تود غيلكريست

Pavarotti... أسطورة الأوبرا والطعام والنساء!

15 تموز 2019

13 : 11

بعدما عمد المخرج رون هاورد إلى اختيار أهم الخبراء والشخصيات والمشاهير لتوثيق إنجازات لوتشانو بافاروتي على مر مسيرته الغنائية، يسهل أن نظن أنه اكتفى بعرض الجوانب المثالية من حياة مغني الأوبرا في فيلمه الوثائقي الجديد Pavarotti.

لكن من خلال استكشاف مسيرة مهنية تميزت بتغيّر المعايير السائدة في القطاع الغنائي، وعرض حياةٍ تحكّمت بها الكاريزما الصارخة لنجم الأوبرا الشهير، لدرجة أن زوجته السابقة سامحته بكل سرور على تجاوزاته، يمكن أن نسامح هاورد لأنه قدّم بطل قصته بتبجيلٍ مبالغ فيه يشبه سخاء بافاروتي مع العالم من خلال فنّه وشخصيته.

يطرح فيلم "بافاروتي" لمحة احتفالية، لكن عميقة عن حياة لوتشانو بافاروتي وعلاقاته ومهنته، ويبرع في تأريخ التحول الجذري الذي أحدثه في قطاع الأوبرا وفي حياة الناس الذين قابلهم، مهنياً وشخصياً، على مر مسيرته التي فاقت الخمسين سنة.



يستعمل الفيلم مجموعة وافرة من اللقطات التي تتراوح بين أيامه الأولى والأخيرة، فضلاً عن صور قديمة وفيديوهات منزلية صوّرها أحباؤه، فيطرح على نحو مفاجئ مواصفات خاصة بالمغني، منذ بداياته في مدينة "مودينا"، إيطاليا، حيث نشأ كابن عاملة في مخبز وعامل في مصنع سيجار، وصولاً إلى وفاته في العام 2007 بعدما أصبح أسطورة عالمية في مجاله. بعد تدرّبه على التعليم في مدرسة ابتدائية، قرر بافاروتي اقتحام المجال الغنائي في العشرين، فعمل في وظائف غريبة وتلقى الدعم من زوجته أدوا وبناته الأربع. وبعد ظهوره في دور أوبرا محلية انتقل إلى المحافل الدولية في العام 1963، واكتسب في نهاية المطاف لقب "ملك الطبقات العالية"، وهو امتياز مهم لكبار المغنين الموهوبين في هذا القطاع.



في مقابلات مع معاصريه، من أمثال بلاسيدو دومينغو، يُشدد هاورد على فرادة صوت بافاروتي لأنه كان يحافظ بسهولة على نوتات لا يجيدها الكثيرون. لكن كشف المخرج في الوقت نفسه أن موهبة قوية مثله قد تتوتر للغاية قبل كلّ عرض. لا تكتفي اللقطات المأخوذة من حفلاته الموسيقية بعرض بهجته الغامرة كونه يؤثر بملايين الناس حول العالم، بل تكشف أيضاً عن شعوره بالراحة إزاء ما حققه. كان حضور بافاروتي قوياً، من حيث بنيته الضخمة وشخصيته المؤثرة، لكن تمحورت المقابلات مع أصدقائه وأفراد عائلته وزملائه حول تواضعه اللافت، فكان يحرص على ان يشعر من يقابله بتميّزه وليس العكس. وتُشدد اللقطات من حفلاته الموسيقية وحياته الشخصية على هذه الميزة في مختلف المقاطع المتلاحقة في الفيلم.



كذلك يستكشف هاورد ما فعله بافاروتي لتغيير نظرة الناس إلى الأوبرا ولإحداث ثورة شاملة في القطاع ككل، كي يدرك الجميع أن المغنين في هذا المجال يتمتعون بقوة تجارية توازي الفنانين في عالم البوب والروك. عمل في البداية مع هيربرت بريسلين، "أكثر رجل مكروه في عالم الأوبرا"، فأرسله الأخير في جولات وأعطاه فرصة أن يصبح نجماً عالمياً كبيراً. ثم تعاون مع مسوّق موسيقى الروك، هارفي غولدسميث، واتفق معه لتقديم عروض على مر 12 ليلة غنائية (كانت مُعدّة في الأصل لبروس سبرينغستين)، فتغيرت خلالها نظرة الجماهير إلى الأوبرا بالكامل.






مهّدت هذه التجربة لتنظيم عرض "أصوات التينور الثلاثة"، إلى جانب دومينغو وخوسيه كاريراس، فشاهد عدد غير مسبوق من الناس العرض هذا وترسّخت بذلك شهرة بافاروتي العالمية.

لكن حتى عندما كان بافاروتي يغني أمام الجماهير ويستكشف أنواعاً جديدة من العروض المباشرة والمسجلة، إلا أنه احتفظ بشجاعته الفطرية، فكان يستمتع بتجاربه ولا يهتم بتوسيع نجاحه لحصد مكاسب شخصية بل يُركّز على تطوير قدراته وخوض تجارب غير مسبوقة. في أحد مشاهد الفيلم، يتذكر مدير التسجيل التنفيذي مايكل كون ما حصل حين طُلِب منه أن يخدع بافاروتي على خلفية انتهاك شروط عقده، فردّ المغني حينها بكل بساطة: "الحياة قصيرة جداً"!



في مقابلة أخرى، يتذكر بونو، المغني الأساسي في فرقة U2، كيف اقتحم بافاروتي وطاقم التصوير الخاص به الأستوديو حيث كانت الفرقة تُسجّل الأغاني لإقناعها بتقديم عرض في حفل خيري. كان يدرك قوة تأثيره باعتباره شخصية مشهورة عالمياً ولطالما استعمل تلك القوة حين كان يحتاج إليها، لكن ليس إرضاءً لغروره أو خدمةً لمصالحه الشخصية.

على صعيد آخر، تطغى مغامرات بافاروتي العاطفية وعلاقته بأبنائه على جزء كبير من الفيلم الذي يمتد لساعتين تقريباً، ويكشف هذا الجانب خصائص مهمة من موهبته وسحره. كان منفتحاً على مستويات عدة ولطالما حمل موهبته الغنائية معه، على خشبة المسرح وخارجها. لكن تعلّق موضوعٌ متكرر في المقابلات، رغم اتخاذها منحىً نقدياً لعلاقاته وخياناته، بعمق مشاعره في جميع الحالات. أحبّ بافاروتي الأوبرا والشهرة والطعام والنساء من أعماقه وكان ينتظر حباً في المقابل.


في النهاية، يبدو فيلم هاورد رسالة حب للأسطورة بافاروتي، لكن يهدف هذا العمل في الأساس إلى الاحتفال بالإنسان الكامن وراء تلك الشخصية المشهورة وتذكير الجميع بأن إنسانيته، بقدر موهبته، هي التي جعلت منه نجماً!


MISS 3