فيرجينيا وولف... إمرأة التناقضات الصارخة

18 : 20

رجل أم امرأة؟ المادة أم الروح؟ المنطق أم الجنون؟ الحياة أم الموت؟ في عالم الأدب، مَن أفضل من الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف لتجسيد هذه التناقضات العنيفة؟ ظهرت هذه التناقضات في جسمها، فقد كانت ممشوقة القوام وثنائية الجنس وتمتعت بجمال غريب بعض الشيء، وحتى في شخصياتها، لا سيما "أورلاندو" الشهير، وفي مؤلفاتها التي تراوحت بين النثر والشعر (كانت تعتبر كتابة الشعر أسهل من النثر!).



لطالما كانت وولف مضطربة، منذ ولادتها في لندن في العام 1882، داخل عائلة كبيرة تتألف من ثمانية أفراد، ولطالما بدت غريبة ومختلفة عن الجميع.

كان المنزل الكبير في شارع "هايد بارك غيت" مسرحاً لنشاطات اجتماعية وفكرية هائلة (كان هنري جيمس وتوماس هاردي من الزوار الاعتياديين). لكن سادت هناك أيضاً انفعالات عاطفية أو حتى جنسية قوية، فتكررت ممارسات سفاح القربى بين إخوان وأخوات غير أشقاء. هذه الأحداث كلها زعزعت نفسية فيرجينيا التي تأثرت أيضاً بسلسلة من المآسي العائلية: في عمر الثالثة عشرة، توفيت والدتها العزيزة جداً عليها، ثم توفيت أختها غير الشقيقة ستيلا التي كانت بمثابة أمها، ثم توفى والدها الذي كانت تحبه وتخشاه في آن، وأخيراً توفى شقيقها توبي.

خرجت فيرجينيا التعيسة من "عقد الموت" هذا ومن سن المراهقة لتجد نفسها تتنقل من عيادة إلى أخرى، حيث عولج اضطرابها ثنائي القطب (لم يكن المرض يُعرَف بهذا الاسم حينها) عبر الراحة والحليب والاهتمام بالحديقة، فساعدتها هذه العوامل على كبح ميولها الانتحارية لفترة.لكن تترافق كل مأساة دوماً مع جوانب إيجابية.

ساعدتها فترات العزلة الطويلة على التأمل العميق تزامناً مع كتابة مذكراتها التي امتدت من العام 1915 حتى موتها. لم تساعدها الكتابة على فهم نفسها فحسب، بل إنها غاصت في أعماق ذاتها واستخرجت مواد أولية قيّمة لرواياتها اللاحقة. هكذا تحولت مذكراتها الخاصة إلى حجر أساس في حياتها، وأداة إنقاذية لاستكشاف الذات، ومستودع من المواد الأدبية، ومختبر تقني للكتابة.

كتبت فيرجينيا في العام 1922: "في عمر الأربعين، بدأتُ أفهم طريقة عمل دماغي وفهمتُ كيف أستطيع أن أشعر بأقصى درجات المتعة وأنتج أكبر كمّ من العمل". وخلال السنة نفسها، عادت وكتبت: "سأكتب كل ما أريده وسيظن الناس ما يريدونه. بدأتُ أدرك أن كل الاهتمام بي ككاتبة يتعلق بشخصيتي الغريبة، لا بقوتي وشغفي وأي ميزة بارزة أخرى لديّ". وفي العام 1924، هنّأت نفسها قائلة: "أظن أن كتابة مذكراتي انعكست إيجاباً على أسلوبي وجعلته أكثر تحرراً وسلاسة".

