ما زال هذا المشروع المقر حديثاً من اللجان النيابية المشتركة مدار نقاش؛ وقراءته تستدعي الملاحظات التالية:
أ ـ عدم المساس بحقوق المودعين
نصّت المادة الاولى في المشروع على ما يلي:
" ان حقوق المودعين المحفوظة والمكرسة بالدستور والقانون لا يجوز المساس بها اطلاقا، وان الضوابط الاستثنائية والمؤقتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية التي تتضمنها مواد هذا القانون ونصوص اي قانون آخر لا تشكّل مساسا بحقوق المودعين واصول ودائعهم".
تعمّد المشترع وضع هذا النص في مستهل مشروع القانون لطمأنة المودعين الى ودائعهم المصرفية. فأطلق فكرتين اساسيتين:
الفكرة الاولى مبدئية ومفادها " ان حقوق المودعين المحفوظة والمكرسة بالدستور والقانون لا يجوز المساس بها اطلاقاً ".
والفكرة الثانية تركز على الطابع الاستثنائي للمشروع اذ ورد فيها " ان الضوابط الاستثنائية والمؤقتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية التي تتضمنها مواد هذا القانون ونصوص اي قانون آخر لا تشكل مساسا بحقوق المودعين واصول ودائعهم ".
هذا يعني تشديداً من المشترع على الطبيعة " الاستثنائية والمؤقتة " للضوابط على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية، اذ يبقى الاصل عدم المساس بحقوق المودعين المحفوظة والمكرسة دستورياً وقانونياً. فهل هذا " الإعلان " الصادر عن المشترع يكفي لطمأنة المودعين على ودائعهم المصرفية ؟
من حيث المبدأ، استبعد المشترع فكرة " المساس " بحقوق المودعين؛ اي انه استبعد اي فكرة ترمي الى " قضم " الودائع كلياً ام جزئياً؛ ما يعني ان الودائع غير قابلة للمس. ولكن هذه الطمأنة لا تكفي اطلاقاً، لان المودع ليس فقط بحاجة الى هذا " الاعلان " في مستهل المشروع ليطمئن الى ودائعه، بل هو بحاجة الى خطة عملية وممنهجة لاسترجاع ودائعه، او على الاقل لطمأنته عملياً وفعلياً وليس قولاً وتعبيراً بان ودائعه لن تمس وأنها ستعود له يوماً من الايام مهما طال الزمن. نحن نرى بان هذا الاعلان هو من قبيل رفع العتب وامتصاص النقمة الشعبية وللمساعدة على تمرير مشروع القانون ليس أكثر، طالما انه لا توجد اي خطوات عملية تشريعية تؤدي الى " عدم المساس " بالودائع وحمايتها من جهة، والى تمكين المودع من استرجاعها يوماً ما، ولو بعد حين.
ب ـ الطابع الاستثنائي والمؤقت
نص المشترع في عنوان المشروع وفي المادة الاولى منه انه " استثنائي ومؤقت "، كما نص في المادة الحادية عشرة منه والاخيرة انه " يسري لمدة سنة قابلة للتجديد في مجلس النواب بناء على اقتراح اللجنة".
إن قابلية تمديد العمل بالقانون تجعل منه غير محدود في الزمن، فالطابع الاستثنائي لا يكفي لطمأنة المودعين الى ودائعهم المصانة نظرياً بالدستور والقانون، كذلك الطابع المؤقت للقانون، قد أُفرغ من مضمونه بإقرار قابليته للتمديد دون ربط هذه القابلية بمدة قصوى لا يصح بعدها التمديد.
يعلم القاصي والداني حق المعرفة بان الضوابط المنصوص عنها في المشروع، قد تكرست عملياً منذ 18 تشرين الاول 2019 وما زالت، سواء عبر تعاميم صادرة عن حاكم مصرف لبنان او بمجرد الممارسة المصرفية، وانها سوف تستمر بغياب اي اصلاح اقتصادي، وهذا أمر غير متيسّر حالياَ بغياب اي حل سياسي ( بل وطني ) شامل للبنان.
