خفَّ الكلام، بل تراجعَ، في الدراسات الأدبية، عن: الأدب المقارَن.
هذا ما يمكن ملاحظته في غياب هذا المذهب النقدي أكثر فأكثر من كتب أو دراسات أو بحوث عربية متأخرة.
وكان قد تفوقَ عليه في الدرس، أو حلَّ محله، قبل أربعة عقود، سبيل في الدرس يتحدث عن : التناص، أو التداخل النصي.
وكانت لهذا السبيل النقدي حججٌ قوية تقول إن الأدب المقارن صدرَ وتوافقَ مع تجليات الحقبة الاستعمارية، وما عاد لازمَ الوجود، أو راجحَ التحليل في الأدب الحديث، ولا سيما بعد الخروج من حقبة الاستعمار.
الأكيد هو أن مفهوم التناص كان أوسع وأصح في النظر النقدي ممّا كان عليه الأدب المقارن. فقد كان هذا المذهب يستند - لحُسن اشتغاله النقدي - إلى "إثباتات" تؤكد حصول التأثر بين إنتاجَين أدبيين على الأقل. كان على دارس الأدب المقارن، في هذا المنظور، أن يكون أشبه بشرلوك هولمز، أو أي محقق بوليسي متأخر. أي أن يحقق، ويترصد، ويفحص "أدلة" ثابتة بما يؤكد حصول... الأخذ (لا القتل على أي حال) بين الإنتاجين الأدبيين المعنيين.
أما مفهوم "التناص" فقد نظر بواقعية أشد إلى حال الأدب، هنا وهناك، إذ انتبه إلى أن الأدباء يتفاعلون ويتأثرون بعضهم ببعض، من دون أدلة "دامغة" بالضرورة.
يضاف إلى هذا أن ليس هدف الدرس الأدبي الحفاظَ على ملكية الأديب لإنتاجه، وإنما التحقق من أن سلسلة الأدب متواصلة، متفاعلة، بل قد تقع في التشابه من دون سابق معرفة بالضرورة، أو اطلاع بين الإنتاجَين المعنيين.
غير أن ما يتحقق منه الدارس هو أن "نجاحات" مفهوم التناص تراجعتْ هي الأخرى، وبات "النقد الثقافي" يستحوذ في جانب منه على الأقل على ما كان يتوكل به التناص أو الأدب المقارن.
الا أن هذا الاستحواذ عنى، في أحوال كثيرة، لا سيما عربية، تفلتَ الناقد من أي ضوابط منهجية وتحليلية، لدرجة أنه أصبح (كما كتبتُ عنه في أحد كتبي) أشبه بالمتنزه الانطباعي، الذي يتذوق في حديقة النص.
فما قام عليه النقد، في بعض أحواله، من مراجعة وتدقيق وتصويب، بات يعني، أو ينتهي، في واقع الدراسات والكتب، إلى بروز الناقد على حساب النقد، وبات في اشتغاله على النص يُطلق الأحكام، ومن دون براهين أو تعليل في الغالب. هذا ما "حَررَ" (بالمعنى القبيح للكلمة) الدرس من لزومه المنهجي، وبات يتناول (الموت، أو الغربة، أو المدينة، أو السياسة أو غيرها) من دون ثقافة فلسفية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو أناسية، أو نفسية وغيرها من العلوم الإنسانية. هكذا "يتحرر" الدرس من ارتكازاته اللازمة، ويعود، بالتالي، إلى ذائقة الناقد الأدبية وحدها، أو إلى ما يروج في الثقافة البسيطة والمبسطة من أقوال ومعان عن هذه الموضوعات الكبرى.
وما هو أدهى من ذلك كله، هو أن هذا التحلل من المناهج والضوابط هو ما يتمُّ تعليمه لطلاب الغد في جامعاتهم !