باسكال فؤاد ضاهر

تعليق قانوني على قرار "العدل الدولية" في دعوى إيران ضد أميركا

5 نيسان 2023

02 : 00

تاريخ القضية والحجج المقدمة من أطراف النزاع:

بتاريخ 14 حزيران من العام 2016 تقدمت الجمهورية الإسلامية الإيرانية من محكمة العدل الدولية بدعوى ضد الولايات المتحدة الأميركية إرتكزت بموجبها على معاهدة الصداقة والعلاقات الإقتصادية والحقوق القنصلية الموقعة بين الدولتين منذ العام 1955، أي قبل فترة طويلة من الثورة الإسلامية التي حصلت العام 1979 في إيران والتي أدت في حينه إلى الإطاحة بنظام الشاه.

إستمر سريان هذه الإتفاقية حتى العام 2018 اي لما بعد تاريخ تسجيل الدعوى موضوع التعليق الراهن، والسبب في ذلك يعود إلى انسحاب الولايات المتحدة منها ووضع حدّ رسمي لها، وقد أدلت سنداً لذلك بأنه لم يعد لإيران الحق بالإستناد إلى أحكامها، مع تشديدها على واقعة أن العلاقات الديبلوماسية الأميركية - الإيرانية كانت قد قُطعت منذ العام 1980، مما يؤدي حكماً إلى سقوط معاهدة الصداقة هذه، علماً انها ليست المرة الأولى التي تستند كل من الدولتين إلى أحكام هذه المعاهدة بل حصل سابقاً ان إرتكزت الولايات المتحدة اليها اثناء ازمة الرهائن في العام 1979 التي اعقبت الثورة الإيرانية حين إقتحمت مجموعة من الطلاب الإيرانيين السفارة الأميركية في ايران وإحتجزت رهائن لمدة 444 يوماً، وقد ردت الدولة الأميركية بفرض عقوبات إقتصادية على ايران بحجة انها انتهكت الفقرة الرابعة من المادة الرابعة من هذه الإتفاقية التي أسبغت الحماية على رعايا كل من الدولتين، أيضاً وفي 3 تموز من العام 1988 وبعد حادثة إسقاط طائرة ايران اير الرحلة الرقم 655 التي كانت متوجهة من مطار بندر بن عباس الدولي إلى مطار دبي الدولي، تقدمت ايران في العام 1989 بدعوى ضد الولايات المتحدة الأميركية متهمةً إياها بإسقاط الطائرة من قبل قوات البحرية الأميركية، وقد تمت تسوية القضية في حينه بين الدولتين خارج نطاق المحكمة باتفاق نُظم بينهما في العام 1996 إلتزمت بموجبه اميركا دفع تعويضات لإيران قدرها 131.8 مليون دولار اميركي وذلك على الرغم من أنها لم تعلن تحملها مسؤولية إسقاط هذه الطائرة. الأمر الذي يدل على ان الدولتين كانتا متمسكتين بأحكام هذه المعاهدة حتى تاريخ إنسحاب الولايات المتحدة منها في العام 2018.

هلى خرقت أصول وأحكام المعاهدة؟

أدلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأن الدولة الأميركية خرقت أصول وأحكام هذه المعاهدة قبل تاريخ انسحابها منها في العام 2018 وبعد تاريخ تقديم الدعوى امام محكمة العدل الدولية، وبأنها قد سمحت لمحاكمها بمصادرة أصول تعود لشركات إيرانية وللمصرف المركزي الإيراني بقيمة 1.75 مليار دولار. معتبرة أن هذه الأموال ضرورية في وقت تواجه صعوبات اقتصادية نتيجة العقوبات الغربية المفروضة عليها، وقد ردت الولايات المتحدة بأن قرارها المشار إليه اتخذته كخطوة للتعويض عن الأضرار التي تكبدها ضحايا الهجمات الإرهابية المساقة بفعل إيران مستعملة عبارة « الأيادي المتسخة»، وقد اشارت في دفاعها إلى عدد من الهجمات الإرهابية منها الهجوم الذي وقع في بيروت في تشرين الأول من العام 1983 والذي أودى بحياة 241 من عناصر جيش المارينز الأميركي، وقد نفت الجمهورية الإسلامية كل ذلك.