إن الطابع المؤقت، كما الطابع الاستثنائي، مرشح للامتداد في الزمن؛ وجل ما في الامر، ان ما كان مكرساً واقعاً او بالتعاميم الصادرة عن حاكم مصرف لبنان، سيستمر بدون اي حدود زمنية بغياب اي حل للبنان. وأخشى ما اخشاه ان يكون هذا المشروع مجرد " مستند " مطلوب من لبنان من صندوق النقد الدولي، لا يشفي غليل مودع آلمه الوضع المصرفي المتمادي وبات، ليس فقط يخاف على مصير ودائعه، بل على القطاع المصرفي بأكمله، خصوصاً وان هذا المشروع، كما سنأتي على بيانه ادناه، لم يترافق مع خطة لتأهيل المصارف او اعادة حوكمتها من جديد. وهذا ما أطلق عليه مرارا تسمية اعادة هيكلة المصارف.
ج ـ المصارف المقصودة بالمشروع
لا بد من القول بان المصارف الاجنبية هي ايضاً مقصودة بمشروع القانون، وان لم يرد النص عنها بصورة مباشرة في المادة 2 – 1 المخصصة لتعريف المصارف المقصودة بالمشروع، التي ورد فيها " يعتبر مصرفاً عاملاً في لبنان الخ "؛ ما يعني انه ليست فقط المصارف اللبنانية هي المقصودة، بل ايضاً فروع المصارف الاجنبية العاملة في لبنان.
د ـ اللجنة المنشأة بموجب المشروع
نص المشروع في المادة الثالثة منه على انشاء لجنة مؤلفة من اهل القانون ( ثلاثة اسماء من نقابة المحامين ) (1)، اهل الاقتصاد والصناعة ( ثلاثة اسماء من المجلس الاقتصادي الاجتماعي )، اهل الصحة والدواء ( ثلاثة اسماء من نقابتي الصيادلة والاطباء )(2)، واهل النقد والمال (ثلاثة اسماء من نقابة المحاسبين المحلفين ). وإذا تعذر تقديم اسماء خلال شهر من طلبهم، تقوم الحكومة بالاختيار. ويتم تعيينهم بقرار يصدر عن مجلس الوزراء بناء لاقتراح من رئيسه. ويمكن ان تستعين اللجنة بمن تراه مناسباً من اهل الاختصاص. وتخضع قراراتها الادارية للمراجعة امام مجلس شورى الدولة. اما القرارات الماسة بحقوق خاصة، فتخضع للمراجعة امام القضاء العدلي المختص.
اول ما يلفت انتباهنا في تأليف هذه اللجنة ان المودعين غير ممثلين فيها، كذلك الاتحاد العمالي العام ! فليس كافياً ان يحصر تمثيل القطاعات الاقتصادية والصناعية بالمجلس الاقتصادي الاجتماعي، دون تمثيل الاتحاد العمالي العام بصورة مباشرة. كما ان عدم تمثيل المودعين فيها يشكل نقصاً هائلا ًفي المشروع، من شأنه ان يفرغه من مضمونه. إذ كيف يعقل الاّ يكون المعنيون الاساسيون بالمشروع ( اي المودعون ) غير ممثلين فيه !؟
لن نطيل الكلام هنا، اذ ان البند 2 من المادة الثالثة من المشروع نصّت عن تحديد عمل اللجنة المذكورة بموجب قرار يصدر عن مجلس الوزراء وبموجب مراسيم تنظيمية ونصوص تطبيقية لازمة لوضع القانون موضع التنفيذ؛ على ان تؤلف في سبيل تحقيق كل ذلك لجنة وزارية، تضع اقتراحات في هذا الشأن.
فلو اخذنا مثلاً الطعون، فيجب تحديد مهل الطعن وآليته؛ هل هي الآلية والمهل العادية ام هناك مهل وآليات أخرى ؟
كما انه بالنسبة للطعون امام القضاء العدلي المختص، فلم يتم تحديد المحكمة المختصة؛ هل سيتم استحداث محكمة خاصة، ام ان المحاكم العادية ستكون هي المختصة ؟ وفي هذه الحال يجب تحديد معيار اختصاص هذه المحاكم.
وهناك نقاط اخرى عديدة لا يمكن التطرق اليها الآن، قبل اقرار القانون واصدار المراسيم التنظيمية والنصوص التطبيقية اللازمة.
