د. ميشال الشماعي

أيديولوجيّة التعتير

13 نيسان 2023

02 : 00

تعتمد نظريّة «أيديولوجية التعتير» على تحويل المواطن من شخص بشريّ يتمتّع بحريّة شخصيّة كِيَانيّة في إطار الوطن الذي ارتضى العيش بكنفه، إلى مجرّد فرد، أيّ رقم، مسحوق اجتماعيّاً وماديّاً وثقافيّاً، ليصبح حطباً يحرقه الزّعيم الذي نجح بالسيطرة على مؤسّسات الدّولة من خلفيّته الميليشيويّة بعد الحرب. ونتيجة لمخزون الحقد الذي يحمله هذا الفرد الرّقم على الدّولة التي سحقته خلال هذه العقود الأربعة، يصبح مشروعاً قابلاً للتضحية حتّى بنفسه، لأنّ هذه المنظومة أفقدته كلّ شيء. فلا يملك ما يخسره، فتصبح عنده الحياة بلا قيمة. ناهيك عن أنّه بات يترقّب إعلان إفلاس دولته بعد خسارة ثلثيّ أموالها نتيجة سياسات هذه الطغمة الرّعناء.

هذا المواطن الذي نجحت هذه المنظومة بإنتاجه، وتحويل فكره من الفكر المُوَاطِنيّ – الوطني إلى مجرّد عقل يفكّر في كيفيّة التخلّص من « تعتيره»، صار مجرّد حطب يحترق في أيّ ثورة ممكن أن يفكّر بالسير بها ضدّ هذه الزّعامات المافياويّة. وبذلك نجحت هذه المنظومة بتعطيل التفكير الثورويّ الحقيقي لدى مواطنيها. حتّى صار جُلّ همّها تغذية وتفعيل الشحّ الفكري الثورويّ والهدف الوحيد لهذه الزعامات، وذلك لتأجيج أيديولوجيّة التعتير متى خفت وهجها.

حتّى أصبح لهؤلاء راهناً فلسفتهم الخاصّة؛ وتمكّن بعض مَن قاد حراكهم العفوي من الوصول إلى مركز القرار باستخدامه «التعتيريّين» الذين سرعان ما أحرقهم بمشروعه الثورويّ المزعوم. ونجح بعضهم في نقل مشروعهم بمحاربة هذه الدّولة تحت شعار محاربة المنظومة بهدف تدمير الـ System. وهذا ما عزّز بشكل غير مباشر الإستقطاب التعتّيري للمواطن الفرد، واقتلعه أكثر من نظريّة المواطن الشخص. والمفارقة أنّ الخيط الذي يميّز بين هاتين النّظريّتين هو تلك المساحة المتواضعة من الحرّيّة الشخصيّة الكِيَانيّة التي يتمتّع بها الشخص ولا يعرفها الفرد.

لعلّ هذا الواقع هو ما يُعزّز الإستقطاب الثورويّ الحقيقيّ للمواطن ويسمح للمستفيدين من هذه الفلسفة المواطِنيّة من الإستمرار باستعمالهم لبنان ساحة مفتوحة لمشروعهم القتالي الجهادي الذي ينزع المؤسّسة العامّة من الفكر «الدّولتيّ» لحساب المؤسّسات التي تقودها هذه المنظّمات. وخير مثال على ذلك «جمعيّة القرض الحسن»، وكبرى الشركات والمصارف التي تملكها قيادات هذه المنظومة. والمفارقة أيضاً أنّ بعض مَن ادّعى الإصلاح والتغيير في المرحلة السابقة تمّ مأسسة شركات ومصارف خاصّة به ليتمكّن هو نفسه من التحوّل إلى منتِجٍ جديد للتعتيريّين بهدف استغلالهم تحت شعار محاربة أيديولوجيّة التعتير.

وعندما اتّضحت الرؤية السياسيّة للمشروع السيادي، وبدأت تتبلور في مشروع سياسيّ واضح في 14 آذار 2005، امتهن هؤلاء سياسة التعطيل بالإستفادة من تحويل التوافق الوطني إلى نظريّة ديمقراطيّة جديدة، قُمت بتأطير أسسها في بعض كتاباتي السابقة تحت مصطلح «الديمقراطيّة التعطيليّة». أضف على هذا النّهج الذي بات على عتبة نهاية عقده الثاني، سلسلة من الإخفاقات في الممارسات السياسيّة التي تميّز بها عهد الرئيس السابق ميشال عون، ما أدّى إلى نجاح هذه المنظومة نجاحاً متكاملاً بأركانها كلّها في تعميم أيديولوجيّة التعتير.

ذلك كلّه يندرج في سياق التوصيف. وهذا ما يجب عدم الوقوف عند أعتابه والإكتفاء فقط بالنّقيق كما تفعل الضفادع في لحظات جوعها. المطلوب أوّلاً وقبل أيّ شيء آخر الإعتراف بنجاح هذه المنظومة. ثانياً القبول بفكرة الخروج الحقيقي من تحت هذه المظلّة وذلك بتأطير أيديولوجيّة حقيقيّة للثورة الحقيقيّة قوامها الحقيقة فقط. ولعلّ الإنتخابات، هي فرصة النّاس في قول الحقيقة.

من هنا، ضرورة السيّر بأيّ عمليّة انتخابيّة وقبول نتائجها لأنّها المدخل الوحيد للتخلّص من أيديولوجيّة التعتير التي لا تواجَه إلا بأيديولوجيّة الحقيقة التي لا يمكن أن تكون بلا مواجهة حقيقيّة للتخلّص من الموت الحتمي الإنحلالي الذي تحتّمه علينا أيديولوجيّة التعتير. ولعلّ هذا ما جعل اللبنانيّين يبحثون عن كيفيّة الإستقرار على الإستمرار، لا سيّما في هذه الضائقة التي لم يشهد لها لبنان مثيلاً.

يبدو أنّ خيارات النّاس باتت واضحة أكثر فأكثر. يرفضون البقاء في هذا الدّرك. ولعلّ هذا ما يخيف المنظومة. لذلك، لن تألو أيّ جهد لتطيير أو تعطيل أي عمليّة انتخابيّة، بدءاً برئاسة الجمهوريّة وليس انتهاءً بانتخابات بلديّة أو اختياريّة في أصغر قرية من قرى لبنان. الحلّ والخلاص لن يكون إلا بتعميم أيديولوجيّة الحقيقة.


MISS 3