الوثائق التي عرضت أمام المحكمة

الوثائق هي: معاهدة الصداقة والعلاقات الاقتصادية والحقوق القنصلية المبرمة بين إيران والولايات المتحدة، الموقعة في 15 آب من العام 1955 والتي أقرت من قبل البلدين ودخلت حيز التطبيق في حزيران 1957. قطع العلاقات الديبلوماسية لعام 1980. القانون الأميركي للحصانات السيادية الأجنبية (FSIA) لعام 1996 مع تعديلاته في العام 2008. القانون الأميركي الرامي إلى التأمين ضد مخاطر الإرهاب TRIA في 2002. القرار الرئاسي الأميركي الصادر في العام 2002 تحت الرقم 13599. قوانين ايرانية. الإخطار بالإنسحاب من معاهدة الصداقة في العام 2018.

المسائل المطروحة في مندرجات القرار: مدى إمكانية إعتبار المصرف المركزي الإيراني شركة خاصة لتمكين اسباغ الحماية على أصوله المحجوزة في الولايات المتحدة تنفيذاً لبنود ومواد مندرجات معاهدة 1955 الرامية إلى حماية المواطنين والشركات الخاصة دون سواهم.

الخلاصة الحكمية

يمكن إختصارالخلاصة الحكمية بالآتي:

- إعلان المحكمة إنتفاء صلاحيتها النظر بالموضوع المتصل بالمصرف المركزي الإيراني سنداً لأحكام المواد الثالثة والرابعة والخامسة من الإتفاقية.

- القول بخرق الولايات المتحدة للإتفاقية في الفقرة الاولى من المادة الثالثة والفقرتين الاولى والثانية من المادة الرابعة والفقرة الاولى من المادة الخامسة منها وبما يتصل بعمل المواطنين والشركات الخاصة.

- فرضت مهلة 24 شهراً لإتمام مسألة التعويض في ما بين الطرفين.

يتبدى من الإطلاع على القرار ان محكمة العدل الدولية إعتمدت النظام الموضوعي لتفسير نص الإتفاقية لعام 1955 دون التأويل او القياس، وذلك إنسجاماً مع الفقرة الأولى من احكام المادة الرقم 31 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية التي نصت على ما حرفيته: «تفسر المعاهدات بحسن نية ووفقاً للمعنى الذي يعطى لألفاظها ضمن السياق الخاص بموضوعها والغرض منه». وقد طبقت المحكمة هذا المبدأ في العديد من القرارت والفتاوى حيث اعتمدت المعنى الطبيعي والعادي للألفاظ ضمن الإطار الواردة فيه اي التفسير ضمن نطاق الغاية والهدف من الإتفاقية بالنظر لموضوعها، وينضح من هذا المبدأ عدد من القواعد التي تلتزم بها المحاكم الدولية يمكن حصرها بالآتي:

-التفسير بإعطاء العبارات والألفاظ المعنى الضيق في كل ما يتصل بسيادة الدولة او ما يحدّ منها او ما بتصل بالنصوص الخاصة بحقوق الإنسان وتقرير المصير.

- اخذ العبارات الكاملة لتفسيرها دون الإنتقاص منها مع اعتماد المعنى الطبيعي لها.

- الإكتفاء بالقصد المعلن والواضح بشكل صريح دون الباطن منه مع الأخذ بالإعتبار قاعدة الفعالية على ضوء الممارسة اللاحقة.

