سيلا بن حبيب

خطوط الصدع بين الحكومة التركية والجامعات زادت تداعيات الزلازل المحلية

حصيلة مميتة لحرب أردوغان على الأوساط الأكاديمية

1 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

صورة جويّة تُظهر حجم الدمار الناجم عن الزلزال في قهرمان مرعش | تركيا، شباط ٢٠٢٣

كان الزلزال المدمّر الذي هزّ جنوب ووسط تركيا وشمال غرب سوريا، في 6 شباط الماضي، وأسفر عن مقتل أكثر من 46 ألف شخص، كفيلاً بالكشف عن خطوط صدعٍ تتجاوز تلك الموجودة في عمق الأرض. لاحظ الكثيرون أن هذه الكارثة فضحت الفساد المستفحل الذي يقوم عليه حُكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ عشرين سنة، فقد اتّضحت مظاهره في عدد كبير من عقود البناء الرديئة التي صادقت عليها الحكومة، رغم إقرار معايير مشدّدة بعد زلزال "إزميت" في العام 1999. لكن كشف الزلزال الأخير النقاب عن خط صدع آخر بين العلماء والأكاديميين الأتراك ونظامٍ يرتكز على أعلى درجات التجاهل والإزدراء بأصحاب المعرفة والخبرات.



كانت الأوساط العلمية التركية المؤلفة من علماء جيولوجيا، ومهندسين، ومعماريين، قد حذرت من احتمال وقوع زلزال عاجلاً وليس آجلاً. حذّر عضو الأكاديمية التركية للعلوم وأستاذ الجيولوجيا، ناجي غورور، من وجود خطوط صدع ناشطة للزلازل قبل ثلاثة أيام من وقوع الكارثة في مدينة "قهرمان مرعش" والمناطق المجاورة، في بداية شهر شباط. هو أخبر الرأي العام والحكومة بضرورة استباق هزة أرضية عنيفة أخرى قريباً. حين زرتُ أكاديمية العلوم في منتصف شهر كانون الأول، كان هذا الاحتمال قيد النقاش هناك.

على غرار الأعاصير، يصعب توقّع الزلازل طبعاً. لكن قد تصبح هذه الكوارث أقل دماراً على مستوى الخسائر البشرية والأملاك عند وقوعها إذا التزم الجميع بالتوجيهات العلمية والتكنولوجية الدولية المعروفة. لا تقتصر هذه التوجيهات على معايير البناء، بل تشمل أيضاً تحضير مساحات شاسعة وفارغة في مراكز المدن والبلدات كي يتمكن الناس من التجمّع فيها حين تهتزّ المباني، أو تتصدّع، أو تبدأ بالانهيار. لكن منحت حكومة أردوغان الإذن بتقسيم المناطق لمقاولين تجاهلوا معايير الأمان وإرشادات البناء المناسبة.



لطالما كانت مشاريع البناء الواسعة ميزة أساسية في عهد أردوغان. يستطيع مطار اسطنبول الجديد، الذي تم افتتاحه في تشرين الأول 2018 لاستبدال مطار أتاتورك الدولي تدريجياً، أن يستقبل 200 مليون راكب سنوياً. تبلغ مساحته 7594 هكتاراً، ما قد يجعله واحداً من أكبر مطارات العالم، متفوّقاً بذلك على مطارات بكين، وأتلانتا، ودبي. يقول الصحفي كايا غينش: "يضع الكثيرون هذا المطار ومشروعَي أردوغان الضخمَين الآخرَين (جسر جديد عابر للقارات في اسطنبول، وقناة تربط بين البحر الأسود وبحر مرمرة) في خانة المشاريع غير المنطقية". حتى أردوغان شخصياً اعتبرها "مشاريع جنونية".

عارض العلمـــــاء والمهندسون وخبراء التخطيط الحضري القناة المقترحة بين البحر الأسود وبحر مرمرة طوال سنوات، نظراً إلى الأضرار البيئية التي يمكن أن تُلحِقها بمظاهر الحياة، والممرات المائية القديمة، ومركز اسطنبول التاريخي الذي سيتحوّل في هذه الحالة إلى جزيرة محصورة بين مضيق البوسفور والقناة الجديدة.



لكنّ تفكير أردوغان السحري لا يقتصر على مشاريع البناء، بل إن منطقه الاقتصادي يبقى بعيداً عن التقييمات العلمية أيضاً. لدفع تكاليف مشاريع البناء الخارجة عن السيطرة، أبقى الرئيس التركي أسعار الفائدة منخفضة طوال سنوات، ما أدى إلى تراجع كبير في قيمة الليرة التركية. يختصر صحفي وأكاديمي معروف الوضع قائلاً: "أنا أحاول الوقوف في المكان الذي يناسبني مالياً، لكنّ الأرض تحت قدميّ تُحرّكني وتعيدني إلى الوراء".



