نوال السعداوي... كاتبة مصر الثائرة!

14 : 03

كانت والدتها تقول إن ابنتها لن تصاب بأي أذى حتى لو رُمِيت في النار! اليوم، في عمر الثامنة والثمانين، من الواضح أن الطبيبة والكاتبة المصرية نوال السعداوي لم تقدّم التنازلات يوماً في نضالها المستمر في سبيل تحرير المرأة. لطالما كان القلم والورقة سلاحها الوحيد. حين احتُجِزت نوال السعداوي في سجن القناطر النسائي، بالقرب من القاهرة، في العام 1981 بتهمة ارتكاب "جرائم ضد الدولة" (كانت تدير مجلة نسوية حينها)، قال مشرف السجن محذراً: "سيكون إيجاد قلم وورقة في زنزانتها أكثر خطورة من إيجاد سلاح"!


في كتاب Walking Through Fire (المشي في النار)، وهو المجلّد الثاني من سيرتها الذاتية بعد صدور الجزء الأول في العام 1999 بعنوان A Daughter of Isis (ابنة إيزيس)، تروي نوال السعداوي كيف نجحت في إخفاء ما تكتبه تحت أرضية الزنزانة التي تشاركتها مع 12 امرأة أخرى، بعضهنّ ماركسيات والبعض الآخر عاهرات واجَهْن بدورهنّ مشاكل كثيرة مع نظام الرئيس أنور السادات. نُشرت الملاحظات التي استطاعت أن تكتبها هناك بعد مرور بضع سنوات بعنوان Memories from the women's prison (مذكرات من سجن النساء)، فشكّلت هذه المواد حجر أساس إضافي لمضمون استثنائي في كتابٍ يعود إلى واحدة من أقدم وأشهر المعارِضات المصريات. هذا العمل هو عبارة عن خليط من المذكرات وقصص السفر والروايات والأخبــــــار والمقاطع المسرحية والمقــالات.

لطالما شعرت نوال السعداوي بحاجتها إلى الكتابة عن أي موضوع، بغض النظر عن المرحلة التي تمرّ بها في حياتها. في سنوات طفولتها، كانت تخفي دفتراً وقلماً تحت وسادتها خلال الليل. وبما أن الكتابة كانت ترتبط بنظرها بفكرة الموت دوماً، سألت أحد معلّميها يوماً إذا كانت تستطيع متابعة الكتابة في الجنّة. كان ذلك السؤال كفيلاً بمعاقبتها ووقوفها على باب الصف لفترة. في سن الرشد، احتفظت الكاتبة بهذه العادة ولم تتوقف عن كتابة أفكارها في سريرها حين تستيقظ. أدى حرمانها من هذه الأدوات الأساسية أو منع نشر كتاباتها، وهو ما حاولت السلطات السياسية والدينية فعله في مختلف مراحل حياتها، إلى دفعها نحو أقصى درجات التمرد بكل بساطة. تكتب السعداوي بنبرة عالية من التحدي في كتاب Walking Through Fire: "كان القلم والورقة السبب الذي دفعني إلى الطلاق مرتين"! إنها واحدة من العبارات التي تحمل في طيّاتها معنى الثورة والتمرد. لقد فهمت نوال السعداوي منذ مرحلة مبكرة أن "الكتابة نضال بحد ذاته"، كما كانت تقول الروائية الأسترالية كريستينا ستيد. ينطبق هذا الواقع تحديداً على النساء في المجتمعات الذكورية بامتياز. في هذا السياق، تقول الروائية الكندية مارغريت أتوود: "لقد عبّرت بأسلوبها عن مسائل لا يمكن التعبير عنها"! كانت السعداوي رائدة في مجالها لأنها أدركت بكل وضوح وقائع حياتها وحياة نساء أخريات لم يجرؤ أحد حتى تلك الفترة على التعبير عنها علناً. تدخل تلك المذكرات إذاً في خانة التقاليد هذه، وتعكس حياتها، بالطريقة التي عبّرت عنها، سلسلة مــن المِحَن والخيانات.