بفضل الكتابة، يبدو أن فيرجينيا وولف استفادت على جميع المستويات، فقد هدأت اضطراباتها النفسية ("أشعر بنوعٍ من الدوار في رأسي، لذا أكثّف الكتابة لاسترجاع توازني، لا لترك انطباعات معينة")، وتجددت سعادتها ومتعتها بدرجة كبيرة لأنها كانت تكتب حباً بالكتابة. وتتويجاً لهذه المنافع كلها، كسبت المال والإشادة أيضــاً في نهاية المطاف.لكنها تزعم أنها لا تحتاج إلى هذه العوامل الخارجية، فتقول: "أنا لا أحتاج إلى الإشادة من أحد. حتى لو لم أجد أي ثناء، أشعر بالسعادة لمجرّد أنني أتابع الكتابة.

الكتابة هي المتعة الحقيقية... أما رواج مؤلفاتنا بين القراء فمجرّد متعة سطحية". كانت فيرجينيا مقتنعة بأن الإشادة الوحيدة التي تهمّها تشتق منها شخصياً: "أنا على الأقل أحب أن أقرأ ما أكتبه. أشعر بأن هذه الموهبة تناسبني أكثر من أي وقت مضى". ربما كانت لامبالاتها بالنجاح سطحية في مراحل معينة، لكن كان قلقها من الفشل يخسر أهميته سريعاً.

بفضل رواياتها العشر ومقالاتها المتعددة، والأهم هو كتابها العاصف A Writer's Diary (يوميات كاتبة) الذي نُشِر بعد وفاتها لكنه خضع أولاً للرقابة والتنقيح، اعتُبرت فيرجينيا وولف عملاقة الكتابة الإنكليزية بين الحربَين، وعرّابة الحداثة الأدبية البريطانية، وواحدة من أفضل الكاتبات باللغة الإنكليزية من حيث الأسلوب، وأداةً لتسويق المسار السردي الخاص بتيار الوعي، إلى جانب جيمس جويس. حتى أنها اعتُبرت باحثة نظرية بارزة في مجال الكتابة، فحصدت لقب "كاتبة الكتّاب".

كانت أهميتها تكمن فعلياً في كونها امرأة نجحت في تحطيم الحواجز التي فرضها الرجال في عالم الأدب. قبل الكاتبة الفرنسية سيمون دوبوفوار، تطرقت فيرجينيا وولف بأسلوب قوي لموضوع الازدواجية اللغوية في الأدب، فكشفت عن آلياته في العام 1928 في بحث شهير بعنوان A Room of One's Own (الغرفة الخاصة).

كي تتمكن أي امرأة من كتابة الروايات، "يجب أن تملك بعض المال وغرفة خاصة بها" برأي فيرجينيا. إنها أبسط شروط ممكنة، لكن نادراً ما تتأمن للكاتبات.

هي تستعمل جاين أوستن كمثال لإثبات رأيها: كانت أوستن تكتفي بالكتابة مرة واحدة يومياً بعد إنهاء أعمالها المنزلية، وتكتب على زاوية طاولة كي لا تزعج الآخرين. ولم تكن تتناول إلا مواضيع الحب والنساء لأنها مسائل تثير اهتمام الرجال بقوة على ما يبدو، بما يفوق اهتمام النساء بالرجال!

عملياً، لا تقتصر حاجات أي كاتبة على المال والسكينة، بل إنها تحتاج في المقام الأول إلى حد أدنى من التعليم، ثم يجب أن تجد لها جهات داعمة و"مكانة" مهمة في أوساطها كما تقول وولف. لو كان لشكسبير شقيقة موهوبة ومغامِرة بقدره، ما هي أنواع المؤلفات الأدبية التي كانت لِتَطّلع عليها؟ في البداية، ما كانت هذه الفتاة لتحصل على فرصة الذهاب إلى المدارس مثل شقيقها، بل كانت لتُكلَّف بكل بساطة بأعمال منزلية قبل أن تتزوج على وجه السرعة من رجل أحمق.

وحتى لو نجحت الآنسة شكسبير الافتراضية في تدبير شؤونها، تتساءل وولف: كيف كانت لتتمكن من النجاح في لندن من دون علاقات عامة ونصائح الخبراء ومن دون بناء شبــكة داعمة لها؟كانت تلك الفتاة لتواجه عدداً كبيراً من العوائق التي نجحت فيرجينيا الذكية والحازمة في تجاوزها.

