حسان الزين

فيلسوف اللغة العربية والقومية اللبنانية أُغتيل عشيّة ذكرى الحرب

كمال الحاج: السياسيّون حرّفوا "المضمون الحضاري" للطائفية

7 نيسان 2023

02 : 00

إعتبر الحاج أن أسس القومية اللبنانية هي الأرض والإقتصاد والتاريخ واللغة
محزن قتل فيلسوف أو مفكّر، لكنّ الأفظع هو انحسار حضوره، وكأنّ في ذلك تمادياً لفعل الإغتيال وتمدّده من القتل الجسدي إلى الغياب الفكري. ينطبق هذا الكلام على كمال يوسف الحاج، الذي "لبنن الفلسفة وفلسف لبنان"، كما كتب جورج طرابيشي في "معجم الفلاسفة".

أُغتيل كمال يوسف الحاج (مواليد مراكش 17 شباط 1917) عشيّة الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الحرب في لبنان (1975)، في الثاني من نيسان 1976. وإن كان في التوقيت هذا احتمال الصدفة، فإن الإقدام على قتله في خضمّ مساعيه لإبعاد الاقتتال عن مكان اغتياله في بلدته الشبانية يستبعد إلى حدٍّ بعيد ذاك الاحتمال. وإذ قُتل الحاج بهدف استمرار الاقتتال وتعميم الفوضى وتعميقها بغية خراب لبنان وتدمير الدولة، فإن المؤسف الذي يحقّق مآرب القاتل هو أن الجريمة لم تأخذ مجراها القضائي، وكأن لا دولة حتّى في بلدة من سيغدو رئيساً للجمهورية بعد أقل من ستة أشهر على الحادث الغادر، الياس سركيس، الذي كان رفيق المغدور.

معطيات الوجدان

وفي الجامعة الأميركية، حيث درس الأدب العربي (تخرّج في العام 1946)، بدأت علاقته بالفلسفة التي دافع عنها "كحاجة أولى" لكل إنسان. وهناك، ترجم إلى العربية كتاب هنري لويس برغسون "رسالة في معطيات الوجدان البديهية". ولعلّ هذه التجربة التي أشعرته باستحالة نقل العبقرية كاملة من لغة إلى أخرى، فتحت وعيه على البعد الفلسفي للغة، وحثّته على ممارسة فعل التفلسف الأصلي. وقد لفتت تلك الترجمة انتباه المستشرق لويس ماسينيون، فدعم حصول الحاج على منحة دراسية في فرنسا. وبعد اشتغاله على أطروحة الدكتوراه في السوربون (1949)، أعدّ الكتاب الذي أطلق شهرته: "فلسفة اللغة" (1956).

ويروي يوسف الحاج: "فور عودته إلى لبنان في مطلع العام 1950، درّس الفلسفة في معهد الآداب العليا الفرنسي وفي الأكاديمية الوطنية للفنون الجميلة... وفي السنة التالية، اعتلى منبر الندوة اللبنانية للمرة الأولى في محاضرة حول ازدواجية اللغة. تلك كانت أيضاً المرة الأخيرة التي رأى فيها أن يحاضر بالفرنسية. بعدئذٍ، وانسجاماً مع اقتناعه الفلسفي، استقال عام 1925 من منصبه في معهد الآداب العليا لرفضه متابعة تدريس الفلسفة بغير اللغة العربية، ثمّ أحجم عن الكتابة بالفرنسية للأسباب عينها. لكنه بقي يدرّس الفلسفة في الأكاديمية الوطنية للفنون الجميلة".

حدث مفصليّ

ووفق السيرة الذاتية للحاج (مؤسسة الفكر اللبناني في جامعة سيدة اللويزة)، فإنه حفّز الرهبانية اللبنانية المارونية التي نسج معها "علاقات متينة" على إطلاق التعليم العالي (الجامعي لاحقاً) ضمن مؤسّساتها التربوية. ومع انطلاق السنة الأكاديمية 1950- 1951، تحقّقت رغبته هذه، فدشّن معهد الروح القدس- الكسليك... وقد واكب هذا الصرح منذ انطلاقته الأولى، فأمَّه أستاذاً للفلسفة، وبقي فيه حتّى منتصف ستينيات القرن العشرين".