في عمر السادسة، خضعت السعداوي للختان (إنه شكل من تشويه الأعضاء التناسلية) بموافقة والدتها التي أشرفت على العملية بنفسها. وفي عمر التاسعة، ارتعبت حين بدأت دورتها الشهرية للمرة الأولى، ثم انتابها الشعور نفسه مجدداً بعد سنوات طويلة بسبب انقطاع الطمث. أنهت دراسة الطب قبل عمر الخامسة والعشرين من دون أن تتدرب على العمليات الجراحية بالشكل المطلوب من طلاب الطب. ثم تزوجت مرتين: تخلى زوجها الأول عن القيم الثورية المثالية وغرق في العدمية وسيطرت عليه مشاعر الغيرة من عمل زوجته. أما زوجها الثاني، فكان تقليدياً وراح يضربها في نهاية المطاف، ما دفعها إلى الإجهاض ومحاولة الانتحار في مناسبات متكررة.

وحين نجحت في ترسيخ مكانتها ككاتبة مشهورة، بدأت السلطات وخصومها السياسيون يهددونها ويراقبونها باستمرار، حتى أنهم أصدروا قرارات بإقفال الجمعيات والمجلات التي أسّستها، وفرضوا رقابة على كتبها أو حظروا نشرها، ورموها في السجن وطالبوا برأسها، ووضعوها على قائمة الأشخاص المستهدفين، وحاولوا الضغط عليها أثناء وجودها في المنفى أيضاً.

صدر كتاب Walking Through Fire في بداية الألفية الجديدة: كانت نوال السعداوي حينها قد تقدمت في السن، لكن لم تكفّ المشاكل عن ملاحقتها رغم ذلك. في العام 2001، تعرّضت لملاحقة قضائية بتهمة "الردة"، فزاد احتمال أن تضطر للطلاق من زوجها الثالث شريف حتاتة الذي كان مترجم مذكراتها إلى اللغة الإنكليزية. سرعان ما فازت بالدعوى لكنها عادت وتطلقت من حتاتة في نهاية المطاف، فقد بدأ هذا الأخير، بعد 43 سنة من الزواج، علاقة مع امرأة أصغر منه بخمسين سنة.

هذه الأحداث المتراكمة توحي بأن حياة السعداوي كانت قاتمة جداً، لكنّ مذكراتها لا تعطي هذا الانطباع السلبي بأي شكل. يتّسم الكتاب بنص حيوي ومثير للاهتمام، وهو مفعم بالعواطف والثقل الفكري. وحتى نقاط ضعفها (الابتذال، المصطلحات السياسية، العبارات السطحية المتكررة، التسلسل الزمني العشوائي) تعكس صدق التجارب التي عاشتها لأننا نتكلم ونفكر بهذه الطريقة التي تستعملها أحياناً، أي بعبارات مختصرة وأفكار سريعة وأسلوب هوسي ومفاهيم متداخلة. هذه الفوضى التي تكشف عنها الكاتبة عمداً هي التي تعطي طابعاً قوياً وحميماً إلى قصتها، علماً أن عدداً كبيراً من السِيَر الذاتية الأكثر إتقاناً يفتقر إلى هذه المزايا. تعكس هذه الصفحات الغنية جزءاً من شخصيتها الجامحة وثقتها المبهرة بنفسها.

عنوان الكتابWalking Through Fire مستوحى من تعليق قالته والدتها في أحد الأيام عنها: "يمكننا أن نرمي نوال في النار، فتخرج منها من دون التعرض لأي خدش. لا أحد محتال أكثر منها"!على صعيد آخر، تعترف نوال السعداوي بكل سعادة بأنها لا تحب الزخرفات المبالغ فيها، بل تتباهى ببساطة ملابسها وأسلوبها المباشر في الكلام. لقد ورثت هذه الميزة من جدّتها التي كانت فلاحة تتكلم بإيجاز على غرار جميع الأميين. يسهل أن يتحوّل الزهد أو البساطة إلى أسلوب حياة حقيقي، مثلما يفضّل البعض السطحية التي تتجنبها الكاتبة بأي ثمن. لكن كان خيار السعداوي سياسياً بطبيعته، وهو عبارة عن رد مدروس وعميق على المعايير التي فرضها الرجال النافذون ولطالما اصطدمت بها على مر حياتها. هي تَصِف هؤلاء الرجال فيما تجلس وراء مكاتب ضخمة، تحت صور مدرائهم الموضوعة في إطار ذهبي. هم يتّسمون جميعاً بالشارب نفسه وبالأحذية اللامعة الشبيهة بتلك التي ينتعلها قادتهم. حتى أنها ذهبت إلى حد وصف تشنجاتهم اللاإرادية حين يتكلمون.كانت نوال السعداوي أماً مطلّقة لطفل صغير بعد نيل شهادتها من كلية الطب في القاهرة، فأطلقت مشروعاً جديداً يهدف إلى فتح مستوصف في قرية كفر طحلة المصرية التي نشأت فيها. فشعرت سريعاً بتعاطفها مع السكان هناك وأبدت تضامنها معهم وراحت تراقب عن كثب المسؤولين السياسيين الذين يحكمون المناطق الريفية: كانت أسماؤهم تتغير من وقتٍ لآخر، لكنّ سلوكهم واحد.

