ثروة بوليفي

الشباب التونسي لم يعد يثق بقيس سعيد

7 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

متظاهرون تونسيون في شوارع تونس العاصمة | تونس، 14 كانون الثاني 2023

في العام 2019، فاز قيس سعيد بأغلبية ساحقة في الانتخابات الرئاسية المبكرة في تونس، فحصد أكثر من 72% من الأصوات. لم يكن أستاذ القانون الدستوري تابعاً لأي حزب سياسي، فنجح في استمالة الناخبين التونسيين بفضل فصاحته في اللغة العربية الأدبية ونزاهته السياسية الواضحة بما أنه لم يشغل أي منصب سياسي سابقاً.



بدا الرئيس الجديد، خلال أول سنتين من ولايته، أقرب إلى شخصية رمزية، وكأنه لا يتّخذ القرارات السياسية بنفسه. قد يتعلق جزء من السبب بالنظام التونسي شبه الرئاسي الذي يحدّ صلاحيات الرئيس ويعطي سلطة إضافية إلى مجلس نوّاب الشعب. لكن انتقد التونسيون الرئيس على صمته إزاء الفشل الذريع الذي طَبَع أداء النوّاب. تابع الاستياء العام توسّعه، ثم قرّر سعيد حلّ البرلمان بعد التظاهرات في يوم الجمهورية، في 25 تموز 2021، فأطلق انقلاباً زَعَم أنه مدعوم من الدستور.

تفاجأ التونسيون بهذه الخطوة غير المتوقعة، فتدفّقوا إلى الشوارع للاحتفال بما حصل. كانت الأيام القليلة اللاحقة مليئة بالحماس، فرحّب التونسيون بحقبة ما بعد الانقلاب بكل تفاؤل. نظّم عدد من الشبان حملات تنظيف في الأحياء، وقامت متاجر البقالة بتخفيض أسعارها.

في الفترة التي تلت الانقلاب، بدا وكأن سعيد يتّجه إلى تحقيق وعوده الانتخابية المرتبطة بتقديم المتّهمين بالفساد إلى العدالة عبر وضع عدد كبير من القضاة والمشرّعين تحت الإقامة الجبرية ومنعهم من السفر. في الوقت نفسه، استغلّ سعيد حماسة الناس بعد الانقلاب وبدأ يرسّخ نظاماً استبدادياً بوتيرة تدريجية. تعرّض الصحفيون والناشطون الذين انتقدوا الرئيس للاعتقال، وحوكم عدد من أعضاء المجلس الذين تحوّلوا إلى شخصيات معارِضة في المحاكم العسكرية.

ثم تأكّدت رغبة سعيد في استلام السلطة وحُكْم البلد وحده بعدما غيّر دستور العام 2014 خدمةً لمصالحه الخاصة ونظّم استفتاءً للتصويت على هذه الخطوة. تمّت المصادقة على الدستور الجديد رغم ارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت (69.5%). لكنّ تراجع المشاركة لم يمنع الرئيس التونسي من تنظيم انتخابات تشريعية. حصلت الجولة الثانية منها في 29 كانون الثاني وسجّلت نسبة مشاركة متدنية على نحو قياسي (11.3%). تجدر الإشارة إلى أن الشبان كانوا قد نظّموا الحملة الانتخابية الخاصة بسعيد خلال انتخابات العام 2019، وصوّت له حوالى 90% من التونسيين بين عمر الثامنة عشرة والخامسة والعشرين خلال الجولة الثانية.

لكن يبدو أن الناخبين الشباب بدأوا يتخلون عن سعيد الآن. بلغت نسبة الناخبين فوق عمر السادسة والأربعين في كانون الثاني 77%.