هـ ـ الايداعات والتحاويل الجديدة
استثنى المشترع بموجب المادة السادسة -1- من المشروع، من الضوابط الاستثنائية والمؤقتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية، الايداعات والتحاويل الجديدة، وقد عرّفها بانها "والاموال المودعة باي عملة كانت التي حولت من خارج لبنان او اودعت نقدا لدى المصارف بعد 17 تشرين الاول 2019، حتى ولو جرى تحويلها من مصرف الى آخر داخل لبنان".
هكذا يكون المشترع قد اخضع الودائع الى نظام مزدوج: الاموال المودعة قبل 17 تشرين الاول 2019 والاموال المودعة بعد هذا التاريخ. ان هذه الازدواجية ليست محمودة العواقب، لأنها بحد ذاتها تسيء الى المودعين اذ انها ستحدث معياراً مزدوجاً يميّز بين نوعين من العملة الاجنبية المودعة لدى المصارف، على اساس تاريخ الايداع!
و ـ دور مصرف لبنان في عمليات القطع الاجنبي
نصّت المادة الخامسة من المشروع وتحت عنوان " عمليات القطع الاجنبي " على ما يلي:
" يؤمن مصرف لبنان استقرار سوق القطع وفقاً للسعر الفعلي ووفقاً لما هو منصوص عنه في قانون النقد والتسليف ولا سيما المادتين 75 و229 منه وانفاذاً لهذا القانون".
لا بد بادئ ذي بدء من الاشارة الى ان المشروع لم يحدد " سعراً رسمياً " للدولار الاميركي. ولم يفوض مصرف لبنان بذلك؛ بل انه فوّض " بتأمين استقرار سوق القطع " وفقاً:
1 – للسعر الفعلي.
2 ـ ولما هو منصوص عنه في قانون النقد والتسليف، لا سيما المادتين 75 و229 منه.
تستدعي هذه المادة ابداء الملاحظات الاتية:
1 – ان المشترع اخذ بالاعتبار السعر الفعلي للعملة الاجنبية وتحديداً للدولار الاميركي، ما ينفي عن السعر المذكور تسمية " السوق السوداء ". فهل ان المشترع شّرع ما هو غير شرعي؟ يبدو لنا ذلك.
2 – أكد المشترع على دور مصرف لبنان في تأمين ثبات القطع، محيلاً الى المادة 75 من قانون النقد والتسليف.
3 – احال المشترع الى المادة 229 من قانون النقد والتسليف التي نصّت صراحة في بندها الاول انه " يعتمد لليرة اللبنانية، بالنسبة للدولار الاميركي المحدد بـ 0.888671 وغرام ذهب خالص، سعر قطع حقيقي أقرب ما يكون من سعر السوق الحرة، يكون هو السعر الانتقالي القانوني لليرة اللبنانية ".
هنا نبدي ما يلي:
لقد حدد المشترع اللبناني في قانون النقد والتسليف سعراً انتقالياً قانونياً لليرة اللبنانية بالنسبة للدولار الاميركي " اقرب ما يكون من سعر السوق الحرة ".
ان هذا "السعر الانتقالي القانوني " يحدده وزير المالية وفقا للمادة 229 من قانون النقد والتسليف وليس مصرف لبنان الذي يعود له وفقا للمادة 75 من القانون ذاته استعمال الوسائل التي يرى من شانها تأمين ثبات القطع. ومن اجل ذلك، يمكنه خاصة ان يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية مشترياً او بائعاً ذهباً او عملات اجنبية مع مراعاة احكام المادة 69 (3).
ان المادة 229 تنص انه " ريثما يحدد بالذهب سعر جديد لليرة اللبنانية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي وريثما يثبت هذا السعر بموجب قانون وفقا للمادة الثانية" (4).
ماذا يعني كل ذلك ؟
ان قراءة مشروع القانون ونص المواد 2 و75 و229 من قانون النقد والتسليف يدفعنا الى الخلاصات الآتية:
ان المادة 2 من قانون النقد والتسليف تنص ان " القانون " يحدد قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص.
ولكننا عملياً لم نرَ اثراً لغاية الآن لهذا التحديد. فالقانون مبدئياً هو الذي يحدد قيمة الليرة اللبنانية بالاستناد الى الذهب الخالص.
ولكن هذا القانون لم يرَ النور لغاية تاريخه.