ذكرت المُنَظّرة السياسية هانا أريندت يوماً أن النزعة إلى تحدّي الواقع والابتعاد عن الحقائق هي واحدة من خصائص الفكر التوتاليتاري. أردوغان ليس توتاليتارياً، لكنه حاكم مستبد في بلدٍ يتخبّط للحفاظ على مؤسسات الديمقراطية المتعددة الأحزاب. تتّضح عقليّته الحقيقية أيضاً في إنكاره الوقائع واعتبارها فبركات من أعدائه، وفي ازدرائه بكل من يطرح حقائق اقتصادية أو بيئية لا يمكن تعديلها بحسب رغبته. كرّس أردوغان العقد الماضي لإطلاق صراع ثقافي ضد وسائل الإعلام، والجامعات، والأكاديميين، والعلماء، فحرم تركيا من واحدة من أهم مزاياها في أحلك ظروفها.



تعليقاً على استعمال الحكومة الزلزال كعذرٍ لجعل التعليم الجامعي كلّه عن بُعد، كتب إرسين كالايجي أوغلو، وهو واحد من أبرز علماء السياسة وخبراء الدستور في تركيا، رسالة إلكترونية إلى أعضاء الأكاديمية التركية للعلوم وقال فيها: "إنه لخطأ كبير أن نزيد أعباء شبّاننا ونجعلهم يتحمّلون مصاعب التعليم عن بُعد بعد سنتين على أزمة "كوفيد" حيث عجزوا عن تلقّي تعليم مناسب". هل أرادت الحكومة أن تستعمل مهاجع الجامعات لاستضافة آلاف الضحايا المشرّدين، أم أرادت تفكيك حركات التنظيم السياسي والمقاومة الناشئة من خلال إبعاد الطلاب عن حرم الجامعات؟ يبقى هذا السؤال مثيراً للجدل. لكن يبدو أن القرار الذي توصّل إليه أردوغان ومجلس التعليم العالي أخذ هذين العاملَين في الاعتبار على الأرجح.



سيصادف يوم 29 تشرين الأول 2023 الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية. نهضت تركيا من تحت رماد السلطنة العثمانية بعد حرب الاستقلال ضد قوى إمبريالية أوروبية راحت تُقسّم البلد بين سكانه، وقمعت ذكرى الإبادة الجماعية المرتكبة بحق الأرمن العثمانيين في العام 1915. كان يمكن أن يصبح البلد نموذجاً للدول في حقبة ما بعد الاستعمار في كل مكان.



لكن خلال زيارتي في كانون الأول الماضي، بدا وكأن فخر زملائي وطلابي السابقين بذكرى تأسيس الجمهورية يشوبه شكل غير مسبوق من الإحباط والحزن. لقد تراجعت معنوياتهم بعد عقدَين من حُكم "حزب العدالة والتنمية" بقيادة أردوغان وعهده الاستبدادي الميكيافيلي. حتى أنّ الكثيرين شكّكوا بحصول الانتخابات المقررة في حزيران 2023. يظنّ عدد من أقاربي المسنّين هناك، وهم في الثمانينات من عمرهم، أن الانتخابات لن تحصل إذا شعر أردوغان بأن خسارته محتملة. بعد إعلان القانون العسكري الآن في المحافظات التي ضربها الزلزال، وبما أن ضخامة الكارثة أصبحت واضحة في بقية مناطق البلد، قد يؤجّل أردوغان الانتخابات إلى أن تتلاشى الحملة العدائية تجاه حزبه وتتحسّن حظوظه الانتخابية.



من المشين أن ننظر إلى الكوارث الطبيعية من منظور سياسي. لكن كشفت دراسة الخبير الاقتصادي أمارتيا سين عن المجاعة في الهند أن المجتمعات المفتوحة، حيث تتدفّق المعلومات والمعارف بكل حرية، تجيد التكيّف مع الأحداث الكارثية أكثر من الأنظمة الاستبدادية التي تقمع تداول المعلومات الصحيحة والتقييمات الاحترافية.

فات الأوان الآن بالنسبة إلى 40 ألف قتيل وملايين آخرين يعيشون فاجعة خسارة أحبابهم ويخافون على مصير معيشتهم ومنازلهم، لكن يُفترض أن يبدأ العمل على ردم خطوط الصدع التي خلّفها هذا الزلزال المدمّر مستقبلاً. ستكون الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية أفضل مناسبة لتحقيق هذا الهدف.




طاقم طبي تركي في الإسكندرونة يُشرف على جرحى الزلزال | تركيا، ١٤ شباط ٢٠٢٣

MISS 3