إيران... حين يتحوّل الحزن إلى غضب!

11 : 13

تشهد جمهورية إيران الإسلامية غلياناً حقيقياً. يسود استياء شعبي هائل، لكن ينتشر أيضاً خوف شديد من توسّع سفك الدماء! في البداية اندلعت الاحتجاجات التي قمعها النظام بوحشية في تشرين الثاني. ثم اغتالت الولايات المتحدة في كانون الثاني قاسم سليماني، أهم جنرال إيراني، ونزل ملايين الناس إلى الشوارع حداداً عليه. وبعد فترة قصيرة، أسقط الحرس الثوري الإيراني طائرة ركاب عن طريق الخطأ، ما أسفر عن مقتل 176 شخصاً، ثم اشتعلت الاحتجاجات ضد الحكومة مجدداً، لا سيما في الجامعات. من الواضح أن الوضع متوتر جداً في إيران، هذا البلد الذي عشتُ فيه بين العامَين 1999 و2004. حصلتُ حديثاً على تأشيرة مدتها ثلاثة أيام، فأمضيتُ بعض الوقت في طهران، تلك المدينة التي تتأرجح راهناً بين الخوف والجرأة.

يوم الثلثاء بعد الظهر:
لقاء مع طالب


حين كنت لا أزال في برلين، طلبتُ من معارفي أن يجعلوني أتواصل مع طلاب في إيران. فأخبروني بأنها مهمة صعبة. يقبع الكثيرون منهم في السجن أو يمنعهم خوفهم من التكلم مع الصحافيين. الآن وقد أتيتُ إلى طهران، كتب لي صديق أحد رفاقي أخيراً أنه مستعد للتكلم معي، لكن سيكون اللقاء الشخصي بيننا صعباً. هو يخشى استدعاءه والتعرض للاستجواب. هذا ما أصاب أصدقاءه بعدما تكلموا مع صحافيين غربيين كما يقول.

في نهاية المطاف، اقترح عليّ أن نتقابل في الجبال، في شمال طهران. في وقت متأخر من يوم الثلثاء، قادني ذلك الطالب الذي أسمّيه باباك في هذه المقالة إلى بلدة تقع على طرف المدينة. انطلاقاً من هناك، تقود الطريق إلى جبال "ألبرز". أرسل لي قبل لقائنا صورة عن سترته كي أتعرّف عليه. ثم كان يفترض بي أن ألحق به.

تساقط الثلج في هذا المكان قبل يومين. كانت المنازل والأشجار مغطاة ببساط أبيض سميك. سِرْنا على طول مسار جليدي يَحُدّه نهر صغير. سرعان ما أصبحنا وحدنا، إلى جانب عدد محدود من المتجولين وأحد الرعاة مع حماره. تأكد باباك من أن أحداً لم يلحق بنا. أخيراً، جلسنا على بعض الصخور تحت جسر.يتكلم باباك (23 عاماً) عن الوقفات الاحتجاجية في جامعة شريف. كان طلاب من جامعته جزءاً من ضحايا تحطم الطائرة، بما في ذلك عدد من أصدقائه المقربين. احتاج الحرس الثوري إلى ثلاثة أيام كي يعترف بإسقاط تلك الطائرة، ولم يُبلِغ الحكومة بما حصل قبل ذلك. لذا تحوّل حزن الطلاب إلى غضب.

في حرم الجامعة، اجتمع الطلاب وحراس الأمن بالقرب من المدخل الرئيس، فيما حاول حشد غاضب اقتحام المكان من الخارج. وقفت شرطة مكافحة الشغب هناك، لكنها لم تتدخل في البداية. بعد مرور أيام، يقول باباك إن الوضع اتخذ منحىً عنيفاً. تأجلت الامتحانات ووُضع بعض الطلاب قيد الاحتجاز، مع أن أساتذتهم عادوا وأطلقوا سراحهم لاحقاً.جامعة شريف هي واحدة من الجامعات التقنية النخبوية في إيران. يغادر عدد كبير من الطلاب البلد بعد التخرج، فينتقل إلى أوروبا وكندا والولايات المتحدة. يقول باباك إن فئة صغيرة من الطلاب شاركت في الاحتجاجات، لأن النخب قد تخسر الكثير برأيه. وحين سألتُه عن احتمال أن تتشكل حركة سياسية متماسكة، أجاب بالنفي وأكد على أن شيئاً لن يتغير. لا يعتبر باباك نفسه "طالباً سياسياً بشكل خاص"، بل قال ما معناه إنه لا ينشط سياسياً إلا حين يبدو تحركه منطقياً ونادراً ما يكون الوضع كذلك.

باباك ليس شخصاً ثورياً بطبيعته، لكنه لا يدعم النظام أيضاً. بل إنه يظن أن العقوبات الأميركية تعطي نتائج عكسية: "العقوبات الاقتصادية هي أسوأ ما يمكن أن يفعله الغرب بالشعب الإيراني، بعد الحرب الشاملة طبعاً. تشمل إيران طبقة وسطى مثقفة، وهي محرك أي عملية لإرساء الديموقراطية. لكن بسبب العقوبات، تحارب هذه الطبقة الاجتماعية الآن للصمود بدل نشر الديموقراطية".


