كريستينالو

"دبلوماسية دفتر الشيكات" الصينية نتائجها عكسية

28 آذار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

وزير الخارجية الصيني وانغ يي ونظيره الزامبي ستانلي كاسونجو كاكوبو بالمؤتمر الوزاري الثامن لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي | السنغال ، 30 تشرين الثاني 2021

خلال عقد من الزمن، طرحت الصين نفسها كبنك اختياري للعالم النامي، فضخّت مئات مليارات الدولارات على شكل قروض في مشاريع البنى التحتية العالمية كجزءٍ من "مبادرة الحزام والطريق" الصينية الواسعة.

لكن نظراً إلى عجز المقترضين عن تسديد مستحقّاتهم، بدأت الصين تستنتج أن نفوذها المستجدّ يترافق مع ثمن معيّن. تتوق بكين إلى استرجاع أموالها، لذا بدأت تتحوّل من مستثمرة سخيّة إلى جابية صارمة، لكنها تُهدّد بهذه الطريقة النوايا الحسنة التي حاولت نشرها عبر مشاريع مثل "مبادرة الحزام والطريق". استغلّت الصين الوضع في سريلانكا، حيث سمحت الإضطرابات المالية لبكين بالسيطرة على ميناء استراتيجي، وبدأت تضايق باكستان، وزامبيا، وسورينام، لدفعها إلى تسديد ديونها.

طوال عقدَين، كان برادلي باركس، المدير التنفيذي في المجموعة البحثية "إيد داتا" في جامعة "ويليام وماري"، يقول إن العالم "يتعرّف على الصين باعتبارها المُموِّلة الطيبة لمشاريع البنية التحتية الضخمة". لكنه يظنّ اليوم أن "العالم النامي بدأ يتعرّف على الصين بدورها الجديد، وقد يجعلها هذا الدور أكبر جهة رسمية لتحصيل الديون في العالم".

تتعلّق مشكلة الصين الحقيقية بعدم رغبة أي طرف في التعرّض للملاحقة لإجباره على دفع المال. بعبارة أخرى، لا يمكن إيجاد عدد كبير من الأصدقاء من خلال مطاردة البلدان لجعلها تُسدّد ديونها العالقة. هذا النهج يُعقّد طموحات بكين الكبرى التي ترتبط بتوسيع نفوذها وإقامة علاقات جديدة عن طريق الاتفاقيات الاقتصادية.

يظنّ الخبراء أن هذا التوتر جعل بكين تواجه مقايضة مستحيلة: هل يمكنها أن تجمع أموالها من دون تشويه صورتها؟

يقول زونغ يوان زوي لوي، خبير في الاقتصاد السياسي الدولي في مجلس العلاقات الخارجية: "في الوقت الراهن، لا تستطيع الصين أن تُحقق المكاسب من دون تكبّد الخسائر. أظنّ أن الصين باتت مضطرة لتحديد أولوياتها. إذا أرادت استرجاع أموالها، فستضطر لإجبار الأطراف الأخرى على تسديد الديون، ما يعني ضرورة تخلّيها عن حُسن النوايا".

كانت "مبادرة الحزام والطريق" تُسمّى في السابق "مشروع القرن" الخاص بالرئيس الصيني شي جين بينغ، وقد تبيّن في العام 2013 أنها حملة طموحة تهدف إلى تطوير البنية التحتية وتمتدّ على 140 بلداً تقريباً. عملياً، تبقى هذه المبادرة أقل سلاسة وأكثر غموضاً ممّا توحي به. عندما بدأ القادة الصينيون يسارعون إلى تنفيذ المشاريع تحت مظلة "مبادرة الحزام والطريق"، تحوّلت هذه الخطة إلى خليط عشوائي من المشاريع القائمة على عقود إقراض رديئة.

كانت "مبادرة الحزام والطريق" في معظمها ردّاً على التحدّيات الاقتصادية في الصين، حيث عجزت القدرة الإنتاجية المحلّية عن إيجاد منفذ سهل للمنتجات، ولم تعكس في أي لحظة استراتيجية كبرى للانقلاب على النظام العالمي. بعد الأزمة المالية في العام 2008، "ذُعِرت" بكين وضخّت مبالغ طائلة من الأموال في مشاريع تطوير البنية التحتية على شكل حزمة تحفيزية محلية. تقول يون سون، مديرة برنامج الصين في "مركز ستيمسون": "كان الهدف الأساسي يتعلّق بمتابعة تحريك الاقتصاد وضمان نموّه المستمرّ. لكن أدّت هذه المقاربة إلى نتيجة غير مقصودة، فبالغت في تنشيط الصناعات المحلية الصينية".

سرعان ما أصبحت السوق الصينية مُشبعة بالفولاذ، والأسمنت، والزجاج، والألمنيوم، فاضطرت بكين للبحث عن حلول خارجية. ونظراً إلى حجم سوق البنية التحتية في الخارج، ظنّ مؤيدو هذا المنطق أن "مبادرة الحزام والطريق" ستسمح للصين بتصدير هذه القدرة الصناعية الزائدة تزامناً مع الاستفادة من احتياطياتها الأجنبية وفائض الدولارات.