ولا بد من سرد قصتنا مع الذهب بالتواريخ والارقام، للخلوص الى نتيجة مفادها ان منح المشترع ( القانون ) صلاحية تحديد قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص، يبقى نظرياً بدون اي فائدة عملية له.
فلبنان يحتل المرتبة العشرين عالمياً في احتياطي الذهب وفق تصنيف مجلس الذهب العالمي. ويتصدر المرتبة الثانية عربياً بعد المملكة العربية السعودية ( لديها 323.1 ملايين اونصة تناهز قيمتها سبعة عشر مليار دولار اميركي ).
في العام 1948، بدأ لبنان باقتناء اول كمية من الذهب على أثر انضمامه الى صندوق النقد الدولي في العام 1946 بعد الاعتراف بالليرة اللبنانية عملة مستقلة. وفي ذلك الحين ارتبط شراء الذهب بثبيت سعر صرف الدولار الاميركي وحفظ قيمته. واستمر حتى اوائل السبعينات اثر فك الولايات المتحدة الاميركية ارتباط تغطية الدولار وطباعته بالذهب. وهو قرار معروف بـ " صدمة نيكسون "، نسبة للرئيس الاميركي السابق ريتشارد نيكسون الذي فرض الدولار الاميركي بديلاً احتياطياً عن الذهب لحفظ قيمة كل العملات الاخرى حول العالم. فتوقف لبنان منذ العام 1971 عن شراء الذهب إثر القرار الاميركي ببلوغ قيمة مدخراته 286.8 طنا من الذهب الخالص. ولكن الحكومات اللبنانية المتعاقبة، ما بين الاستقلال ووائل السبعينيات استمرت في شراء الذهب لتغذية احتياطي مصرف لبنان وذلك من فائض الموازنة والضرائب المجباة.
وفي العام 1986، صدر القانون رقم 42 الذي نص انه " بصورة استثنائية وخلافا لأي نص، يمنع منعاً مطلقاً التصرف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان او لحسابه مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيته سواء أكان بصورة مباشرة او غير مباشرة الا بنص تشريعي يصدر عن مجلس النواب" (5).
ماذا يعني كل ذلك ؟
هذا يعني بان القانون يحدد بالذهب الخالص قيمة الليرة اللبنانية.
عملياً لا وجود لاي قانون يحدد بالذهب الخالص قيمة الليرة اللبنانية، فضلا عن انه بعد "صدمة نيكسون " في اوائل السبعينات وأثر فك الولايات المتحدة الاميركية، ارتباط تغطية الدولار وطباعته بالذهب، توقف لبنان عن شراء الذهب واصبح الدولار عملياً بديلاً احتياطياً عن الذهب لحفظ قيمة الليرة اللبنانية.
وان تدخل مصرف لبنان يكون عبر اللجوء الى الوسائل التي يرى ان من شأنها تأمين ثبات القطع، الا انه لا يمكنه وفقاً للمادة 75 من قانون النقد والتسليف، ان يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية بائعاً ذهباً، بعد أن حظر القانون رقم 86/42 بيع الذهب، فأصبح دور مصرف لبنان مقتصراً على التدخل في السوق بائعاً او مشترياً بالدولار الاميركي وبالاتفاق مع وزير المالية.
فعلى ذلك، تنص المادة 229 من قانون النقد والتسليف على مرحلتين: مرحلة أولية ومرحلة انتقالية.
المرحلة الاولية: نصت المادة 229 في جزئها الاول انه " ريثما يحدد بالذهب سعر جديد لليرة اللبنانية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي وريثما يثبت هذا السعر بموجب قانون وفقا للمادة الثانية، يتخذ وزير المالية الاجراءات الانتقالية التالية: ....".
هذه المرحلة بقيت في اطارها النظري، اذ ان الذهب لم يعد صالحاً بعد العام 1970 لتحديد سعر صرف الليرة اللبنانية، ولم يصدر اصلاً اي قانون بهذا الشأن، ما جعل المادة الثانية من قانون النقد والتسليف عديمة الفائدة.
وان اي اتفاق بين لبنان وصندوق النقد الدولي لم يرَ النور لغاية الآن، ولن يراه اطلاقاً للأسباب المذكورة اعلاه. وهذا ما يجعل الشق الثاني من نص المادة 229 من قانون النقد والتسليف الذي نص عن المرحلة الانتقالية هو الوحيد المطبق عملياً.