لكن "الحدث المفصلي في حياة الحاج"، وفق السيرة نفسها، حصل بعد سنة من ذلك: "تأسيس الجامعة اللبنانية بجهود قلة قليلة، منهم الحاج نفسه. وما إن فتحت الجامعة أبوابها، حتّى أطلق الحاج ثورة تربوية، إذ راح يلقي، باللغة العربية، محاضرات جامعية حول فلسفة رينه ديكارت... وشكّلت هذه المحاضرات فتحاً جديداً في التدريس الجامعي، ومغامرة فكرية ثورية اهتزّت لها أروقة الجامعة الناشئة ودوائر التربية في لبنان، لأن الفلسفة العالمية، حتّى ذلك الحين، لم تكن تدرّس بالعربية".

معارك

في أواخر الستينيات من القرن العشرين، بات الحاج المفكّر الجامع بين العقل والإيمان. ويروي يوسف الحاج: "لم يجد مفتي الجمهورية آنذاك، الشيخ حسن خالد، أفضل من كمال الحاج الماروني لتكليفه بالردّ على كتاب نقد الفكر الديني للمفكّر السوري صادق جلال العظم، الذي أحدث يومئذٍ ضجةً كبيرة في الأوساط الدينية" (1969).

يضيف يوسف الحاج: "على كلّ الجبهات الفكرية الكبرى، كان كمال الحاج المناضل الأبرز، وأحياناً الأوحد. في الصراع على قومية لبنان وديمومته، علا زئير كمال الحاج على كل النقيق. في الدفاع عن اللغة العربية وتحديثها والإبداع فيها، ربّان السفينة هو كمال الحاج. في تثبيت الروح الميثاقية بين جناحي لبنان...، رأس الحربة هو كمال الحاج. في الطحش على العقيدة الصهيونية وتقويض حججها، لا جرأة فوق جرأة كمال الحاج. في فكفكة الماركسية والتصدّي للإلحاد المعاصر، سيّد المنابر هو. في التنظير للاعتدال المسيحي متمثلاً في بكركي، دونك كمال الحاج. حتى في التصدّي لجملة من الانتفاضات ضمن الكنيسة المارونية، ومن داخل البطانة الإكليروسية، وبعضها على شخص البطريرك بالذات، ما تجرّأ أحد سوى كمال الحاج".

القومية اللبنانية و"خطر الصهيونية"

وعلى رغم أهمية مساهمات الحاج في تلك المعارك التي موضعته فكرياً وفلسفياً في الجانب المثالي الروحي والديني، وسياسياً في فريق اليمين، تبقى المعركة الأكثر أهميّة، في مسيرة الحاج، هي معركة اللغة. وهي لا تنفصل عن تفلسفه في شأن الأمة والقومية. ففيلسوف اللغة قال إن هناك أمة عربية منطلقاً من اعتباره الأمة تقوم على اللغة، في حين تقوم القومية على هيكل الكيان السياسي. ومن هنا عارض القومية العربية، بل رفضها، منظّراً للقومية اللبنانية المنفتحة على الأمة العربية والعالم، وتواجه "خطر الصهيونية" الذي خصّه بكتاب بعد النكسة العربية في الحرب مع الكيان الإسرائيلي.

وجاء في "معجم الفلاسفة": حاول الحاج في "فلسفة اللغة" أن ينشئ أونطولوجيا للغة باعتبارها "أرقى مظاهر النشاطات الوجدانية". وانطلاقاً من المعادلة بين اللغة والأم، شدّد على الدور القومي للغة العربية باعتبار أن "الدفاع عن اللغة القومية هو دفاع عن أدق ما في وجدان الأمة".

