ستيفن م.والت

الإنفراج السعودي - الإيراني جرس إنذار للولايات المتحدة

16 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

صحف إيرانية عنونت الصفقة التي توسطت فيها الصين لإعادة العلاقات بين إيران والسعودية في بكين | الصين، 11 آذار 2023

لا يحمل انفراج العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران، حيث تؤدي الصين دوراً بارزاً لتسهيل هذه الجهود، الزخم الذي حملته زيارة ريتشارد نيكسون إلى الصين في العام 1972، أو رحلة أنور السادات إلى القدس في العام 1977، أو معاهدة مولوتوف - ريبنتروب في العام 1939. لكن إذا صمد هذا الاتفاق، فلا مفرّ من أن يكتسب أهمية كبرى. الأهم من ذلك هو أنه قد يشكّل جرس إنذار لإدارة جو بايدن وبقية أوساط السياسة الخارجية في الولايات المتحدة لأنه يفضح العوائق التي فرضتها واشنطن على نفسها ولطالما عرقلت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. حتى أنه قد يسلّط الضوء على محاولات الصين طرح نفسها كقوة لإرساء السلام في العالم، وهو دور تخلّت عنه الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة بكل وضوح.



كيف نجحت الصين في أداء هذا الدور؟ بدأت الجهود الرامية إلى تخفيف التوتر بين الرياض وطهران منذ فترة، لكن تمكّنت الصين من التدخّل ومساعدة الطرفَين للتوصل إلى اتفاق لأن ازدهارها الاقتصادي الهائل وسّع دورها المؤثر في منطقة الشرق الأوسط. الأهم من ذلك هو قدرة الصين على لعب دور الوساطة بين إيران والسعودية بفضل علاقاتها الودية والتجارية مع معظم بلدان المنطقة. ترتبط الصين بعلاقات دبلوماسية وتجارية مع جميع الأطراف البارزة: مصر، والسعودية، وإسرائيل، ودول الخليج، وحتى بشار الأسد في سوريا. يُفترض أن تُوسّع أي قوة عظمى نفوذها بهذه الطريقة، فتوضح استعدادها للتعاون مع الآخرين إذا أبدوا استعدادهم للتعاون معها، وتُذكّرهم علاقاتها مع أطراف مختلفة بأنها تملك خيارات أخرى أيضاً.

في المقابل، تقيم الولايات المتحدة «علاقات مميزة» مع عدد من دول الشرق الأوسط، لكنها تفتقر إلى أي شكل من العلاقات مع بلدان أخرى، أبرزها إيران. نتيجةً لذلك، تستخـفّ دول مثل مصر، أو إسرائيل، بالدعم الأميركــي وتتعامل مع المخاوف الأميركية بدرجة من الإزدراء المُقنّع، سواء أتعلّقت المسألة بحقوق الإنسان في مصر، أم بحملة إسرائيل الطويلة والوحشية لاستعمار الضفة الغربية. في الوقت نفسه، أدّت معظم الجهود الأميركية العقيمة لعزل وإسقاط الجمهورية الإسلامية إلى تجريد واشنطن من قدرتها على توجيه آراء إيران، أو تحرّكاتها، أو مسارها الدبلوماسي. تشتقّ هذه السياسة من جهود حثيثة بذلتها لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية، ومؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، ومؤسسات أخرى مماثلة، ومن الضغوط التي تمارسها حكومات عربية تحظى بتمويل كبير، وقد تكون أوضح مثال على الأضرار التي تُسبّبها الدبلوماسية الأميركية المعاصرة لنفسها. من خلال إثبات عجز واشنطن عن بذل جهود فاعلة لإرساء السلام أو العدالة في المنطقة، أصبح المجال مفتوحاً أمام تدخّل بكين.

على صعيد آخر، يؤكّد الإتفاق السعودي الإيراني على جانب مهم من المنافسة الناشئة بين الصين والولايات المتحدة: هل سيعتبر الآخرون واشنطن أو بكين أفضل دليل لرسم معالم النظام العالمي المستقبلي؟

نظراً إلى الدور الأميركي المفرط على الساحة العالمية منذ العام 1945، يتوقّع الأميركيون في جميع الحالات أن تحذو معظم الدول الأخرى حذوهم، حتى لو كانت تلك الدول تحمل تحفّظات معيّنة حول التحركات الأميركية. تريد الصين تغيير هذه المعادلة، وسيكون طرح نفسها كمصدر أكثر فاعلية للسلام والاستقرار جزءاً أساسياً من هذه الجهود.

بشكل عام، تريد معظم الحكومات حول العالم السلام، ولا تحبّذ تدخّل أي أطراف خارجية في شؤونها أو فرض إملاءاتها عليها. في آخر ثلاثين سنة أو أكثر، أعلنت الولايات المتحدة مراراً أن الحكومات الأخرى مُلزَمة بتبنّي مجموعة من المبادئ الليبرالية (الانتخابات، حُكم القانون، حقوق الإنسان، اقتصاد السوق...) والانضمام إلى مؤسسات متنوّعة تقودها واشنطن. باختصار، لطالما كان تعريف الولايات المتحدة لمعنى «النظام العالمي» رجعياً بطبيعته: تريد واشنطن أن تُوجّه العالم أجمع تدريجاً نحو مستقبل ليبرالي مزدهر وسلمي. استعمل الرؤساء الديمقراطيون والجمهوريون في واشنطن أدوات متنوّعة لتحقيق هذا الهدف، حتى أنهم استخدموا القوة العسكرية من وقتٍ لآخر لإسقاط الحكام الدكتاتوريين وتسريع هذه العملية.

