لم لا تستطيع أميركا الانسحاب من العالم؟

13 : 11

على مر عقود، ارتكزت الاستراتيجية الأميركية الكبرى على إجماع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول الدور الأميركي العالمي. قد تختلف الإدارات المتلاحقة حول التفاصيل، لكن لطالما دعم الجمهوريون والديموقراطيون معاً نظام التحالفات القائم وطريقة نشر القوات العسكرية واقتصاداً دولياً مفتوحاً نسبياً، فضلاً عن مبادئ الحرية وحقوق الإنسان والديموقراطية. لكن انهار ذلك الإجماع اليوم.


منذ انتخاب دونالد ترامب، انضم مفكرون تقدميون في مجال السياسة الخارجية إلى المعسكر المؤيد لتقليص النفقات والالتزامات الأميركية. يختلف الواقعيون والتقدميون المؤيدون لهذه السياسة في فرضياتهم ومنطقهم ونواياهم. يكون الواقعيون أكثر تشاؤماً حول فرص السلام ويطرحون أفكارهم بمصطلحات متشددة، بينما يستخف التقدميون بعواقب الانسحاب الأميركي ويعارضون الاستراتيجية الكبرى الراهنة لأسباب أخلاقية. لكنهم يتقاسمون ادعاءً مشتركاً واحداً: سيتحسن وضع الولايات المتحدة عبر تقليص بصمتها العسكرية والتزاماتها الأمنية عالمياً.

هذا الوعد خاطئ لعدد من الأسباب. أولاً، سيؤدي تقليص النفقات والالتزامات الأميركية إلى تفاقم المنافسة الأمنية الإقليمية في أوروبا وآسيا. يدرك الواقعيون أن الوجود العسكري الأميركي في أوروبا وآسيا يضعف المنافسة الأمنية، لكنهم يزعمون أن هذا الوضع يفرض كلفة باهظة يجب أن يدفعها حلفاء الأميركيين في تلك المناطق بأي ثمن. صحيح أن الانسحاب سيجدد المنافسة الأمنية في المنطقة، لكن يعترف الواقعيون من مؤيدي تقليص النفقات والالتزامات الأميركية بأن الولايات المتحدة قد تصبح أكثر أماناً في عالمٍ يزداد خطورة لأن الخصوم الإقليميين سيعتنون ببعضهم البعض. لكن يبقى هذا الرهان محفوفاً بالمخاطر لأن الصراعات الإقليمية تؤثر في معظم الحالات على المصالح الأميركية. وبالتالي، قد تَجُرّ تلك الصراعات الولايات المتحدة إلى المستنقع نفسه مجدداً بعد مغادرته، ما يؤدي إلى إطلاق مغامرة أكثر خطورة من كبح الصراع منذ البداية عبر التمسك بالموقع نفسه. يكشف موقف الواقعيين هذا غطرسة مفادها أن الولايات المتحدة تستطيع أن تسيطر على العواقب وتمنع تحول الأزمات إلى حروب.

تبدو وجهة نظر التقدميين عن الأمن الإقليمي شائبة بالقدر نفسه. يرفض مؤيدو تقليص النفقات والالتزامات الأميركية في هذا المعسكر الفكرة القائلة إن المنافسة الأمنية الإقليمية ستتأجج بعد الانسحاب الأميركي. برأيهم، تعزز التحالفات الأميركية المنافسة عموماً، كما حصل في الشرق الأوسط، حيث أدى الدعم الأميركي للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى زيادة جرأة البلدين في حربهما الباردة ضد إيران. لكن لا ينطبق هذا المنطق على أوروبا أو آسيا، حيث تصرّف حلفاء الولايات المتحدة بطريقة مسؤولة. سيؤدي أي انسحاب أميركي من هناك إلى زيادة جرأة القوى الإقليمية على الأرجح. منذ العام 2008، غزت روسيا اثنين من البلدان المجاورة لها من خارج أعضاء حلف الناتو، وإذا خسرت دول البلطيق الحماية التي توفرها الضمانات الأمنية الأميركية، قد تختبر روسيا الحدود المسموح بها عبر إطلاق حرب في المنطقة الرمادية. في شرق آسيا، سيكون الانسحاب الأميركي كفيلاً بإجبار اليابان على تعزيز إمكاناتها الدفاعية وتغيير دستورها كي تتمكن من منافسة الصين وحدها، ما يعني توتر العلاقات مع كوريا الجنوبية.