هذه المرحلة الانتقالية مستمرة منذ اصدار قانون النقد والتسليف في 1/8/1963 ولغاية تاريخه. وقد أتى مشروع القانون الحاضر يكرسها. وبموجب هذه المرحلة الانتقالية، أصبح وزير المالية المرجع الصالح لتحديد سعر قطع حقيقي لليرة اللبنانية بالنسبة للدولار الاميركي، أقرب ما يكون من سعر السوق الحرة يكون هو السعر الانتقالي القانوني لليرة اللبنانية.
ما يعني ان لليرة اللبنانية سعراً انتقالياً قانونياً يحدده وزير المالية ويكون اقرب ما يكون من سعر السوق الحرة. ويكون بالاستناد الى سعر الدولار الاميركي وليس الى سعر الذهب الخالص.
لقد استعمل المشترع عبارة " سعر السوق الحرة" عندما احال الى المادة 229 من قانون النقد والتسليف. كما استعمل في المادة الخامسة من المشروع عبارة " سوق القطع وفقاً للسعر الفعلي "، ما يعني ان المشترع يشرّع ما كان يسمى قبل وضع المشروع المذكور بسعر الدولار " وفقا للسوق السوداء "، لان السعر وفقاً للسوق السوداء هو ذاته السعر وفقا للسوق الحرة او فقا " للسعر الفعلي" (6).
اي خلاصة القول هنا، يكون وفي ظل المشروع الحاضر، يكون وزير المالية هو المرجع الصالح لتحديد سعر صرف العملة اللبنانية بالاستناد الى الدولار الاميركي، وفقاً لسعر قطع حقيقي اقرب ما يكون من سعر السوق الحرة ويكون هو السعر الانتقالي القانوني لليرة اللبنانية. ولكن هذا السعر الانتقالي، تم تكريسه في المشروع الحالي، واصبح نهائياً بدلاً من ان يكون انتقالياً. وقد تعودنا في لبنان ان يصبح الانتقالي والمؤقت والاستثنائي، دائما. فلا شيء يدوم في لبنان كالمؤقت !
ز ـ الاستثناءات
نص المشترع في المادة الرابعة من المشروع وتحت عنوان " نقل الاموال عبر الحدود ومدفوعات الحساب الجاري والتحاويل "، انه يخضع نقل الاموال عبر الحدود للقوانين المرعية الاجراء ويُحظّر اي عملية نقل اموال خارجية خلافاً لتلك النصوص كما تحظر مدفوعات الحساب الجاري والتحاويل باي عملة اجنبية كانت ومن اي حساب مصرفي او حساب لدى وسيط معتمد بما في ذلك حسابات الودائع الائتمانية في لبنان.
ويستثنى من ذلك:
1 – الايداعات والتحاويل الجديدة، وتبقى هذه الايداعات والتحاويل الجديدة حتى ولو طلب العميل تحويلها سواء بالكامل او جزئياً الى اي عملة أجنبية او طلب تحويلها من المصرف الذي استلمها في البداية الى اي مصرف عامل في لبنان او في الخارج، شرط ان يتم التحويل في ما لو كان بالعملة الاجنبية من خلال البنك المراسل الاجنبي، او دفعها مباشرة من الحساب الذي أودعت فيه وبكافة الوسائل المصرفية المعتمدة.
2 ـ عمليات وتحاويل ومدفوعات لصالح الدولة اللبنانية وفقا للموازنة العامة، وبموجب قوانين وفقا للاصول المرعية الاجراء، وعمليات وتحاويل ومدفوعات مصرف لبنان المستندة الى قانون النقد والتسليف باستثناء الحسابات الشخصية والخاصة المفتوحة لدى هذا المصرف والتي تخضع لاحكام هذا القانون.
3 ـ نفقات الطبابة والاستشفاء لحالات مرضية يتعذر اجراؤها في لبنان.
4 ـ المدفوعات الجارية لمصاريف الطلاب اللبنانيين المسجلين في الخارج قبل 31/12/2020.
هذه الاستثناءات واضحة في المبدأ، ولا تثير برأينا اي جدال، ما عدا نفقات الطبابة والاستشفاء لحالات مرضية، اذ نص المشترع شرطا لاعتبارها من الاستثناءات هو " تعذر اجراؤها في لبنان"؛ ما يستبعد جواز استفادة اي مريض يمكنه تلقي علاجه في لبنان !
