الفصل بين الناس أساسي للسيطرة على فيروس "كورونا"

13 : 26

في أواخر كانون الثاني وبداية شباط 2020، فرضت الصين مجموعة من تدابير العزل الاجتماعي الأكثر صرامة على الإطلاق، فحجزت مئات ملايين الناس في منازلهم. نجحت هذه المقاربة في حصر نطاق تناقل فيروس كورونا لدرجة أن تتراجع الحالات المسجلة يومياً في أنحاء الصين خلال شهر شباط. لكن خارج الصين، لن تكون هذه الضوابط الاجتماعية الفائقة ممكنة. بدأ الفيروس ينتشر على نطاق واسع. حتى كتابة هذه السطور، تسجّلت إصابات في 30 بلداً حول العالم، وتفيد التقارير بتسجيل حالات محلية في مناطق جديدة يومياً. لم يبقَ الكثير من الوقت أمام الهيئات الصحية العالمية للتفكير بالتدابير التي تستطيع اتخاذها لتخفيض وتيرة تناقل الفيروس وإبطاء انتشاره... بعدما تدرك أن جهود احتواء المرض غير مجدية!



يواجه الناس حول العالم وباءً محتملاً جديداً بسبب فيروس "كورونا" الذي ظهر في الصين. تم رصد هذه النسخة الثانية من "سارس" للمرة الأولى في كانون الأول 2019 لدى مجموعة من المصابين بالتهاب رئوي في مدينة "ووهان" في وسط الصين. قيل إن هذه الحالات ظهرت في الأصل في سوق لبيع لحوم حيوانات برية. عملياً، بدأ تناقل الفيروس منذ بداية كانون الأول، أو ربما قبل ذلك. وحين أعلنت السلطات الصينية، في 9 كانون الثاني، عن رصد فيروس جديد، كانت العدوى قد انتشرت خارج "ووهان". اكتشف سائح صيني وصل إلى بانكوك في 8 كانون الثاني إصابته بالفيروس في 13 كانون الثاني.

في نهاية كانون الثاني، سُجّلت 106 حالات في 19 بلداً. وبحلول 22 شباط، ارتفع هذا العدد لأكثر من 1400 حالة في 28 بلداً خارج الصين. ساهم تقليص عدد رحلات السفر في تأخير تفشي الفيروس حول العالم، لكنه لم يمنع انتشاره. تُركّز المقاربات الرامية راهناً إلى احتواء الفيروس على الوقاية من التقاط العدوى عبر تحديد المصابين وعزلهم وفرض الحجر الصحي على أقرب الناس إليهم. لكن قد لا تكون هذه التدابير كافية.

نجح العزل التام والحجر الصحي في احتواء "سارس" في العام 2003 في جميع البلدان التي انتشر فيها. لكن ارتبط ذلك النجاح بميزتَين أساسيتَين في تلك العدوى. أولاً، يسبّب "سارس" دوماً أعراضاً تنفسية حادة تتطلب الدخول إلى المستشفى. ثانياً، لا يكون الفيروس مُعدياً عند ظهور الأعراض بالضرورة، لكن يزيد احتمال تناقله مع تطور مسار المرض.

في المقابل، يسبّب فيروس كورونا أعراضاً خفيفة بشكل عام، ويبلغ احتمال نقل العدوى ذروته في بداية المرض تقريباً. يظن الخبراء أيضاً أن العدوى قد تنتقل إلى الناس قبل ظهور الأعراض. لهذه الأسباب، لن يتم التعرف على عدد كبير من المصابين قبل انتشار العدوى، ولن يخضع الكثيرون لأي فحص مخبري للتأكيد على إصابتهم بالفيروس.

درس مهم من العام 1918

حصرت الصين تناقل فيروس كورونا عبر فرض تدابير متطرفة لعزل الناس عن بعضهم، لكن لن تكون هذه التدابير ممكنة في مكان آخر من العالم. أصبحت أهم المناطق الصينية أشبه بمدن أشباح في بداية شهر شباط، فطُلِب من السكان أن يلازموا منازلهم قدر الإمكان. وفي بعض المدن، سُمِح للسكان بالخروج مرتين في الأسبوع فقط لشراء البقالة. كذلك، طلبت البلديات من سكان بعض المناطق وضع أقنعة للوجه عند خروجهم، وبقيت المدارس وأماكن العمل مغلقة بعد عطلة رأس السنة القمرية الجديدة الاعتيادية.