يؤكد هذا الوضع على صحة شعار قديم لداعمي مبدأ غياب السلطة والفوضى: "يمكننا أن نصوّت لمن نريده، لكنّ الدولة هي التي تفوز دوماً".كانت علاقتها المعقدة مع السلطات كفيلة بجعلها تدرك أن اللغة تعزز نفوذ أصحاب السلطة، لا عن طريق البيانات الديماغوجية أو خلال الاجتماعات المحتدمة التي تقتصر على الرجال دون سواهم، حيث يكرر الجميع الفكرة نفسها ويقاطعون أحاديث غيرهم، بل في مظاهر التمييز العادي على أساس الجنس وحجم النفاق الذي تنقله اللغة بحد ذاتها. تكتب السعداوي مثلاً: "اللغة العربية لا تناسبني، كما أنها لا تكلّمني بأي شكل"!

هي تشدد أيضاً على تهميش الكاتبات والصحافيات اللواتي يجدن صعوبة، في جميع أنحاء العالم، في استعمال لغة خاصة بهنّ ولو أنها لا تتماشى من أي ناحية مع الأفكار التي يرغبن في التعبير عنها: "هذه اللغة لا تناسبني، فهي تستعمل كلمات وعبارات منمّقة ولا مفر من أن تنكر وجودي".


ترفض السعداوي العبارات الجاهزة، على غرار "ابن الشارع" و"الرجل الحر"، وتقارنها بالكلمات المرادفة لها في صيغة المؤنث، لكنها تحمل شكلاً من التحقير هذه المرة. على صعيد آخر، تلاحظ الكاتبة أن الرجل الذي يتكلم عن الثورة يعبّر عن رأيه بكل بساطة، بينما تُتَّهم المرأة التي تتلفظ بالكلمات نفسها بالفجور. هذه الإهانات اللغوية ليست مجرّد تفاصيل تقنية، بل إن الرجال يستعملون اللغة لفرض قوانينهم على النساء.معظم القصص المؤثرة التي تسردها نوال السعداوي لا تتعلق بها شخصياً، بل بفتيات تزوّجن بالقوة قبل سن المراهقة من رجال بأعمار أجدادهنّ بقرار من عائلاتهنّ. في المستوصف الذي أسسته، سمعت كلاماً عن الفتاة مسعودة التي تزوجت في عمر الثانية عشرة، وهي تصاب بالإغماء والهلوسات التي تجعلها تشاهد الشياطين.

خضعت هذه الفتاة لجلسات طرد الأرواح الشريرة على يد نساء من المنطقة لتحريرها من هذه الرؤى. لكن بعد فشل طرد الأرواح، وضعت السعداوي مسعودة تحت جناحها وفهمت أن اضطراباتها تنجم عن الصدمات التي عايشتها: كان زوجها المُسنّ يغتصبها بساق كرسي. لكن كانت الشرطة تأتي لإرجاع الشابة إلى زوجها، أو بالأحرى مالكها، رغم كل ما يحصل ومن دون أن يعطوها الوقت الكافي للتعافي بالشكل المناسب.

هربت مسعودة مجدداً ثم وُجِدت غارقة في نهر النيل. حين شاهدت السعداوي جثتها الفَتِيّة والنحيلة، فكرت بأسطورة أوزيريس، إله النهر الذي لا يشبع، فكان المصريون يحاولون تهدئته عبر رمي الفتيات الشابات العــــذارى له في الماء.شكّلت هذه الأسطورة المصرية الثقيلة مصدر إلهام لنوال السعداوي التي تتماهى مع آلهة مختلفة على مستويات كثيرة وتعترف بمواهبها المتعددة وتقيم مقارنات مع مشاكلها الخاصة.

