إيفون أنور صعيبي

"سياسة البنك المركزي وسلاح حزب الله... أساس العلّة"

بدارو لـ"نداء الوطن": لا حلّ إلا بحلّ نظام المحاصصة

20 شباط 2020

03 : 25

في وقت تتخبّط فيه الحكومة الجديدة بين قرار سداد مستحقات اليوروبوندز أو عدمه، وفي وقت تتكاثر فيه النظريّات الفلسفية حيال القضايا الاقتصادية والتي تندرج معظمها ضمن إطار التنظير في السيناريوهات التفليسيّة المحتملة، برز رأي الاقتصادي د. روي بدارو الذي فنّد لـ"نداء الوطن" الأسباب التي أدّت إلى الأزمة اليوم، وهي "سياسة تثبيت سعر الصرف التي كان يجب أن تكون لفترة لا تتعدّى 3 أعوام، بالإضافة إلى العجز الماليّ الضخم. وذلك يعني أنّ مسؤولية ما نحن فيه اليوم تقع على عاتق الدولة التي لم تبنِ خطة اقتصادية وماليّة شاملة، ومصرف لبنان الذي اتّبع سياسة نقديّة غير ملائمة، بالإضافة الى الظروف السياسية التي أبقت على سلاح خارج عن إمرة السلطة اللبنانية وهو ما ساهم في انتزاع الثقة من لبنان ليدفع الاقتصاد وحده الثمن...".

* كيف تراكمت العوامل المؤدّية إلى الأزمة الاقتصادية التي انفجرت بعد 17 تشرين؟

ـ ليست الازمة الاقتصادية في لبنان وليدة الامس القريب بل انها قديمة، وتعود الى العام 1993 عندما تورّطنا بلعبة تثبيت سعر الصرف التي كانت ضرورية آنذاك، ولكن كان يجب أن تكون لسنوات معدودة. عندما بدأ الـ" washington consensus" إجماع واشنطن، (وهو مسودّة من عشرة بنود للدول التي واجهت صعوبات مالية وإدارية واقتصادية وكيفية تنويع اقتصادها وإدارة مواردها الطبيعية، بالإضافة إلى دعوة البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولية لتبني هذه البنود)، في تلك الحقبة، كرّس البنك الدولي عقيدة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار، لتخفيض نسب التضخّم المتفاقمة في أميركا اللاتينية كما في اسرائيل. لكن ما لبثت الدول أن بدأت بالخروج من هذا التحالف، بعضها نجح في إدارة السياسة المالية وبعضها الآخر فشل. في الواقع استمرار لبنان باعتماد سياسة تثبيت سعر الصرف كانت كفيلة بايصالنا الى ما وصلنا اليه اليوم. فلو لم يثبت هذا السعر لما تمكّنّا من إخفاء العيوب الاقتصادية التي جعلت من اقتصادنا مهترئاً، ولما صُرفت مدخرات اللبنانيين للدفاع عن هذا السعر. من هنا يمكن القول إن الخروج من سياسة التثبيت كان يجب أن يتم بشكل تدريجيّ.

* هل تُعتبر اذاً هذه السياسة النقدية وحدها السبب في ما نعيشه اليوم؟

ـ في الواقع، ترافق مع سياسة تثبيت سعر الصرف عجز ماليّ ضخم وهو برأيي أمّ المشاكل التي تجتاحنا اليوم من كلّ حدب وصوب.

فعجز مالي وأكلاف سياسة التثبيت، زائد مصاريف الدولة بما لا يتناسب مع مداخيلها، وكلّ ذلك في ظلّ غياب سياسة اقتصادية ونظرة شاملة لأي لبنان نريد، بالاضافة الى خلافات سياسية جوهرية منها مشروع المقاومة، كلّها فاقمت من المصيبة وقامت بتسريعها. وفي ظل التنازع على التوجه السياسي والاقتصادي الذي نريد ان نسلكه، واجهنا المزيد من الفلتان في السياستين المالية والنقدية، ناهيك عن أزمة ميزان المدفوعات والتي انعكست مجتمعة على الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للناس وساهمت بإفقار الشعب.

لقد عرف لبنان مرحلة ذهبية العام 2008 حيث كان ملاذاً للرساميل وكان عليه الاستفادة من تلك الحقبة للخروج تدريجياً من النموذج الاقتصادي المعتمد وبناء نموذج جديد.

"التصحيح"... ممكن!

