شربل داغر

مارلين كنعان: بوذا... بالعربية

13 آذار 2023

02 : 00

ما أنجزتْه الدكتورة اللبنانية مارلين كنعان جدير بالانتباه والتقدير، بل هو مدعاة لأن يكون مثالاً يحتذى في الدرس بالعربية.

كنعان عملت لسنوات على تحقيق نقدي لنص يرقى إلى القرن الثاني عشر، ويتناول قصة من الأدب المسيحي بالعربية.

ما يستوقفني، في كتابها الصادر بالفرنسية حديثاً، أمران أحب التشديد عليهما :

الأمر الأول، هو أن كنعان جمعتْ ما يزيد على ست عشرة مخطوطة، وجعلتْ من هذا المجموع مادة لتحقيقها.

أي أنها لم تكتفِ بنسخة واحدة أو أكثر من هذه القصة، فتنشرها من دون تحسّب وحرص. وهو ما كان يقوم به محققون مرموقون في تاريخ العربية، لا سيما في القرن الماضي... ويزيد من قيمة جهد كنعان هو أنها لم تَعمل على تحقيق نص معروف المؤلف بالضرورة، مثلما يعمل المحقق عادة على مخطوط كتاب للجاحظ أو المعري وغيرهما (على سبيل المثال)، بل عملتْ على نص مشكوك النسبة إلى مؤلفه المعلن، وهو : اللاهوتي المسيحي يوحنا الدمشقي.

هذا ما قادها إلى دحض هذه النسبة، من جهة، وإلى العمل العلمي والثقافي على نص... كما وصل إلينا، وبلغنا في هيئته، ولفظه، وسيرته، من جهة ثانية.

ما يستوقفني في عملها هو أنها لم تَعمل مثلما عمل غيرها من الباحثين العرب، في العقود الأخيرة، وهو نشر نصوص وسِيَر ممّا يُسمى: "الأدب الشعبي" بطريقة غير احترافية. فقد قام عدد من هؤلاء بنشر سِيَر "شعبية" من دون أي تحقيق يذكر، وحتى من دون الإشارة إلى النسخة أو النسخ التي أخذوا منها نصَّهم المطبوع والمنشور. بل فعلَ بعضهم ما هو أفدح من ذلك، إذ عمدوا إلى "تصحيح" النسخة، و"تفصيحها"، وترتيبها من جديد، قبل نشرها !

أما الأمر الثاني الذي استوقفني، فهو يتناول طبيعة هذا الأدب الوافد من قرون بعيدة، ولا نمتلك عنه معرفة أكيدة، واثقة من ارتكازاتها العلمية. تتوصل كنعان، في تحقيقها، إلى أن القصة التي حققتْها ودرستْها، لا تعدو كونها سيرة "تنصير" أحدهم، فيما هي، في واقع الأمر، استعادة محوّرة لسيرة بوذا. فالتحقيق خاض في بعض هذا الأدب "المجهول"، وهو مجهول لأن معرفتنا ناقصة بتلك السياقات الاعتقادية والثقافية والدينية الماضية، ولم نعمل جدياً على "إنارتها" وتقريبها من المعرفة السليمة.

هذا ما سبقَ أن درستُه تحت المسمى النظري: "الأدب المتناقَل"، وأردتُ منه تعيين ذلك الأدب الماضي الذي يَحمل، في طياته، عناصر متأتية من مسارات بعيدة وقريبة في آن.

هذه العناصر ليست "نقية"، أو قابلة للتدقيق وحسب في بعض ألفاظها، مثلما ندققها في قصيدة، أو في كتاب من الثقافة العالِمة القديمة.

بل هي عناصر "مختلطة"، يشترك فيها الاعتقادُ بالخبر، والسيرة المنقولة وتحولاتها السردية في أوساط وتواريخ متعاقبة.

ما قامت به الزميلة كنعان جدير بالتقدير، وبأن يكون سبيلاً مناسباً في التحقيق والدرس، وجديراً خصوصا بأن يبلغ الباحث العربي لأكثر من سبب.


MISS 3