في لحظات معينة، دفعها إدراكها لمصيرها الاستثنائي إلى الانتقال من مشاعر فخر مشروعة إلى أحاسيس غير ودّية. رافقتها خلال هذه الفترة كلها ثلاث من أقرب صديقاتها، فشكّلْنَ بالنسبة إليها ما يشبه الجوقة القديمة والمسؤولة عن إبداء التعليقات حول مساوئ المجتمع الذكوري والتشدد. تحمل هذه العملية أثراً كوميدياً (تؤدي إحدى الصديقات دور شيوعية مضطربة ومتوترة، وتجسّد أخرى روحاً حرّة تنتظر الفرص المناسبة لاقتناصها). هؤلاء النساء هنّ رفيقات نوال السعداوي الحقيقيات.

تتكل الكاتبة عليهنّ للتعامل بحزم وقوة مع السلطات، لكنها لا تكشف لنـا الكثير عنهنّ.يصعب أن نؤكد على أن حب الذات هو الذي يدفع الكاتبة المصرية إلى التكتم عن بعض فصول حياتها، أو أنها تضيع بكل بساطة وسط كميات كبيرة من نصوص السيرة الذاتية التي نشرتها سابقاً. بغض النظر عن الجواب، يكفي أن نعرف حجم المصاعب التي تحمّلتها والشجاعة التي تحلّت بها لمواجهة كل من حاول ردعها أو ترهيبها أو إجبارها على الرضوخ. الأمر المؤكد الوحيد هو أنها ما كانت لتصمد بهذا الشكل لو لم تثق بنفسها وبقدراتها وتسمع حدسها لهذه الدرجة.

يتخذ مضمون الكتاب منحىً مثيراً للاهتمام تحديداً في الصفحات التي تتكلم فيها السعداوي عن إخفاقاتها وانفصالها عن أزواجها، لا سيما في الفصول التي حملت عناوين "الحب واليأس"، و"الهزيمة"، و"إحباط الثورة". من بين الكتّاب اليساريين المعروفين، دائماً ما تقدّم النساء أكثر النصوص صدقاً في حياتهنّ، ما يعني أنها الأكثر منفعة للآخرين، ومن دون إعطاء طابع بطولي ومثالي للشخصيات. بشكل عام، تستعمل المرأة أسلوباً شفافاً ومباشراً في كتاباتها لسرد قصة نضالاتها ضد مجتمعات تتفشى فيها مظاهر اللامساواة. هذا ما فعلته كريستينا ستيد وكريستا وولف مثلاً. لا تتردد نوال السعداوي من جهتها في الكشف عن تفاصيل حياتها وتعريض نفسها للخطر. صرّحت الكاتبة المصرية في مقابلة حديثة: "أنا أكتب ما أعيشه بكل بساطة". جاءت هذه التجربة لتؤكد على الفكرة التي تحملها معها منذ طفولتها: الكتابة قد تُعرّضها لخطر الموت!




لكنّ هذا الاحتمال لا يمنعها من المثابرة ومتابعة مسارها لأن هذا النشاط يمنحها شعوراً لا يُضاهى بالتحرر وشكلاً من التميّز والتفوق. لتجسيد هذه الفكرة، تستعمل السعداوي صورة الطائر (هذه المقارنة ليست مفاجئة لأن الكاتبات تحديداً يستعملن هذه الصورة في معظم الحالات). في بداية قصتها، يسمح لها رحيلها من مصر بـ"فتح جناحَيها" والتحليق عالياً نحو المنفى. تنتهي أحداث كتاب Walking Through Fire بعودتها إلى بلدها. في الطائرة التي تُقِلّها، تأكل السعداوي وتشرب بطريقة خارجة عن السيطرة وتغازل بلا خجل رجلاً وسيماً لا تعرفه لتجاوز خوفها من الموت و"خوفها من الطيران". هما يتكلمان عن السينما والسياسة والرقابة. يقول لها الرجل إنها تشبه صوفيا لورين، بينما تعتبره هي نسخة مطابقة من الممثل الأميركي غريغوري بيك. أخيراً، حين يسألها عن ما تفعله في الحياة وتكشف له نوال أنها كاتبة، يأتي جوابه ليؤكد على الشعور الذي خالجها طوال حياتها، فيقول: "هذا أمر مدهش. أنتِ امرأة حرّة إذاً"!


“Solidarity between women can be a powerful force of change, and can influence future development in ways favorable not only to women but also to men.” 

Nawal El Saadawi


MISS 3