* هل يمكن في ظلّ الأوضاع الراهنة تصحيح النظام الاقتصادي المعروف واعتماد نموذج جديد؟

ـ لا اظن ان في لبنان إرادة سياسية مجتمعة للخروج من الازمة. فلو وجدت النيّة لذلك، لوجد الأفرقاء في الحكم الطريقة لتحقيق ذلك. ما يحصل في الواقع هو ان كل فريق سياسي يطرح حلولاً يراها الأنسب للمرحلة الراهنة. وليس صحيحاً ان القرار ستتّخذه حكومة مستقلة بعيدة من النزاعات. ففي النهاية، يمثّل مجلس الوزراء هذه التركيبة عينها المتواجدة في الحكم منذ التسعينات.

* كيف تفاقمت عمليّة استنزاف الدولارات ؟

ـ بالحديث عن استنزاف المدّخرات والرساميل التي كانت تجد في لبنان ملاذا آمناً، لا بد من التطرق الى مسألة المضاعف للدولارات أي التأثير المضاعف (multiplier effect) وهو ما ينساه العديد من المحللين الاقتصاديين. وهنا يجب استذكار ما حصل بين العامين 1973 و1974 بين اميركا وأوروبا عندما تم إطلاق تسمية بترودولار. حيث لجأ الأوروبيون الى إقراض الشركات بالدولارات التي كانوا أصلاً يفتقرون اليها وفي الوقت عينه عاجزون عن طباعتها علماً انه كان لديهم سوق كبيرة، وهذا ما شكل آنذاك خطراً على بعض العملات الأوروبية. وإن كانت دول كبرى قد انغمست بهذه اللعبة أكثر من قدرة استيعابها، فلا عجب من تورّط لبنان الذي يستمرّ باستنزاف آخر دولاراته وهو ما يُطلق عليه دولارات رياض سلامه أو "لولار" أي دولارات لا وجود بمقابلها كتلة ورقيّة.

عدم التوازن بين الطلب والعرض على الدولارات أي بين الرساميل الداخلة الى السوق اللبنانية والكتلة النقدية المطلوبة، هو ما فاقم أزمة شحّ الدولار بوتيرة متسارعة. وقد تزامن ذلك مع العقوبات الأميركية على سوريا وعلى "حزب الله"، ما أدى الى اقدام كل القريبين من هذا المحور على سحب أموالهم من المصارف تخوفاً من تكرار تجربة "جمال ترست بنك". وبرأيي هذا ما اطلق شرارة الازمة التي كانت موجودة بسبب كل ما سبق ذكره لتكون النتيجة: تخوف الناس مما تخبئه الأيام المقبلة وتهافتهم لسحب أموالهم من المصارف.

افتقاد التنافسية

* هل كان من الممكن تفادي ما حصل؟

ـ قبل الأزمة، كان مصرف لبنان يبيع حوالى 40 مليون دولار يومياً. وكان عليه بعد فترة اقفال المصارف حوالى اسبوعين ان يلبي الطلب كاملاً حتى ولو تجاوز الـ200 مليون يومياً، خلال اليوم الرابع بعد بداية الثورة والذي شكّل يوماً مفصلياً. وهو ما لم يقم به "المركزي" وهكذا تسارعت وتيرة الطلب لتخرج الأمور عن سيطرته. وما زاد الطين بلة إقدام أحد المصارف على إفراغ الصراف الآلي التابع له من العملة الخضراء ما أدى الى حالة هلع غير مسبوقة.

ذلك يعني ان حالة الهلع لم تتم بسبب الناس وتخوّفهم بل بسبب مصرف لبنان واستنسابية المصارف التجارية.

وهنا أودّ الاشارة الى أنّ بعض المصارف اللبنانية فضّلت تمويل الدولة بدلاً من تمويل الاقتصاد. وهنا لن ادخل في حالة ملامة للمصارف لتورطها في اقراض الدولة، ولكن أكتفي بالقول بأنها تفتقر الى التنافسية المطلوبة في الأسواق لمنافسة نظيراتها الأجنبية. فانغماس المصارف في تمويل الدولة ساهم أيضاً بإيصالنا الى ما نحن عليه اليوم. من خلال حالة الكسل التي هيمنت على عملها خلال الأعوام الأخيرة، فهي ركّزت على المؤسسات الكبيرة دون تلك المتوسطة والصغيرة الحجم.