هذا التفريق بين العلاجات الحاصلة في الخارج والتي يتعذر اجراؤها في لبنان وبين العلاجات الجائز حصولها في لبنان او في الخارج مع عدم تعذر اجراؤها في لبنان، ليس واقعاً في محله القانوني والواقعي الصحيح للاسباب التالية:
- لان كلفة العلاجات والاستشفاء داخل لبنان أصبح امراً بعيد المنال، وبمتناول قلّة قليلة من اللبنانيين؛ فلا يعقل ان يبقى المودع بدون علاج او استشفاء وامواله " محجوزة " لدى المصارف، خصوصاً ان المادة السادسة المعنونة " السحوبات " لم تستثني السحوبات الحاصلة لغايات الطبابة والاستشفاء.
- لان من حق المريض ان يتعالج في لبنان او في الخارج. فهذا خيار شخصي يعود له ولا يصح وضع شرط تعذر الخضوع للعلاج والاستشفاء في لبنان لافادة المريض بصورة استثنائية من تحويل الاموال الى الخارج.
ح ـ السحوبات
1 ـ استثنى المشترع في البند الاول من المادة السادسة من المشروع " الايداعات والتحاويل الجديدة " من الضوابط والقيود التي يفرضها المشروع.
2 ـ ترك المشترع للجنة اقتراح قيمة السحوبات الشهرية نقداً او بواسطة البطاقة المصرفية على الاّ تقل في حدّها الادنى للسحب الشهري عن ثمانماية دولاراً اميركياً لكل مودع.
ويعود للجنة تعديل سقف القيمة صعوداً تباعاً وفقا لتطور الاوضاع المالية والنقدية والاوضاع المعيشية للمواطنين.
هنا نطرح التساؤل عن الضمانة المعطاة للمودع باستيفاء هذا الحد الادنى الشهري ؟ لم ينص المشروع على اي ضمانة بهذا الخصوص، كما لم يتضمن القانون اي اشارة الى اي ضمانة اخرى في اي مكان آخر منه !
ط ـ عملة المدفوعات والتحاويل المصرفية المحلية
نص المشروع في المادة السابعة منه ان المدفوعات والتحاويل المصرفية المحلية كافة، تتم بالليرة اللبنانية.
ولكن ماذا لو كانت تلك المدفوعات بالعملة الاجنبية ؟
انسجاماً مع ما سبق وذكرناه اعلاه، على وزير المالية ان يحدد سعر القطع لليرة اللبنانية بالاستناد الى الدولار الاميركي، بالسعر الاقرب الى السوق الحقيقي.
ي ـ دور لجنة الرقابة على المصارف
اعطى المشترع بموجب المادة الثامنة من المشروع لجنة الرقابة على المصارف الحق بممارسة صلاحياتها وفقا لقانون النقد والتسليف. على ان ترفع تقارير دورية الى اللجنة عفوا او بناء لطلب هذه الاخيرة.
ك ـ حق اللجوء الى القضاء وتعليق نفاذ الاحكام
نص المشترع في المادة العاشرة من المشروع عن حفظ حقوق جميع المودعين باستيفاء ودائعهم من المصارف بما فيها اللجوء الى القضاء. ولكنه علّق تنفيذ جميع الاحكام والقرارات القابلة للتنفيذ في لبنان والخارج التي صدرت قبل صدور القانون والتي لم تنفذ بعد وتلك التي ستصدر بعد دخوله حيّز التنفيذ والمتعلقة بمطالبة او بتدابير مخالفة لاحكامه.
وان هذا التعليق يبقى سارياً لغاية انتهاء مهلة تطبيق هذا القانون المنصوص عنه في المادة الحادية عشرة والاخيرة منه والمحددة بسنة واحدة قابلة للتجديد في مجلس النواب، بناء على اقتراح اللجنة.
هذا النص يستوجب ابداء الملاحظات التالية:
1 – هو لا يشمل رفع الدعاوى امام القضاء المختص، فاللجوء الى القضاء هو في الاصل حق مكرس دستورياً واممياً، ولا يحق حرمان المتقاضين منه، تحت طائلة ابطال القانون المخالف من قبل المجلس الدستوري.