ثانياً، تتعلق مشكلة تقليص النفقات والالتزامات الأميركية بالانتشار النووي. إذا انسحبت الولايات المتحدة من الناتو أو أنهت تحالفها مع اليابان، بما يتماشى مع توصيات عدد كبير من الواقعيين من مؤيدي هذه السياسة، قد يميل جزء من حلفائها إلى اكتساب أسلحة نووية خاصة بهم بعد خسارة المظلة النووية الأميركية. وعلى عكس التقدميين، لا يجد الواقعيون أي مشكلة مع هذه النتيجة لأنهم يعتبرون الردع قوة كفيلة بتجديد الاستقرار. لكن لا يشاركهم معظم الأميركيين هذا التفاؤل، وهم محقون. تتعدد الأسباب التي تدعو للقلق في موضوع الانتشار النووي: قد تصل المواد النووية في نهاية المطاف إلى الإرهابيين، وقد تصبح الدول الأقل خبرة في هذا المجال معرّضة للحوادث النووية، ولن تتمكن القوى النووية المجاورة من التجاوب مع هذه الأزمات خلال وقت قصير، لذا من المنطقي أن تتصاعد الصراعات بينها.

ثالثاً، سيؤدي تقليص النفقات والالتزامات الأميركية إلى تأجيج النزعة القومية ومظاهر كره الأجانب. في أوروبا، سيكون الانسحاب الأميركي كفيلاً بتوجيه رسالة مفادها أن كل بلد مسؤول عن الدفاع عن نفسه. نتيجةً لذلك، ستزيد قوة الجماعات اليمينية المتطرفة التي تتمسك بهذا الادعاء أصلاً، على غرار حزب "البديل من أجل ألمانيا"، أو "الرابطة" في إيطاليا، أو الجبهة الوطنية" في فرنسا، تزامناً مع إضعاف القادة الديموقراطيين الوسطيين الذين أبلغوا مناصريهم هناك بأنهم يستطيعون الاتكال على الولايات المتحدة والناتو. بالتالي، ستخسر واشنطن تأثيرها على السياسات الداخلية للحلفاء الفرديين، لا سيما الديموقراطيات الأكثر حداثة وهشاشة مثل بولندا. وبما أن هذه الجماعات الشعبوية القومية تؤيد السياسات الحمائية دوماً، ستتضرر المصالح الاقتصادية الأميركية أيضاً بسبب سياسة تقليص النفقات والالتزامات. أكثر ما يثير القلق هو أن جزءاً كبيراً من القوميين اليمينيين الذين يزدادون نفوذاً نتيجة هذه السياسة سيدعو على الأرجح إلى التقرب من الصين وروسيا.

رابعاً، تبرز مشكلة على مستوى الاستقرار الإقليمي بعد الانسحاب الأميركي من شؤون العالم. سينشأ على الأرجح نظام مبني على نطاقات النفوذ في نهاية المطاف، حيث تطغى الصين وروسيا على الدول المجاورة لهما، لكن يبقى هذا النظام غير مستقر في جوهره. تكون خطوط الفصل بين هذه النطاقات غير واضحة عموماً، ولا شيء يضمن ألا تحاول الصين وروسيا إعطاءها طابعاً خارجياً مع مرور الوقت. كذلك، لا تســـتطيع الولايات المتحدة أن تمنح قوى كبرى أخرى نطاق نفوذ معيّن بكل بساطة، لأن البلدان التي تدخل في هذه الخانة تتمتع بنفوذها الخاص أيضاً. إذا سلّمت الولايات المتحدة تايوان إلى الصين مثلاً، قد يرفض الشعب التايواني هذا القرار. تتبنى الولايات المتحدة سياسة فاعلة مع هذا البلد راهناً وهي قابلة للاستمرار. لكنّ سحب الدعم من تايوان رغماً عنها سيُغرِق العلاقات العابرة للمضيق في الفوضى. تحمل فكرة السماح للقوى الإقليمية بنيل نطاقها الخاص من النفوذ طابعاً إمبريالياً يتعارض مع مبادئ السيادة المعاصرة والقانون الدولي.