هي لم تتلقَ إلا تعليمات متواضعة عن إدارة شؤون المنزل، لذا عمدت وحدها إلى تدريب نفسها وتعلّم لغات كلاسيكية. صحيح أنها كانت تعجز عن الدراسة في جامعة "كامبريدج"، لكنها عادت وحققت هذا الهدف بتفويضٍ من أشقائها. حتى أنها تقرّبت من طبقة المفكرين البريطانيين، وهم المثقفون الذين عادوا وشكّلوا لاحقاً "مجموعة بلومزبري" المرموقة والمؤثرة، وسرعان ما أصبحت فيرجينيا من أهم أعضائها.



كان أخوها غير الشقيق جيرالد داكوورث الذي اغتصبها في سن المراهقة هو من فتح لها مجال الكتابة لاحقاً، فنشر أول رواية لها بعنوان Melymbrosia، لكن تغيّر اسمها لاحقاً وأصبح The Voyage Out (السفر إلى الخارج).

حتى زواجها بالرجل الممتاز ليونارد وولف تحوّل إلى ميزة مهنية في نهاية المطاف. قدّم لها ليونارد الهدوء الذي تحتاج إليه إلى جانب الحرية، ودعمها بكامل قوته عن طريق دار نشر "هوغارث برس" التي أسسها معها في صالون منزلهما في العام 1917. وبفضل دار النشر هذه، تمكنت فيرجينيا من نشر أعمالها بنفسها تزامناً مع كسب "بعض المال".

لكنّ الكتابة التي شكّلت مصدراً لسعادتها لم تكن خالية من السموم أيضاً. بعد صدور كل رواية تقريباً، كانت وولف تمر بفترة اكتئاب تقودها أحياناً إلى حافة الانتحار.

لكنها كانت تتوق دوماً إلى المزيد من المواد والملاحظات، فشرّحت ظاهرة الموت بالتفصيل، استناداً إلى علم الظواهر ومن دون مراعاة الجوانب الدينية لأنها كانت ملحدة لأقصى الدرجات. سرعان ما تقبّلت هذا الموت المألوف بالنسبة إليها تدريجاً، على غرار ميشال دو مونتان الذي سبقها في التحليلات الذاتية، علماً أنه ذهب إلى حد التكلم عن "الموت السعيد". لكن لم تكن فيرجينيا تتمنى هذا النوع السلس من الموت.

فكتبت في العام 1931: "نعم، أظن أنني سأكتب بعض الكتب الاستثنائية بين عمر الخمسين والستين، إذا كنت لا أزال حية حينها. بعبارة أخرى، أظن أنني أوشك على تجسيد الأشكال التي تسكن دماغي بأعلى درجات الدقة. يا له من مسار شاق للتوصل إلى هذه النتيجة"! في آخر صفحة من مذكراتها، في 8 آذار 1941، تعبّر وولف عن حماستها تجاه الحياة فتكتب: "إنه أول يوم من فصل الربيع"!

لكن بعد عشرين يوماً طويلاً من الصمت، اتخذت كتاباتها الأخيرة الموجّهة إلى ليونارد في 28 آذار منحىً مختلفاً جداً: "أنا متأكدة من أنني سأصاب بالجنون مجدداً. أشعر بأننا لن نتمكن من تحمّل هذا الشكل من الفترات المريعة، وأظن أنني لن أنهض من محنتي هذه المرة. بدأتُ أسمع الأصوات في عقلي. لم أعد أجيد حصر تركيزي. لذا سأقوم بما يجب فعله". ثم ارتدت معطفها القديم الواقي من المطر ووضعت في جيوبه حجارة كبيرة وغاصت في نهر "أوسي" الجاري أمام منزلها وتركت المياه تغمرها للمرة الأخيرة...

MISS 3