ثم خفّفت الصين القيود المفروضة على حركة السكان في منتصف شباط، فنشرت تطبيقاً على الهواتف الذكية لتحديد وضع كل شخص: يشير اللون الأخضر إلى أشخاص يستطيعون مغادرة منازلهم، والأصفر إلى أشخاص يحتاجون إلى عزل أنفسهم في منازلهم طوال سبعة أيام، والأحمر إلى أشخاص يحتاجون إلى عزل أنفسهم طوال 14 يوماً. يتعقب هذا التطبيق تحركات الناس ويرسل المعلومات إلى قاعدة بيانات مرتبطة بعوامل الخطر المعروفة. قد يتغير وضع الشخص من أخضر إلى أصفر أو أحمر عند الاحتكاك بمصابين بالعدوى أو السفر إلى مناطق موبوءة. وحدهم حاملو اللون الأخضر يستطيعون دخول الشركات أو استعمال وسائل النقل المشتركة أو المنشآت العامة. يشرف المسؤولون المحليون ولجان الأحياء على تطبيق هذه الضوابط بصرامة.

لكن من المستبعد أن تفكر معظم البلدان الأخرى بفرض ضوابط مماثلة على تحركات الناس، لأن المواطنين هناك قد لا يتقبّلون فكرة أن تراقبهم الحكومة وتحدد تحركاتهم وسلوكياتهم. وحتى لو حصر الناس خارج الصين حجم تواصلهم الاجتماعي خوفاً من التقاط العدوى، قد لا تكون هذه الجهود الطوعية كافية لمنع تفشي الفيروس على نطاق واسع. ما لم تُعزَل الشعوب كلها عن العالم الخارجي، كما حصل في عدد من جزر المحيط الهادئ خلال وباء الإنفلونزا بين العامين 1918 و1919، ستكون الوقاية من انتشار الفيروس شبه مستحيلة. ما العمل في هذه الحالة إذاً؟

سبق واتخذت بلدان كثيرة تدابير معينة لتأخير استيراد العدوى عبر تخفيض عدد المسافرين من الصين وبلدان موبوءة أخرى. وفق تقديرات العلماء، يسمح فحص المسافرين القادمين برصد حوالى ثلث المصابين، لكنه يغفل عن الثلثَين المتبقيَين. نتيجةً لذلك، بدأ تناقل العدوى بصمت على الأرجح في بلدان كثيرة، بما في ذلك الولايات المتحدة.

أمام هـذا الوضع، يجب أن يصبّ التركيز في المقام الأول على تقليص نطاق تناقل العدوى في المجتمعات. يمكن تحقيق هذا الهدف بطريقتَين. تقضي الطريقة الأولى بعزل من تأكدت إصابتهم بالفيروس في غرف خاصة داخل المستشفيات، على أن يخضعوا هناك لمراقبة مشددة، ثم تحديد أقرب الناس إليهم ووضعهم في الحجر الصحي. وإذا واجه هؤلاء الأقارب أعراض العدوى لاحقاً، يُفترض أن يمنعهم الحجر الصحي من نقل الفيروس إلى آخرين. كانت هذه المقاربة فاعلة مع "سارس" في العام 2003، ويمكن تطبيقها بنجاح مع فيروسات أخرى تُسبب أمراضاً حادة دوماً (على غرار فيروس الإيبولا). لطالما ارتكز بروتوكول التعامل مع كورونا على احتواء المرض، لكن ستفقد تدابير العزل ومراقبة محيط المرضى والحجر الصحي فاعليتها سريعاً في هذه الحالة لأن معظم إصابات كورونا تكون خفيفة، وسرعان ما تفتقر المستشفيات إلى المساحات الكافية لعزل هذه الحالات الخفيفة. كذلك، يستلزم تعقب محيط المرضى عملاً شاقاً. أخيراً، تحددت فترة الحجر الصحي بـ14 يوماً، وهو وقت طويل لحجز الأشخاص الأصحاء ويتطلب هذا التدبير موارد كبرى. يبقى الحجر الصحي في المنزل خياراً ممكناً، لكن يصعب فرضه على جميع الناس.