خطوات للحلّ

* هل فات الأوان على اتّخاذ أيّة تدابير للخروج من الأزمة؟

ـ قبل تفنيد الحلول فلنتفق بأنّ جوهر هذه الازمة سياسي بحت أما ظاهرها فاقتصادي، على عكس ما يعتقد كثيرون. ليس المقصود بالسياسي هنا التركيبة السياسية انما سياسة أخذ القرار. فمن يتخذ القرار وكيف؟ إن كان القرار من ضمن نظام المحاصصة الذي يتكرر عاماً تلو الآخر أمام أعيننا منذ التسعينات فهو ساقط لا محال. ولا يمكن أن يكون هناك أي حل اقتصادي تقني ما لم يكن مدعّماً بحماية سياسية.

والسؤال اليوم: ألا يزال هذا النظام الذي أنتجناه منذ العام 1943 أي النظام البرلماني والذي كان رئاسيا في مكان، حيث كان لرئيس الجمهورية صلاحيات قابلاً للاعتماد؟ أم أنه سقط بفعل انتقالنا الى نظام المحاصصة في مجلس الوزراء؟ في السابق كان يمكن لرئيس الجمهورية وحده تحمل المسؤولية فإما ينجح أو يفشل. لكن في ظل نظام المحاصصة والمبايعة أصبح هناك مجلس وزراء يعمل وفقاً لمصالح متفرقة وليس وفقاً لمصلحة الوطن العليا.

في الحقيقة، هناك إجراءات يمكن اتخاذها، لكننا نجهل تماماً ان كانت الحكومة الجديدة تملك من الجرأة ما يكفي لاتخاذ هكذا تدابير، كإلغاء ضريبة الدخل على كل الموظفين في القطاعين العام والخاص، وإلغاء ضريبة الأرباح على كل الشركات الصغيرة لـ10 أعوام. هاتان هما خطوتان أساسيّتان لإعادة الحياة الى الجسم الاقتصادي ككلّ. فنحن ننسى ان ضبط المالية العامة وإصلاحها لا يمكن ان يتمّا من دون تحقيق نسب نمو. نحن نشهد حالياً تراجعاً في نسب النمو قد يلامس 15% إذا استمر الوضع على هذا المنوال. أما الحل المكمّل فيبدأ مع تحرير تدريجي لسعر الصرف خلال 18 شهراً، ورفع الحد الادنى للاجور بنسبة 50 في المئة وإعادة النظر بفلسفة الضمان الإجتماعي لتأمين حماية أفضل للمنتسبين.

* في ما خصّ اليوروبوندز وقضية وجوب التسديد أو عدمه، ماذا تعتقد أن على الدولة أن تفعل؟ـ هناك حسنات وسيئات لكلّ من الخيارين. اذا كان لبنان سيقرّر الايفاء بمستحقاته فسيكون بذلك يضحّي بمدّخرات الناس وودائعهم. وإذا التزمت الحكومة بالدفع فهل سيكون لديها خطة بديلة حتى تتمكّن من تعويض المليار و200 مليون دولار؟ باختصار، إن امتلكت الدولة حلولاً للخطوات اللاحقة فلتقم بالدفع وإلا يبقى عدم التسديد القرار الافضل، خصوصاً وأن الحكومة تفتقر حتى الآن الى ثقة شعبها.

أنا شخصياً أتوقّع أن يتم تسديد مستحقات اليوروبندز لهذا العام إفساحاً للحكومة بالقيام بدورها.

* من يتحمّل مسؤولية ما يحصل؟

ـ الدولة التي لم تعمل وفقاً لسياسة مالية شاملة، ومصرف لبنان الذي اتّبع سياسة نقديّة غير ملائمة بالاضافة الى الظروف السياسية والأمنية الضاغطة. لا يمكن بناء دولة تزخر باقتصاد قوي ما لم يتم وضع سلاح "حزب الله" تحت سلطة الدولة اللبنانية، ووضع حدّ لتطويع السياسة اللبنانية في خدمة الاجندة الإيرانية. صحيح ان "حزب الله" يمثل شريحة من اللبنانيين ولكنه اذا استمر بتوريط لبنان، فسيكون هو المسؤول الأبرز لما قد يصيب لبنان. فليأخذ اذاً "حزب الله" المبادرة ويضع سلاحه بإمرة قيادة الجيش والسلطة اللبنانية. هذه هي الطريقة الوحيدة لعودة الثقة الى لبنان وعودة النمو الى اقتصاده. وهنا أستذكر الجملة الشهيرة لوليد جنبلاط عندما قال: "الخيار بين هانوي وهونغ كونغ... لبنان أمام مفترق طرق".