جوزيف حبيب

أوكرانيا وأوروبا نحو ولادة قيصرية جديدة

24 شباط 2023

02 : 01

كنيسة متضررة في إحدى قرى منطقة خاركيف (أ ف ب)

لم ينسَ سكّان الدول الأوروبّية التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق أو حلف وارسو، والمعروفة اليوم بمجموعة «بوخارست 9»، القمع والاضطهاد والمآسي والمجاعات والويلات التي ألمّت بهم إبّان تلك الحقبة السوداء من تاريخ أوروبا الشرقيّة. وباستثناء الأقليّات الإثنية الروسيّة المتواجدة في بعض تلك الدول بحكم عمليات النقل الديموغرافي الممنهجة التي كانت تحصل داخل الاتحاد السوفياتي خصوصاً، فإنّ الغالبيّة الساحقة من سكّان شرق أوروبا يرفضون أن يكونوا ضمن «أجرام دولتية» تدور في فلك نفوذ «الدب الروسي».

وهذا الأمر دفع بولندا والمجر وتشيكيا وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا، الأعضاء السابقون في حلف وارسو، وأستونيا ولاتفيا وليتوانيا، الجمهوريات السوفياتية السابقة في البلطيق، إلى الإنضمام إلى الناتو لحماية استقلالها وسيادتها وحرّيتها من الأطماع التوسعيّة الأمبراطوريّة للجار الروسي العملاق. وهذا الإنقلاب الجذري المتتالي في «الاتجاه الاستراتيجي» لهذه الدول، استفادت منه واشنطن لتعزيز الجناح الشرقي للناتو وتشديد الخناق على الحدود الغربية لروسيا، في إطار سياسة «الاحتواء» المعهودة. وهذا بالذات ما دفع الأوكرانيين إلى إطلاق «ثورة الكرامة» في 18 شباط 2014 في «ميدان الاستقلال» في كييف، حيث تمكّنوا من الاطاحة بحكم الرئيس المخلوع فيكتور يانوكوفيتش الموالي لموسكو، بعد أيّام معدودات من اندلاع شرارة «ثورة الميدان».

حتّى أن غالبيّة البيلاروسيين باتوا أقرب إلى الغرب منه إلى روسيا، علماً أن بيلاروسيا تُعتبر بمثابة «موطئ القدم» الأخير لموسكو في أوروبا الشرقيّة، بالطبع إذا استثنينا منطقة كالينينغراد الروسيّة الاستراتيجيّة الواقعة بين ليتوانيا وبولندا والمطلّة على بحر البلطيق، إضافةً إلى إقليم ترانسنيستريا الإنفصالي الموالي لموسكو في شرق مولدوفا. ويحكم بيلاروسيا نظام مستبدّ بقيادة الرئيس المشكّك في شرعيّته ألكسندر لوكاشينكو، الحليف الوثيق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي استطاع قمع انتفاضة شعبيّة استمرّت لشهور بين 2020 و2021، بالقوّة والترهيب والاضطهاد والاعتقال. وانتهى الحراك الشعبي بسجن قسم من قادة المعارضة ونفي البقية إلى الخارج.

على الرغم من تسخير الكرملين مقدّرات هائلة، إعلاميّة وثقافيّة ودينيّة وديبلوماسيّة واستخباراتيّة، لخلق رأي عام موال لروسيا ولأجندة موسكو، إلّا أن سحر «البروبغندا الروسية» لم تأتِ بالنتيجة المرجوّة منها، بحيث خسرت موسكو عمليّاً شرعيّتها عند شعوب دول أوروبا الشرقيّة التي حسمت قرارها بالتوجّه غرباً. واليوم، تستذكر أوكرانيا ومعها أوروبا والعالم بأسره الذكرى السنوية الأولى لبداية الغزو الروسي المشؤوم للبلاد في 24 شباط 2022، عندما ظنّ أو راهن كثيرون على نهاية «الحقبة الأوروبّية» في كييف وسقوط النظام الموالي للغرب وعودة أجهزة الاستخبارات الروسية للتحكّم بمصير أوكرانيا. لكن كما كان قرار شعوب غالبيّة دول شرق أوروبا بالتحرّر من نير النفوذ الروسي، كان قرار السواد الأعظم من الأوكرانيين باختيار حرّية قرارهم، الذي وبعكس بقيّة تلك الدول، كان ثمنه غالياً ولا يزال.