يوضح باركس: "كانت هذه الخطة تحمل طابعاً اقتصادياً بحتاً. لكن إذا انتقلنا سريعاً إلى الزمن الحاضر، وإذا كان الهدف الفعلي من هذا البرنامج يتعلّق بجني الأموال لكن تبيّن أن عدداً كبيراً من الأطراف يعجز عن تسديد قروضه بعملة الدولار، فلا مفرّ من الشعور بأن هذه الاستراتيجية بدأت تعطي نتائج عكسية".

في العام 2017، لجأت الصين إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لترسيخ مكانتها كأكبر دولة دائنة في العالم، مع أن بكين خفّضت مستوى إقراضها منذ ذلك الحين. لكن يتخبط جزء كبير من المقترضين الآن لسحب اقتصاداتهم من حافة الهاوية، إذ لا تزال تلك البلدان تتعامل مع عواقب جائحة "كوفيد-19" والحرب الروسية في أوكرانيا، فضلاً عن ممارسات الإقراض الصينية. وصل حوالى 60% من قروض الصين الخارجية إلى بلدان متعثرة مالياً في العام 2022، مع أن هذه النسبة كانت تقتصر على 5% في العام 2010، بحسب قول باركس. تعجز الحكومات التي تواجه ضائقة مالية كبرى عن تسديد ديونها للصين، لذا بدأت مساعيها لتخفيف أعباء الديون، أو إعادة هيكلتها، أو الاستفادة من إعفاءات شاملة. هذه العوامل أوصلت بكين إلى وضع شائك.

يقول براد ســـيتزر، مستشار سابق لممثل التجارة الأميركي في إدارة جو بايدن يعمل راهناً في مجلس العلاقات الخارجية: "يستطيع أي بلد أن يجد الأصدقاء عبر تقديم القروض. لكن لا يمكن إيجاد الأصدقاء عبر الإصرار على دفع كامل المستحقات حين تتغيّر الظروف ويصبح الدفع الكامل شبه مستحيل. لقد وضعت الصين نفسها في موقف صعب لأن المصالح المالية في البنوك المؤسسية الرئيسية لا تقوم اليوم بمقايضات تتعــــــارض مع مصالحها الدبلوماسية".

لنتكلّم مثلاً عن زامبيا التي عجزت عن تسديد ديون بقيمة 17 مليار دولار تقريباً في العام 2020 وتعتبر الصين أكبر دائنة ثنائية لها. على مرّ السنين، توترت العلاقات الإيجابية بين البلدين عندما عجزت بكين ولوساكا عن إبرام اتفاق لتخفيف أعباء الديون كجزءٍ من إطار العمل المشترك لمجموعة العشرين. سرعان ما زادت العوائق في هذه العلاقة: دعت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، الصين إلى إعفاء زامبيا من ديونها سابقاً، وقد اتّهمت بكين حديثاً بتحوّلها إلى "عائق" أمام التقدّم. في المقابل، لامت بكين واشنطن على "تخريب الجهود الناشطة التي تبذلها بلدان سيادية أخرى لحل مشاكل ديونها".

يقول سيتزر: "يبدو أن العلاقات بين زامبيا والصين وصلت إلى طريق مسدود في الوقت الراهن. يتطلب أيّ حل واقعي لمشاكل ديون زامبيا مشاركة بكين. لا مجال للتحايل على الصين أو تجاوزها".

سريلانكا دولة مقترضة أخرى بدأت ترزح تحت ثقل ديونها المتراكمة. كانت بكين قد قرّرت مساعدة كولومبو عبر تأجيل موعد سداد الديون لمدة سنتين. لكن لم تقدّم سريلانكا الضمانات المالية اللازمة لجعل صندوق النقد الدولي يتدخل، فعجزت هذه المؤسسة عن تقديم قروض إنقاذية للبلد في المرحلة اللاحقة. يوضح باركس: "يتعلق جزء من المشكلة بافتقار بكين إلى قواعد ثابتة للتعامل مع هذه الأزمات وإعادة هيكلة الديون السيادية. لم يسبق أن واجهت الصين هذا النوع من المواقف. يحاول الصينيون ارتجال الحلول ومواكبة التطوّرات للمضي قدماً".

في محاولة للتعامل مع مشاكل إعادة هيكلة الديون في الاقتصادات المتعثرة، اجتمع ممثلون عن صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والهند، والصين، و"نادي باريس"، ومجموعة أخرى من المقرضين والمقترضين، يوم الجمعة الماضي. هذا الأسبوع، سيجتمع القادة مجدداً لإجراء سلسلة من اللقاءات المالية من تنظيم مجموعة العشرين في الهند، وقد ذكرت وكالة "رويترز" أن نيودلهي تُحضّر اقتراحاً للضغط على كبار الدائنين، بما في ذلك الصين، لإقناعهم بالموافقة على تخفيض قيمة ديونهم.

في النهاية، يقول سيتزر: "كانت الصين تأمل في استرجاع أموالها، مع بعض المنافع الزائدة والفوائد المضافة. لكنها اكتشفت في حالات كثيرة أن استعادة أموالها مهمّة بالغة الصعوبة وأن البلدان الأخرى تحتاج إلى وقت مستقطع".


MISS 3