الأرض والإقتصاد والتاريخ واللغة

يكتب الأب صلاح أبو جوده اليسوعيّ عن "أسس القوميّة اللبنانيّة" عند الحاج أنه "لم يربط اللغة العربيّة بالقومية العربية، بل ربط تلك اللغة بالقومية اللبنانية. ذلك أنّ القومية تقوم على عناصر مترابطة بعضها ببعض، لا يمكن الإستغناء عن أيٍّ منها، وهي: الأرض، الاقتصاد، التاريخ، واللغة. وبكلام آخر، لا يمكن الإدّعاء، مثلاً، بأنّ اللغة العربية تكفي وحدها لتؤسِّس قومية عربية، أو أنّ التاريخ وحده يكفي لذلك. فمثل هذه المقاربة المجتزأة تُفسد مفهومَ القومية. وفي ضوء هذه المقاربة النظريّة، يرى الفيلسوف، من ثمّ، أنّ القومية تكتمل في دعوتها السياسية، إذ تُظهِّر حقّها في وحدة كيانية سياسية تتجسّد في دولة. وبالتالي، ترتبط القومية حُكماً بدولة معينة، وترتبط الدولة حُكماً بقومية. لذا، لا يمكن اعتبار الكيانات السياسية المتعدّدة القائمة في المجتمع، مثل المجتمع اللبناني، قوميات لأنها لم تتجسّد في دول".

فوق الحجر الأساس اللغوي هذا، شيّد الحاج عمارته الفلسفية بشأن الأمة والقومية ولبنان. فرفض اعتبار دولة لبنان مجرّد صنيعة للاستعمار، ليس لأن الأسس القومية (الأرض والإقتصاد والتاريخ واللغة) متوافرة في بنيانها فحسب، بل لأن اللبنانيين اتفقوا في العام 1943 على "ميثاق وطني"، خصّه الحاج بكتابات عدة أبرزها "فلسفة الميثاق الوطني"، وهو "مبحث فلسفي لاهوتي سياسي حول الطائفية في لبنان على ضوء الميثاق الوطني".

الميثاق وخطر السياسيين

ويرى الحاج، الذي يزاوج ما بين القومية والحريّة، في هذا الكتاب أن السياسيين هم من أساؤوا إلى الطائفية التي يقوم عليها كيان لبنان. لهذا سارع بعد "حوادث 1958" من موقعه الفلسفي إلى البحث في الطائفية، التي يعتبر أن اللبنانيين في 1943 أسّسوا الجمهورية اللبنانية بناء عليها ثم خانها السياسيون الذين يتحدّثون باللاطائفية ويمارسونها في الوقت نفسه. وهكذا "أخفقت السياسة، على أيدي أكثر السياسيين، في إيجاد حلٍّ عقائدي لمشكلة لبنان".

ويكتب الحاج: "لقد أجمعت كل الأحزاب السياسية على أن الطائفية أمر يجب أن يكون مرذولاً. ولكن الطائفية لم تُرذل بل زادت حدّة. فهل هذا من قبيل المصادفة، أم أنه يضرب في الجذور؟ نسارع إلى القول إن الطائفية تضرب في جذورنا، لكننا شططنا عن بنائيّتها في وجودنا القومي. انحرفنا عن مضمونها الحضاري".

ويجد أن "علّة تسطيحنا في معالجة الطائفية أننا لا نأخذها إلا على محمل الوظيفة. لقد ارتبطت، عندنا، بالوظيفة في الإدارة". ويميّز الحاج بين الطائفية والتعصّب، فالطائفية في نظره "هي الدين عينه، ممظهراً، ذات نتائج سياسية، ضخمة، خطيرة، لا يمكن إلغاؤها دون إلغاء هذه النتائج السياسية معها". ويضيف أن "لبنان يتألف، قوميّاً، من الإسلام والنصرانية. وهذا يعني واحداً من أمرين: إما أن تجتاحنا ثورة كاسحة، يقوم بها زعيم فرد، فيُلغي لا الطائفية وإنما الدين، كي يقيم على حطامه دولة ملحدة. وإما أن نطبّق اللاطائفية بموافقة من الدينين الكبيرين".

ويخلص في هذا الشأن إلى أنه "ينبغي لنا أن نوجد التوافق، بين الإسلام والنصرانية. لبنان لا يستطيع أن يقوم على دينين يتلاغيان. إما حذفهما، وهذا غير وارد، وإما الاستناد إليهما، شرط أن ينسجما في ما يتعلق بلبنان، من حيث وجوده القومي. إذ ذاك تصبح الطائفية بنّاءة".