عيسى مخلوف

مارلين كنعان: "الشافي بالكلام"

25 آذار 2023

02 : 02

صفحة من المخطوط

هناك كتب يُشبه مَسارُها مسارَ البذرة التي تصبح شجرة، تتفرّع أغصانها وتزداد علوّاً وكثافة. تنطلق من مكان محدّد لتلقي بظلالها على أمكنة لا تُحصى. إنّها الكتب التي تتعدّد كتابتها ويتعدّد كتّابها، وتتداخل فيها ثقافات مختلفة. الكتاب الأشهَر في هذا المجال هو كتاب "ألف ليلة وليلة"، لكن، ثمّة مؤلّفات تراثية كثيرة أخرى تعدّدت كتابتُها وتعدّد كتّابها وتداخلت فيها ثقافات، ومنها كتاب "خَبَر بَرلام ويُواصف، الرواية العربية المسيحية"، الصادر حديثاً عن دار "بوشين" (Beauchesne) في باريس، وقد حقّقت فيه ونقلته إلى الفرنسيّة الباحثة والناقدة الأدبيّة والأكاديميّة مارلين كنعان استناداً إلى أقدم مخطوط عربي مسيحي يعود إلى أواخر القرن الثاني عشر/ أوائل القرن الثالث عشر، وهو من المخطوطات القديمة الموجودة في مكتبة دير سيّدة البلمند البطريركي. تعاونَ مع كنعان في تحقيق النصّ العربي الأب الحارث إبراهيم المختصّ في مجال المخطوطات.

نَواة الرواية التي يرويها الكتاب تتمحور حول سيرة بوذا الباحث عن الخلاص واهتدائه إلى المسيحيّة، هنا، عبر الراهب برلام. بوذا الذي استيقظت الأسئلة في نفسه يوم سمح له والده، وهو في التاسعة من عمره، الخروج من القصر، فشاهد كفاح الفلاحين وعاين حالات الظلم والمرض والشيخوخة التي لم يكن يعلم بوجودها، ما دفعه إلى التساؤل: "لماذا يجب على المخلوقات أن تعاني بهذه الصورة؟". أسطورة بوذا هذه انتشرت في القرون الوسطى في صياغاتها السرديّة المختلفة، وانتقلت إلينا عبر رواية "برلام ويواصف" التي انتفَت معها الحواجز والحدود وسافرت في اللغات والثقافات، كما جمعَت بين دفّتي كتاب واحد أدياناً عدّة منها الأديان التوحيديّة.

سيرة بوذا في الكتاب تحوّلت إلى إطار عامّ للحديث عن البشارة المسيحيّة، غير أنّ هذه السيرة تتشعّب وتتداخل فيها استشهادات من العهد الجديد والعهد القديم، إضافة إلى أطروحات فلسفيّة ونصوص دينيّة أولى ومصادر تتكوّن من أصول عدّة منها الهنديّة والفارسيّة، وصولاً إلى الثقافة الإسلاميّة بدءاً من القرن الثامن. وقد ورد ذكر الكتاب في مؤلّفات علماء ومؤرّخين عرب ومنهم، على سبيل المثال، ابن النديم والمسعودي.

أمّا كيف وصل النصّ إلى الفارسيّة، فهذا يعود إلى نبيّ وُلد مطلع القرن الثالث الميلادي في بابل الخاضعة آنذاك للإمبراطوريّة الفارسيّة، وهو مؤسّس الديانة المانويّة التي انتشرت في الكثير من البلدان، ومن مقولاته أنّ الأديان تتكامل في ما بينها، وأنّ الإنسان محصّلة المواجهة بين النور والظلمات.

صحيح أنّ مارلين كنعان حقّقت في هذا النصّ وعملت على ترجمته انطلاقاً من مخطوط البلمند، لكنّها راجعت مخطوطات كثيرة، في لغات عدّة، وجدتها في مكتبات عالميّة ومنها "المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة"، فأنجزت ترجمة دقيقة بلغة هي ابنة هذا العصر. كما قدّمت بحثاً هو بمثابة مدخل شامل لهذا الكتاب الذي يأتي اليوم في سياق مسارها العلمي وأبحاثها التي تتناول فلسفة الدين والعلاقة بين الثقافات والفلسفة واللاهوت والأدب المسيحي المنحول. ساهمت كنعان أيضاً في كتابة أجزاء من كتب صدرت في فرنسا وفي سويسرا كمشاركتها، في العام 2016، في تحرير مجلّد الكتابات المسيحية الأولى الصادر عن دار "غاليمار" ضمن مجموعة "لابلِياد" المرجعيّة.

وَمَضات كثيرة استوقفتني في كتاب "خَبَر بَرلام ويُواصف"، وفي فصل عنوانه: "الشّافي بالكلام"، نقرأ قصّة شخص متنفّذ يصادف رجلاً بائساً ضعِيفاً يحتاج إلى مساعدة، فيقول له: "سأساعدك من أجل الطبيعة الحَسَنة"، ويأتيه منه الجواب: "يمكنني أنا أيضاً أن أساعدك".

"- وأيّ منفعة تأتيني منك؟

- أنا رجل أُطَبِّب الكلام إذا جَرح أحداً أو أفضى إلى شرّ، فأنا أشفيه بأدوية ملائمة لئلاّ يزداد الشرّ نموّاً".

يقترب هذا الموقف من طبيعة الكلمات التي نتداولها يوميّاً. منها ما يَجرح كالسكاكين الحادّة ويُستعمَل من أجل إذلال الآخر وتَحقيره والحَطّ من قَدره، ومنها ما يُريح ويُبَلسِم ويُداوي. منها ما يبشّر بالحقد والعنف والتفرقة، ومنها ما يَشي بالجمال والحبّ والسكينة.

البعض لا يحتاج إلى سلاح لكي يقتل إذ تكفيه بضع كلمات، والبعض الآخر يستعين بكلمات لا ينطفئ نورها، كلمات مُشَعشِعَة تُحيي وتجعل شخصاً مثل نيلسن مانديلا يتحمّل وطأة السجن قُرابة ثلاثين عاماً...

بعض الكلمات سجون وبعضها الآخر حرّيّة!

لقد بذلت مارلين كنعان جهداً كبيراً لإنجاز هذا الكتاب بالصيغة التي وصل إليها، وبيَّنَت، وفقَ منهج البحث العلميّ، الكثيرَ من طوايا النصوص التي عملت عليها، كما دحضت الفكرة السائدة التي تقول إنّ يوحنّا الدمشقي هو المؤلّف الأصلي للكتاب وسَمَّت بدلاً منه الراهب أفتيميوس الآثوسي، من جبل آتوس، فضلاً عن أنّها كشفت للقرّاء وللبحّاثة مَلمَحاً من أدبيّات مجهولة يُساعد التعرّف إليها على فهم أفضل لدراسة القواسم المشتركة بين الثقافات والشعوب.