خامســـاً، تفتقر سياسة تقليص النفقات والالتزامات الأميركية إلى الدعم المحلي. يظن الواقعيون والتقدميون من مؤيدي هذه المقاربة أن مهندسي السياسة الخارجية الأميركية بعد حقبة الحرب سعوا بكل سذاجة إلى إعادة رسم العالم على صورة الولايات المتحدة. لكنّ التصحيحيين الحقيقيين هم أولئك الذين يؤيدون سياسة تقليص النفقات والالتزامات باعتبارها تجربة جيوسياسية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر. إذا نجح هذا المعسكر في تحقيق أهدافه، ستغرق أوروبا وآسيا (وهما منطقتان مستقرتان وسلميّتان ومزدهرتان تشكلان ركيزتين أساسيتين للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة) في حقبة من الشكوك.

يبدو أن مؤيدي سياسة تقليص النفقات والالتزامات الأميركية يريدون إضعاف الجيش الأميركي والتحالفات الأميركية. لذا من الضروري أن تسيطر الولايات المتحدة على هذه المنافسة بين الأنظمة بطريقة مسؤولة لحماية مصالحها ومنع الخصومة القائمة من الخروج عن السيطرة.

كجزءٍ من مقاربة تقليص النفقات والالتزامات، يتعين على الولايات المتحدة أن تفرض حدوداً وشروطاً جديدة على تحالفاتها مع دول استبدادية كثيرة. تحمل المنافسة الناشئة مع النموذج الاستبدادي الصيني عنصراً إيديولوجياً حتمياً. من الطبيعي أن ينجذب كل من يريد الدفاع عن أنظمة ديموقراطية ومنفتحة وحرّة إلى الولايات المتحدة، بينما ينجذب الفريق المعاكس إلى الصين. لا مفر من أن يفرض هذا الوضع ضغوطاً كبرى على حلفاء الأميركيين غير الديموقراطيين، مثل تركيا والدول الخليجية العربية، كي يقرروا الطرف الذي يريدون تأييده في الأزمات الديبلوماسية والجيوسياسية.

فيما يحتدم الجدل في الولايات المتحدة حول دورها العالمي مستقبلاً، يجب أن يدرك البلد المعنى الحقيقي للانسحاب أحادي الجانب. يشتق جزء من غباء مؤيدي سياسة تقليص النفقات والالتزامات حول العالم من عجزهم عن التمييز بين تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتدخلها في أوروبا وآسيا. من حق النقاد أن يشعروا بالإحباط من السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. بعد عقود من المحاولات الوهمية لتحويل شكل المنطقة، تجد واشنطن نفسها عالقة هناك اليوم وعلى عاتقها التزامات هائلة لكن من دون طرح أي استراتيجية واضحة أو الاتكال على شركاء موثوق بهم. لكنّ استعمال الشرق الأوسط كتبرير للانسحاب أحادي الجانب من شؤون العالم يتجاهل المنافع الملموسة للالتزام الأميركي في أوروبا وآسيا، حيث تحمل الولايات المتحدة هدفاً واضحاً ومصالح مشتركة وتتكل على شركاء أقوياء. حان الوقت الآن لإحداث ثورة حقيقية في الاستراتيجية الأميركية. يجب أن تتابع الولايات المتحدة أداء دور رائد كضامنة للأمن في الشؤون العالمية. لكن يُفترض أن تكون أكثر انتقائية فيما تسعى إلى حماية مصالحها: كانت هذه المقاربة لتعطي منفعة إضافية تتمثل بمعالجة المخاوف التي جعلت البعض يؤيد سياسة تقليص النفقات والالتزامات منذ البداية. على الولايات المتحدة أن تتحلى بدرجة كافية من الانضباط كي تفهم الفرق بين الأماكن والمسائل المهمة وغير المهمة.


MISS 3