يوم الأربعاء صباحاً:

لقاء مع صحافي سابق


في صباح اليوم التالي، حضر الصحافي السابق أحمد زيد عبادي إلى ردهة فندق ضخم. حين كتبتُ له رسالة نصية في وقتٍ سابق وطلبتُ منه أن نتقابل، أجابني: "نعم، بعون الله"! كان زيد عبادي (54 عاماً) مقرباً من الإصلاحيين في السابق، وعمل في وسائل إعلام مثل قناة "بي بي سي"، لكنه اعتُقِل بعد تظاهرات العام 2009. اليوم، لم يعد زيد عبادي يستطيع مزاولة مهنته، لذا يعمل على كتابة مذكراته وبعض الكتب السياسية.

يقول زيد عبادي: "الوضع خطير بالنسبة إلى النظام القائم والبلد ككل. قد يحصل أي شيء في أي لحظة". هو يظن أن الحكومة تواجه مأزقاً حقيقياً كونها تفتقر إلى المال بسبب العقوبات، وتتوقع ميزانية السنة المالية المقبلة في إيران، بدءاً من 21 آذار، عجزاً بنسبة 50%. يظن زيد عبادي أن الحكومة لديها ثلاثة خيارات: يمكنها أن تطبع الأموال، ما قد يزيد مستوى التضخم، وإلا لن تتمكن من دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية. في الحالتَين معاً، ستندلع احتجاجات جديدة على الأرجح. يقضي الخيار الثالث بأن تتفاوض طهران مع الولايات المتحدة: "ستتوقف الاحتجاجات ضد الحكومة حينها. يؤيد معظم الإيرانيين إجراء محادثات مماثلة. لكنّ التفاوض مع عدو إيران اللدود سيغيّر هوية البلد، وهذا ما يخشاه النظام".





يوم الأربعاء بعد الظهر:

لقاء مع مفكّر


في فترة بعد الظهر من يوم الأربعاء، كنتُ في شقتي الواقعة في شمال طهران، في واحد من أغنى أحياء المدينة. كانت الرفوف هناك ممتلئة حتى السقف بكتبٍ باللغات الإنكليزية والفرنسية والفارسية، وعُلّقت لوحات فنية إيرانية معاصرة على الجدران. يقول المفكّر الذي طلب عدم الإفصاح عن هويته: "مقتل سليماني ليس بداية الأحداث، بل نهاية مسار طويل. بدأ التوسع الإيراني ينحسر في المنطقة. نجح الإسرائيليون في كبح الوجود العسكري الإيراني في سوريا، وحتى المسلمين الشيعة في العراق احتجّوا ضد النفوذ الإيراني في بلدهم. حصل الأمر نفسه في لبنان أيضاً. يرمز موت سليماني إلى خسارة إيران لنفوذها في الشرق الأوسط".

لكن ماذا عن الحشود التي شاركت في مسيرات تشييع الجنرال الراحل؟ أجاب: "إيران وطن مُهان يبحث عن بطل. يتعلق الدرس الوحيد الذي يجب أن نستخلصه بضرورة أن تبحث إيران عن حل للوضع محلياً. كل شخص إيراني يكره ترامب. إيران هي عبارة عن حالة من الفوضى الفائقة. لا تعرف أي مؤسسة فيها حقيقة ما تريده، ولا حتى الحرس الثوري".هو يعتبر الانقلاب العسكري مستحيلاً، وحتى الانقلاب المدني غير وارد من وجهة نظره. فيسأل: في النهاية من يريد أن يرأس بلداً مفلساً؟لكن كان هذا المفكر الإيراني الشخص الوحيد الذي يرى بصيص أمل من بين جميع من قابلتُهم. ربما كانت أحداث الأشهر القليلة الماضية نقطة تحول مفصلية برأيه، وقد تطلق حواراً لتحديد حقيقة ما تريده إيران.


عشية يوم الأربعاء:

لقاء مع طالبة محافِظة


وصلتُ إلى مقهى "موفازي" في وسط مدينة طهران في حوالى الساعة السابعة مساءً. كنت سأقابل الشابة زهرة رضائي البالغة من العمر 21 عاماً. هي تدرس هندسة البترول في جامعة شريف. إنها طالبة متديّنة وترتدي شادوراً أسود اللون وتنتمي إلى جمعية طلابية محافظة في جامعتها، لكنها حرصت على إخباري بأنها تعبّر عن رأيها الخاص هذه المرة. تقول زهرة إن المرأة المتدينة، من أمثالها، هي "مديرة هذا البلد مستقبلاً، ولا بد من تقاسم هذا الفصل من الأحداث مع العالم أجمع". سألتُها عما تشعر به حين تسمع زملاءها الطلاب وهم يطلقون شعارات مثل "الموت للقائد الثوري!" أو "الموت للدكتاتور!"، فأجابت: "نشعر بألم في قلوبنا عند سماع هذه الكلمات، لكننا نحتفظ بشعورنا لأنفسنا ونحافظ على هدوئنا. لقد استغلت قوى خارجية تجمعات التشييع في جامعتنا".

تَصِف رضائي الجنرال سليماني بعبارة "أب إيران وابنها" وتتابع قائلة: "لقد رأيتُ يد الله في تشييع سليماني الحاشد وفي الضربات العسكرية الإيرانية ضد مواقع في العراق. لقد كان سليماني رمزاً للمقاومة ضد الظلم والقمع. نحن لن ننسى مطلقاً من قتل ابن إيران بوحشية. سيتذكر الإيرانيون إلى الأبد قتلة الجنرال سليماني، ولن نسامحهم طبعاً".


MISS 3