2 ـ يعلق فقط تنفيذ جميع الاحكام والقرارات القابلة للتنفيذ في لبنان والخارج، التي صدرت قبل صدور هذا القانون والتي لم تنفذ بعد وتلك التي ستصدر بعد دخوله حيّز التنفيذ والمخالفة لاحكامه.
يثير هذا التعليق جملة ملاحظات:
- فهو يحصر تعليق التنفيذ بالاحكام والقرارات التي لم تنفذ بعد، وذلك انسجاماً مع المبدأ القائل بعدم جواز وقف ( او تعليق ) تنفيذ ما سبق ان تمّ تنفيذه.
- يجب التفريق بين الاحكام والقرارات اللبنانية المنفذة في لبنان وتلك المنفذة في الخارج.
- لا يمكن ان يشمل المشروع سوى الاحكام والقرارات المنفذة في لبنان، اما في الخارج فيجب اخضاعها لقواعد الصيغة التنفيذية Exequatur المعمول بها هناك. ولكن تقتضي الاشارة الى ان معظم انظمة الصيغة التنفيذية في الخارج تشترط لتنفيذ الاحكام اللبنانية على اقاليمها ان تكون قابلة للتنفيذ في البلد الذي صدرت فيه. فاذا كان قد جرى تعليق نفاذها في لبنان بموجب المادة العاشرة من المشروع، فانه لا يمكن منحها الصيغة التنفيذية في الخارج.
- يمكن ان يشمل هذا التعليق الاحكام الاجنبية الصادرة في الخارج والمطلوب تنفيذها في لبنان. ولكن هنا يجب تطبيق قواعد منح الاحكام والقرارات الاجنبية الصيغة لتنفيذية. وان نظام الصيغة التنفيذية اللبناني المنصوص عنه في المواد 1009 وما يليها من قانون اصول المحاكمات المدنية، يمنع في المادة 1015 منه المحكمة اللبنانية التي رفع اليها طلب الصيغة التنفيذية ان تعيد النظر في اساس الحكم الاجنبي، الا اذا كان الحكم صدر بالاستناد الى وثائق كاذبة او اذا اكتشفت بعد صدوره وثائق حاسمة حال احد الاطراف دون ابرازها او اذا ثبت ان قوانين الدولة التي صدر باسمها الحكم الاجنبي توجب اعادة النظر في اساس الاحكام اللبنانية قبل اعطائها الصيغة التنفيذية.
ولكن يبقى للمحكمة المختصة بمنح الصيغة التنفيذية للحكم الاجنبي ان تمتنع عن اعطاء الحكم الاجنبي الصيغة التنفيذية اذا كان قد صدر خلافا لقانون متعلق بالنظام العام اللبناني.
فاذا اعتبرت المحاكم اللبنانية المختصة لمنح الحكم الاجنبي الصيغة التنفيذية ان القانون الحاضر مرتبط بالنظام العام المالي والاقتصادي، فان صدور اي حكم او قرار اجنبي مخالف له، تحجب عنه الصيغة التنفيذية في لبنان سندا للمادة 1014 - فقرة (هـ) من قانون اصول المحاكمات المدنية اللبنانية.
ل ـ تقييم عام لمشروع القانون
نبدي بشأن مشروع القانون الملاحظات الآتية:
1 ـ لم يتضمن القانون اي اشارة الى عدة مواضيع، كان يقتضي ان يتناولها مثل الحظر الحالي على فتح حسابات مصرفية جديدة وحظر ايداع شيكات في الحساب الخ. وهي تدابير فرضتها الممارسة المصرفية غير السليمة، بغياب اي نص تشريعي او حتى اي تعميم صادر عن مصرف لبنان.
2 ـ لم يشر المشروع الى الغاء تعاميم حاكم مصرف لبنان المتعارضة معه. ولم يشر حتى بعبارات عامة كما يحصل عادة، الى الغاء اي نص ( او وقف تنفيذه ) يكون متعارضاً معه.
ونتساءل هنا عن مصير تعاميم حاكم مصرف لبنان، المتعارضة مع احكام المشروع ام التي لم يتطرق المشروع الى مجالاتها.
فبالنسبة للتعاميم المتعارضة مع المشروع، يمكن تجاوز تطبيقها عملا بنص المادة 2 أ.م.م لانها ادنى درجة من القانون.