لقد استهان كثيرون بالشعور القومي القوي والواسع في الشارع الأوكراني، بيد أن هذا الشعور لم يخترق «الدفاعات المجتمعيّة» الصلبة لدى الوجدان الجماعي للأقليّة الإثنية الروسية التي لها وزنها الديموغرافي في أقصى شرق البلاد وجنوبها، حيث يقتضي مقاربة وضعيّتها بطريقة عادلة ومنطقيّة لتسهيل ايجاد حلّ للحرب عبر تسوية شاملة توافق عليها كييف وموسكو، بمباركة أممية، تتضمّن تقديم ضمانات أمنيّة متبادلة وملموسة بإشراف وسطاء دوليين ورعايتهم، وتُعطي كلّ ذي صاحب حقّ حقّه، إذ من حقّ «الشرقيين» أن يُحدّدوا خياراتهم كما يُريدون بكامل إرادتهم، ومن حقّ «الغربيين» أن يفعلوا الأمر ذاته، من دون أي عقدة أو خوف أو «خطوط حمر» أو أي نظرة أيديولوجية انصهارية بالية.

مفتاح الحلّ الشامل والمستدام ينطلق من حسن النوايا تجاه «الآخر» المختلف واحترام حقّه برسم مستقبله كما يراه مناسباً لنفسه. لكنّ الحرب تضرب احتمالات ترميم ولو الحدّ الأدنى من «ثقة متبادلة» يجب توافرها بين الطرفين، إن وجدت أصلاً، لا بل يُعمّق استمرارها واستعارها الأحقاد بين الأوكرانيين والروس، لا سيّما إذا ذهبت موسكو إلى حدّ استخدام أسلحة نوويّة أو بيولوجيّة أو كيماويّة، ويُصعّب بالتالي علاقاتهما الثنائيّة المستقبليّة التي لا مفرّ منها بحكم الجغرافيا والتاريخ. بالتأكيد ستبرز صعوبات متعدّدة تعترض ترجمة أي حلّ سياسي مقترح، متّصلة بمدى قابليّة القيادتَين الأوكرانيّة والروسيّة على تقديم تنازلات قاسية ستترتّب عنها تداعيات جذريّة وعميقة، فضلاً عن حسابات جيوستراتيجيّة وجيوسياسيّة وجيوقتصاديّة وعسكريّة حسّاسة تدخل على الخطّ وتُعقّد طموحات الشعوب في حقّها بتقرير مصيرها بحرّية، أو حتّى قد تحول دون ذلك.

ستكون لموازين القوى في الميدان كلمة وازنة في تحديد شكل أي تسوية مستقبليّة وفحواها، وهذا ما يُثير المخاوف من احتدام الحرب أكثر وارتفاع كلفتها البشريّة والماديّة، وازدياد مخاطر تداعياتها المأسويّة البعيدة المدى، فيما تبقى حقيقة واحدة ناصعة تتلخّص بأنّ روسيا ما زالت تخسر في حساباتها الجيوسياسيّة المعقّدة في أوروبا الشرقيّة وعلى طول حدودها الغربيّة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وخسائرها تتعمّق مع مرور الوقت، كان آخرها وضع «القطار السريع» لإنضمام فنلندا والسويد إلى الناتو على سكّته التنفيذيّة. لو أحسنت روسيا الاستثمار في الشعوب المحيطة بها والتعامل معها بندّية عبر التاريخ، لكانت صاحبة النفوذ الأوّل في شرق أوروبا بلا منازع ومن دون ضربة كفّ واحدة، بيد أن الحال معاكسة تماماً.

بغضّ النظر عن مسار الحرب الروسيّة في أوكرانيا والنتائج التي قد تترتّب عنها في المستقبل القريب أو المتوسّط أو حتّى البعيد، تشهد أوكرانيا ومعها أوروبا برمّتها مرحلة تاريخيّة دقيقة في أبعادها كافة، ستولد من خلالها أوكرانيا وأوروبا جديدتين، ولو قيصريّاً. أوكرانيا سيّدة وحرّة ذو وجه غربي ينفض الغبار عن الماضي ومستنقعات فساده. وأوروبا قويّة وأقلّ اتكاليّة على الولايات المتحدة ومتحرّرة من «مخالب» الواردات الحيوية لـ»الدب الروسي»، وأكثر استقلاليّة على صعيد الطاقة وفي ما يتعلّق تحديداً بالسياستَين الخارجيّة والدفاعيّة. وبالتالي، ولادة مقاربة استراتيجيّة أوروبّية موحّدة مع كلّ ما يلزمها من أدوات قانونيّة وسياسيّة وتنفيذيّة وعسكريّة وأمنيّة ذات صلة، تُمكّن الاتحاد الأوروبي من مواجهة التحدّيات العالميّة المتفاقمة في بقاع الأرض كافة من موقع «القوّة العظمى» الفاعلة على الساحة الدوليّة.