يتعلق خيار بديل بالعزل الاجتماعي، ويقضي بتقليص الاحتكاك بين الناس في المجتمع ككل. خلال وباء الإنفلونزا بين العامين 1918 و1919، منعت مدن أميركية التجمعات الحاشدة، وأغلقت المدارس، وحظرت التجمع في أماكن محصورة مثل المدرجات الرياضية ودور العبادة وقاعات الحفلات الموسيقية... على صعيد آخر، وجدت الشركات الطرق التي تناسبها لمتابعة عملها بعدد مُخفّض من اليد العاملة، واستعمل جميع الموظفين تقريباً أقنعة قماشية أو أغطية أخرى للوجه. قد تتبنى الحكومات عدداً من هذه التدابير مجدداً في العام 2020، لكنها ستترافق على الأرجح مع عواقب اجتماعية واقتصادية كبرى. مع ذلك، تبقى هذه المقاربات أساسية لإنقاذ حياة الناس، لا سيما إذا بدأت الحالات المتزايدة تستنزف قدرات خدمات الرعاية الصحية.

حاجة كبرى إلى خطط فورية وسريعة

لا تزال الفرصة سانحة، ولو لفترة وجيزة، للاستعداد لمواجهة الفيروس الذي سيُعتبر قريباً وباءً عالمياً. في الولايات المتحدة، سبق وبدأ تناقل الفيروس بصمت، إذ تُسجَّل اليوم زيادات بطيئة لكن ثابتة في الحالات المشتقة من مسافرين مصابين بالعدوى خارج الصين. حين تبدأ الفحوصات جدياً في مختلف المستشفيات الأميركية، من المتوقع أن يرصد الأطباء إصابات بفيروس كورونا لدى مرضى لا علاقة لهم بالصين أو أي مناطق موبوءة أخرى، ما يعني أنهم لن يعرفوا مصدر العدوى في هذه الحالات. لقد أدركت الهيئات الصحية الإيطالية للتو أن العدوى بدأت تنتشر على الأرجح في شمال البلاد منذ أسابيع، وقد تجد بلدان أخرى نفسها في هذا الموقف قريباً. لهذا السبب، يُفترض أن يستبق المعنيون في مجال الرعاية الصحية ومختلف القطاعات ذات الصلة الأزمة ويخططوا للتعامل مع زيادة الطلب على خدمات المستشفيات، لا سيما في أقسام العناية المشددة. لكن يجب أن تستعد السلطات الحكومية والبلديات أيضاً لتطبيق تدابير الفصل الاجتماعي في نقاط تفشي الفيروس.

حان الوقت للتخطيط لهذا الاحتمال والتفكير بالتدابير الفاعلة والعملية لتقليص نطاق تناقل العدوى. ويجب أن تستفيد هيئات الصحة العامة من الفسحة الضيقة المتبقية لرصد الأحداث التي تتطلب أكثر التدابير صرامة (مثل إغلاق المدارس وأماكن العمل) وتحديد الوقت المناسب لتنفيذها ومعرفة مدة تطبيقها. لضمان امتثال عامة الناس ودعم جهود الفصل الاجتماعي، تقضي خطوة أساسية بنشر الخطة على نطاق واسع وتفسير أهميتها.

في الوقت الراهن، تعتمد معظم البلدان في تعاملها مع فيروس كورونا على سياسة احتواء المرض، ما يعني حصر رحلات السفر أو حظرها بالكامل وعزل المرضى وإخضاعهم للحجر الصحي بحسب حالة كل شخص. لن تمنع هذه التدابير انتشار الفيروس، لكنها كفيلة بكسب الوقت مقابل كلفة اقتصادية مرتفعة. أما البلدان التي لم تتأثر بعد بفيروس كورونا لكنها ستعجز في نهاية المطاف عن منع انتشار الوباء محلياً، فيجب أن تضع خططاً مدروسة هذه المرة وتُحَضّر مجتمعاتها لتدابير العزل الاجتماعي اللازمة لتخفيف آثار فيروس كورونا.


MISS 3