اما بالنسبة للتعاميم التي لم يتعرض القانون الى مجالاتها، فإنها تبقى برأينا سارية المفعول، طالما ان القانون لم يتعرض لها.
3 ـ ان هذا القانون يبقى بدون اي فائدة عملية ما لم يترافق مع قانون يعيد هيكلة المصارف وحوكمتها ومع خطة تعافي اقتصادية تعيد الى الحياة الاقتصادية دورها الطبيعي.
4 ـ ان التذرع بعدم احتواء المشروع لبعض المواضيع بحجة انها تدخل في اختصاص قانون اعادة هيكلة المصارف او خطة التعافي الاقتصادي ليس واقعاً في محله الصحيح، لان عدم تزامن هذا المشروع مع اعادة الهيكلة وخطة التعافي الاقتصادي يحوله الى أحرف ميتة.
5 ـ ان هذا المشروع خال من اي ضمانات قانونية ومالية واقتصادية لتطبيقه، فأخشى ان يبقى حبراً على ورق او ان يطبق بصورة مشوهة، فتفقد الغاية المتوخاة منه. وهو في هذه الحالة لا يصلح ان يكون مدخلاً لبدء اعادة الثقة بالقطاع المصرفي اللبناني.
6 ـ ان هذا المشروع لم يتضمن اي اشارة الى جواز استرداد الاموال المحولة الى الخارج بعد تاريخ 18/10/2019.
ولا يرد على ذلك ان هذا الامر يخرج عن اطاره ويدخل في اطار قانون اعادة هيكلة المصارف، لأنه وكما ذكرنا كان يجب ان يتزامن هذا القانون مع قانون اعادة هيكلة وحوكمة المصارف وخطة التعافي الاقتصادي.
7 ـ لقد تعودنا في لبنان على عادة سيئة وهي التجزئة في التشريع، فلماذا لم يتم وضع مشروع واحد يتضمن خطة التعافي الاقتصادي واعادة هيكلة وحوكمة المصارف ووضع ضوابط على التحاويل والسحوبات ؟
ان وحدة التشريع كفيلة بتأمين فعاليته من جهة ووضوحه وسهولة تطبيقه في الحقل العملي من جهة اخرى.
8 ـ اخشى ان يكون هذا المشروع ورقة لبنانية اعدت استجابة لدفتر شروط صندوق النقد الدولي لنيل " رضاه " ! واذّاك لا تكون للمشروع اي منفعة قانونية، اقتصادية او مالية، بل يصبح " ورقة يتيمة في ملف ".
9 ـ واخيراً، لا أرى مجالاً لفجر اقتصادي جديد للبنان الا بحل سياسي - وطني يرسي قواعد وطنية جديدة. فالاقتصاد يبنى لوطن قائم وليس لوطن يتخبط بمشاكله التي بات حجمها اكبر منه! عبثاً نضع خططاً اقتصادية او مالية وعبثا نضع تشريعات، قبل اصلاح الوضع السياسي في لبنان الذي يتدهور يوما بعد آخر.
أخشى ان يكون هذا المشروع " حجر حساء " (Pierre à soupe ) جديد ! والله أعلم وليكن الله بعون لبنان.
************************
(1) لم تتم الاشارة الى اي نقابة: نقابة المحامين في بيروت ام نقابة المحامين في طرابلس ؟ فاذا أقر المشروع بحالته الراهنة، نقترح ان تعمد نقابة بيروت الى تسمية اسمين ونقابة طرابلس الى تسمية الاسم الثالث.
(2)لم يلحظ المشروع عدد الاسماء العائد تسميته لكل نقابة من النقابتين المذكورتين.
(3) تنص هذه المادة انه على مصرف لبنان، ان يبقي في موجوداته اموالا من الذهب ومن العملات الاجنبية التي تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني توازي ثلاثين بالمئة على الاقل من قيمة النقد الذي اصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب الخ.
(4) تنص المادة الثانية من قانون النقد والتسليف انه " يحدد القانون قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص ".
(5) راجع في كل ذلك، جنى الدهيبي، احتياطي الذهب في لبنان ... الملاذ الآمن ام الثروة المجمدة في زمن الانهيار، الجزيرة اونلاين، 1/6/2022.
(6) سُمي مؤخراً " سعر السوق الموازي ". ولكن المدلول يبقى واحداً.