لم تكن النتائج إيجابية بأي شكل، بل إنها ترافقت مع إطلاق عمليات احتلال مكلفة، ونشوء دول فاشلة وحركات إرهابية جديدة، وتكثيف التعاون بين الحكام المستبدين، ووقوع كوارث إنسانية. يمكن إضافة الغزو الروسي غير الشرعي لأوكرانيا إلى هذه القائمة، بما أن قرار روسيا بشنّ هذا الهجوم كان، ولو جزئياً، رداً على جهود أميركية حسنة النية لكن غير مدروسة لضمّ أوكرانيا إلى حلف الناتو. مهما بدت تلك الأهداف محبّذة نظرياً، تبقى النتائج الملموسة أكثر أهمية وقد كانت كارثية في معظمها.

اختارت الصين مقاربة مختلفة، فامتنعت عن خوض أي حرب حقيقية منذ العام 1979، وكرّرت التزامها بالسيادة الوطنية ومبدأ عدم التدخّل. من الواضح أن هذا الموقف يخدم مصالحها كونه يبدّد الانتقادات التي تتعرض لها الصين بسبب ممارساتها المشينة في مجال حقوق الإنسان. في غضون ذلك، لم يمنعها التزامها الكلامي بالسيادة من المطالبة بالأراضي بلا مبرر حقيقي أو المشاركة في اشتباكات حدودية في أماكن عدة. كذلك، ردّت بكين بقوة غير مبررة عند تعرّضها للنقد ولجأت إلى مقاربة عدائية في مساعيها الدبلوماسية، ما أدّى إلى تأجيج مشاعر البغض ومظاهر المقاومة. لكن يجب ألا يفترض أحد أن الصين لن تستعمل القوة لتغيير الوضع القائم إذا شعر قادتها بأن فرص النجاح ليست كبيرة بما يكفي.

مع ذلك، يسهل أن يفضّل الحكام حول العالم مقاربة الصين على نزعة الولايات المتحدة إلى استعمال المبادئ الأخلاقية كسلاح بحدّ ذاته. لا يزال عدد الأنظمة غير الليبرالية أكبر من الديمقراطيات، وقد بدأت هذه الفجوة تتوسّع منذ أكثر من عشر سنوات.

تدرك معظم البلدان حول العالم أن الحرب تنعكس سلباً على الأعمال والتجارة وتؤثر على مصالحها الخاصة في معظم الحالات. هي لا تريد أن تخرج المنافسة القائمة بين القوى العظمى عن السيطرة لأنها مقتنعة بأن أي اشتباك صيني أميركي سيُعرّضها لعواقب سلبية. تنطبق على هذا الوضع المقولة الأفريقية القديمة: "عندما تتعارك الفِيَلة، يدفع العشب الثمن". لهذا السبب، قد تفضّل دول كثيرة في العقود المقبلة دعم القوة العظمى التي تبدو أكثر ميلاً إلى إرساء السلام، والاستقرار، والنظام. انطلاقاً من المنطق نفسه، ستميل تلك الدول أيضاً إلى إبعاد نفسها عن أي قوى عظمى تسعى برأيها إلى تخريب السلام.

سبق واتّضحت هذه النزعة في الماضي. حين كانت الولايات المتحدة تستعدّ لغزو العراق منذ أكثر من عشرين سنة، عارض حلفاؤها في ألمانيا وفرنسا قرار مجلس الأمن الذي يسمح باستعمال القوة لأنهم توقعوا أن تعطي أي حرب كبرى في الشرق الأوسط نتائج عكسية وترتدّ عليهم وتؤذيهم (هذا ما حصل فعلاً). عندما تبني الصين جزراً اصطناعية في بحر الصين الجنوبي إذاً وتحاول ترهيب تايوان عبر استعراض قوّتها، سيلاحظ جيرانها ما تفعله ويبتعدون عنها ويبدأون تكثيف التعاون في ما بينهم ومع واشنطن. عندما يعتبرك الآخرون جزءاً من المشكلة بدل أن تكون جزءاً من الحلّ، يزيد احتمال انهيار مكانتك الدبلوماسية!

يُفترض أن تستخلص إدارة بايدن درساً واضحاً من هذا الوضع، فتزيد تركيزها على إخماد الاضطرابات، ومنع الحروب، وإنهاء الصراعات، بدل تعريف نجاح السياسة الخارجية استناداً إلى عدد الحروب التي تفوز بها الولايات المتحدة، أو عدد الإرهابيين الذين تقتلهم، أو عدد البلدان التي تستميلها. إذا سمحت واشنطن للصين بترسيخ سمعتها كصانعة سلام جديرة بالثقة، أو قوة عظمى مستعدة لخدمة مصالحها ومراعاة مصالح الآخرين في آن، فلا مفر من أن تزيد صعوبة إقناع الآخرين بالاصطفاف مع الأميركيين.

في النهاية يبقى تراجع التوتر في العلاقات السعودية الإيرانية تطوّراً إيجابياً، فهو يُخفّض مخاطر الاشتباكات الخطيرة في منطقة استراتيجية مهمة. لهذا السبب، يُفترض أن يرحّب الجميع بهذا الانفراج المستجدّ، حتى لو حصدت بكين بعض الإشادة على دورها في تحقيقه. لا يقضي الردّ الأميركي المناسب بانتقاد النتيجة إذاً، بل يُفترض أن تثبت واشنطن قدرتها على بذل جهود مماثلة أو مضاعفة لإنشاء عالمٍ يطغى عليه السلام.