياً باعتبار هذه الفكرة وهماً مريحاً بنظر الديموقراطيين الاجتماعيين الأوروبيين الذين يواجهون تناقضات هائلة. من جهة، هم فدراليون أوروبيون في المبدأ. ومن جهة أخرى، يبغض هؤلاء عدداً كبيراً من سياسات الاتحاد الأوروبي النيوليبرالية. لتدوير الزوايا، هم يقنعون أنفسهم بأن جميع الأفرقاء لن يقوموا بالصواب إلا إذا استبدلت أوروبا الدول القائمة بديموقراطية غير قومية وقيم عالمية. نتيجةً لذلك، يطلق أصدقاء أوروبا أحكاماً أقسى من المشككين بها على كيان الاتحاد الأوروبي، ما يؤدي إلى إضعاف التكامل الأوروبي.

تشكّل المثالية في حقبة ما بعد القومية فرصة ضائعة لأنها تُضعِف قدرة اليساريين على محاربة مؤيدي "بريكست" والقوميين المحافظين. خوفاً من فشلٍ انتخابي يشبه ما واجهه مؤيدو "بريكست" والمرشّحة اليمينية لرئاسة فرنسا، مارين لوبان، في العام 2017، عمدت جميع الأحزاب السياسية اليمينية تقريباً إلى تخفيف انتقاداتها تجاه الاتحاد الأوروبي. وبالكاد يصرّ قادة الأحزاب اليمينية على إجراء استفتاء حول الانسحاب من الاتحاد أو التخلي عن اليورو، فيزعمون أنهم سيعملون من داخل نظام الاتحاد الأوروبي لإضعافه، لكن من المعروف أن فرص نجاح هذه الاستراتيجية ضئيلة. قد يبقى المشككون بالاتحاد الأوروبي في السلطة، لكن يعود السبب الأساسي إلى امتناع اليساريين عن اقتراح مفهوم متماسك أو شرعي أو قابل للتنفيذ عن مستقبل أوروبا. بدل الخطط الجذرية، يحتاج الأوروبيون فعلياً إلى رؤية تقدّر إيجابيات السياسات المتزنة والواقعية. في هذا السياق، يمكن اعتبار الإدانات الساخرة للبراغماتية في كتاب The Capital جزءاً من المشكلة، لا الحل!


MISS 3