كل من صوّت لصالح سعيد في انتخابات العام 2019 كانوا من أشرس مناصري الانقلاب، وقد تجاهلوا المراقبين المحليين والدوليين الذين عبّروا عن مخاوفهم من احتمال انجراف البلد نحو الاستبداد. كانت المصرفية الشابة نسرين (28 عاماً) قد صوّتت لصالح سعيد خلال الجولتين في انتخابات العام 2019، وهي تقول إن انقلاب الرئيس جعلها تشعر أخيراً بأن خيارها كان صائباً في العام 2019. تضيف نسرين: "لقد علّمنا العقد الماضي أن هذا البلد يحتاج إلى زعيم قادر على حُكمه بقبضة من حديد. بغض النظر عن صرامة قراره، كان الوقت قد حان لإنهاء فشل المجلس وتلميع صورة تونس".

لكن يبدو أن البلد الذي أطلق "الربيع العربي" قد يعود إلى الحُكم الاستبدادي بشكلٍ دائم. بدءاً من الانتخابات الرئاسية في العام 2019 وصولاً إلى المرحلة التي تلت الانقلاب، نجح كلام سعيد المعسول في استمالة الرأي العام وجعل المواطنين يحلمون بمستقبل أفضل. لكن بدأ التونسيون منذ فترة يطالبون الرئيس بتخفيف المواقف الكلامية وزيادة الخطوات العملية. منذ بداية الصراع بين روسيا وأوكرانيا، واجهت تونس نقصاً حاداً في المواد الغذائية، وسرعان ما تكرّرت هذه المشكلة في أماكن كثيرة. بدأت المواد الغذائية الأساسية، مثل السكر، والحليب، والطحين، والأرزّ، تختفي من رفوف المتاجر أو يتمّ توزيعها بالتقنين إذا وُجِدت. تتعدّد أسباب انعدام الأمن الغذائي في تونس، منها الأزمة المالية، ونقص العملة الأجنبية، والعجز في ميزانية الدولة. لكن اختار سعيد لوم "المضاربين" و"أصحاب الاحتكارات" في القطاع الغذائي.

أصبحت طوابير الناس في المتاجر الكبرى والمخابز شائعة في كل مكان. في مشهد فوضوي تم تصويره في أيلول 2022 في متجر تونسي، راح الناس يتسابقون على أخذ السكر، ما يثبت عمق الأزمة الغذائية. كذلك، تستمرّ أزمة نقص الأدوية الأساسية منذ العام 2021. فُقِد حوالى 300 دواء، بما في ذلك علاجات للأمراض المزمنة، منذ كانون الأول 2022.

بالإضافة إلى نقص الأغذية والأدويـــة، تعرّض سعيد لانتقادات كثيرة بسبب سوء إدارته أزمة الهجرة التي تفاقمت خلال السنوات القليلة الماضية. وفق "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، وصل 15395 تونسياً، منهم ألفا قاصر، إلى إيطاليا بطريقة غير شرعية في العام 2022. لكن انتقد التونسيون سعيد بسبب صمته الطويل في ما يخص مأساة قارب "جرجيس" التي شهدت غرق 18 تونسياً كانوا يحاولون الهجرة.

بعد اندلاع احتجاجات حاشدة في "جرجيس" ومدن أخرى في أنحاء البلد، أعلن سعيد أن ما حصل لم يكن مجرّد حادثة تنجم عن إثقال القارب الصغير والقابل للنفخ بالركاب (من المعروف أن المهرّبين يزيدون حمولة المراكب لجمع أرباح إضافية)، بل وقعت الكارثة برأيه لأن أحداً ثَقَب المركب. تعهّد الرئيس بإطلاق تحقيقات حول هذا "الاغتيال". تزامناً مع هذه الفاجعة الوطنية، شكّلت كلماته السخيفة واللامبالية صدمة كبرى للتونسيين. يقول الشاب التونسي الياس (27 عاماً) الذي يعمل في وكالة سفر إن فصاحة سعيد في اللغة العربية لم تعد كافية لإرضاء التونسيين الذين يحتاجون إلى أكثر من لغة خشبية لملء بطونهم الفارغة ودفع فواتيرهم. ربما أعطت استراتيجية التواصل التي اعتمدها سابقاً مفعولها لفترة، لكنها لم تعد فاعلة اليوم برأيه.