وبهذا إنطلقت المحكمة بقرارها بالنظر إلى المعنى العادي للإتفاق الذي أشار بشكل واضح الى ان موضوعه محصور بالرعايا المواطنين والشركات (المادتان الثالثة والرابعة بفقراتهما كافة والمادة الخامسة والفقرة الأولى من المادة السادسة وما يليها، علماً ان جميع موادها قد انصرفت إلى تنظيم حرية التجارة والإنتقال الخاصة بالمواطنين والشركات الخاصة ولم تتعدَ إلى تلك المتصلة بالقطاع العام)،

منطلقات التفسير

ومن هذا المنطلق الموضوعي في التفسير إتجهت المحكمة بعد اعتراض الولايات المتحدة الأميركية الى إسباغ صفة الشركة على المصرف المركزي الإيراني، وبعد إطلاعها على قانون إنشائه وآلية عمله، إلى القول بان توصيفه لا يتآلف مع إعتباره شركة خاصة لا سيما وانه مملوك من الدولة ويقوم بعمليات لصالحها وذلك حتى ولو قام بعدد من العمليات الخاضعة للقانون الخاص مع الولايات المتحدة الأميركية وقد عددت بـ 22 عملية، مما دفع المحكمة إلى اتخاذ قرار يقضي يإعلان عدم اختصاصها النظر بطلب إيران الإفراج عن أصول بقيمة تقارب ملياري دولار يملكها مصرفها المركزي والتي جمدتها الولايات المتحدة رداً على هجمات إرهابية تتهم الجمهورية الإسلامية بالتحريض عليها أو دعمها.

المصرف المركزي ليس شركة خاصة

ان هذا التوصيف القانوني المعتمد في متن القرار والذي خلص إلى القول بان المصرف المركزي لا يمكن اعتباره شركة خاصة يتوافق مع الإعتماد الحديث لتوصيف المصارف المركزية والذي أشرنا اليه في مؤلفنا بعد حسمنا الجدل الذي كان قائماً في حينه، وذلك وإن كانت العمليات التي تقوم بها المصارف المركزية تملك وجهين sui generis أحدهما تنظيمي والآخر مدني تجاري، كما وإن كان هذا الجهاز الهام يعمل داخل الدولة وخارجها ضمن آلية حركة ديناميكة سريعة ومظللاً باستقلالية قلّ نظيرها مع سواه من القطاعات بغية تمكينه من اداء المهام المطلوبة منه في عالم النقد والمصارف، ومن هنا جرى منحه هذه المُكنة لتوجيه عملياته والتصرف تارةً بوجه تنظيمي لضبط القطاع المصرفي والمالي وتارةً أخرى بوجه مالي تجاري، إلاّ ان هذا غير متصل ولا يؤثر على طبيعته القانونية ولا ينتقص من توصيفه كسلطة عامة مالية مستقلة ( (autorité publique indépendante علماً ان تعريب مصطلح السلطة هنا يعني autorité وليس Pouvoir وليس له ان يرتقي إلى مصافها وفقاً للقرار الصادر عن المجلس الدستوري الفرنسي الصادر في 11 تشرين الاول لعام 1984 الرقم 84- 181 ومن ثم تبعه عدد من القرارات.

ومن هنا وبعد تقرير عدم صلاحية النظر بموضوع المصرف المركزي الإيراني رأت محكمة العدل الدولية، بأن واشنطن قد خرقت الإتفاقية حينما سمحت لمحاكمها بتجميد أصول شركات ومواطنين من التابعية الإيرانية فارضةً الاتفاق بين الطرفين على آلية دفع التعويضات خلال مدة 24 شهراً من تاريخ القرار.

نفيد أخيراً ان قرارات محكمة العدل الدولية ملزِمة للدول وغير قابلة للاستئناف، لكن هذه الهيئة لا تحوز وسيلة لتنفيذ قرارتها، إلاّ انه لا شيء يمنع من ان تلجأ الدولة التي كسبت القضية إلى مجلس الأمن الدولي للطلب منه التدخل وفقاً لنظام الأمم المتحدة لإلزام الطرف الخاسر باحترام وتنفيذ قرار المحكمة إذا لم تمتثل تلك الدولة ذاتياً وتلقائياً للقرار القضائي.

(*) المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر، متخصص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية وأجهزة الرقابة التابعة لها


MISS 3