عبّرت سيرين (24 عاماً) التي تعمل في مركز اتصال وكانت من أشرس داعمي سعيد في السابق عن خيبة أملها من تطور الأحداث بعد الانقلاب: "نحن معتادون على التعرّض للخيبات من أداء السياسيين، لكنّ مسار الأمور بعد تموز 2021 شكّل خيبة أمل مؤلمة لكلّ من كان يدعم سعيد وصدّق كلماته المنمّقة". انتقدت هذه الشابة إنكار الرئيس الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في البلد وإصراره على شيطنة خصومه السياسيين والناشطين والصحفيين، وأخيراً اللاجئين والمهاجرين، فقالت: "يبدو أنه يعيش في العالم الموازي أو على كوكب آخر. هو لا يلاحظ مشاكل شعبه أو يفضّل ألا يلاحظها، ولا يعترف بوجودها. يقتصر عمله على مطاردة خصومه".

أما طالب إدارة الأعمال جميل (22 عاماً)، فهو يقول إن محاولات سعيد اليائسة لإقامة دكتاتورية قوية فشلت لأنه يفتقر إلى المهارات التي تسمح له بحُكم البلد ويفتقر نظامه الاستبدادي الضعيف إلى المصداقية والدعم: "لقد حاول نسخ انقلاب [الرئيس التونسي السابق زين العابدين] بن علي في العام 1987 لكنه فشل فشلاً ذريعاً (في إشارة إلى الدكتاتور التونسي السابق الذي أطاح به "الربيع العربي" في العام 2011). ورغم طموحاته المفرطة، لا يتمتّع سعيد بالكفاءة والخبرة بقدر بن علي الذي كان رجل دولة... لقد بدأ يخسر مناصريه. تخلّى الشباب عنه، وحتى الأحزاب السياسية التي دعمت انقلابه بدأت تتخلى عنه مع مرور الوقت".

برأي نسرين، قام سعيد بعدد من الخيارات السيئة التي جعلت مستقبل البلد في خطر. لكنه ليس المُلام الوحيد على أزمة تونس العميقة والمتعدّدة الأبعاد: "يجب ألا ننسى أن الرئيس يحاول معالجة المشاكل التي بدأت تتراكم منذ أكثر من عشر سنوات. حاول سعيد إصلاح الأضرار التي أحدثتها الطبقة السياسية بين العامين 2011 و2021، لكنه ارتكب أخطاءً كثيرة... لقد اختار الاستبداد والأوتوقراطية للسيطرة على الوضع".

يظنّ جميل أن ارتفاع التضخم (من المتوقع أن يصل إلى 11% في العام 2023 قبل أن يخرج عن السيطرة) قد يجعل الديمقراطية مجرّد ذكرى غابرة وميزة بعيدة المنال نظراً إلى الظروف الراهنة، إذ تجد عائلات كثيرة صعوبة في إعالة نفسها. برأي جميل، يدرك سعيد هذا الوضع جيداً وهو يستعمله لمصلحته لإنشاء نظام استبدادي وإقناع الناس بأن هذا الخيار قادر على حلّ مشاكل البلد الاقتصادية.

لقد تَعِب التونسيون من الوضع الراهن في بلدهم، لا سيما فئة الشباب، لكن لا يمنعهم ذلك من مقاومة استبداد سعيد. أثبت هذا الشعب للرئيس أنه يملك حرية الاختيار حين قرّر مقاطعة الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية التي نظّمها هذه السنة، حيث اقتصرت نسبة المشاركين بين عمر الثالثة والعشرين والخامسة والثلاثين على 1.7%.

منذ أكثر من عشر سنوات، سئم التونسيون، وعلى رأسهم الشباب، من تنظيم الاحتجاجات والمسيرات في الشوارع. سرعان ما انتقلوا إلى شكل قوي لكن أكثر هدوءاً من الاحتجاج الصامت. يبدو أن المقاطعة هي الطريقة الجديدة التي يستعملها الشباب التونسي للتأكيد على سيادته.


MISS 3