نجم الهاشم

أحرق أوراقه ولم يحرق تاريخه

50 عاماً على غياب فؤاد شهاب

21 نيسان 2023

02 : 00

فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر في لقاء الخيمة
لم يقرأ فؤاد شهاب في سجلّ تاريخ حياته أنّ يوم 25 نيسان 1973 سيكون يومه الأخير. ولكنّه أيضاً لم يعش وكأنّ عمره سيطول كثيراً. الرجل الذي أتى من عائلة متواضعة وتبوّأ قيادة الجيش ثم رئاسة الجمهورية، وأسّس لنهج في الحكم يقوم على المؤسسات، أيقن قبل أيام من وفاته أنّ الوطن الذي عاش من أجله سيحترق، ودخل في حالة تشاؤم واكتئاب وعزلة وانطواء. أحرق أوراقه ولكنّه لم يستطع أن يحرق حضوره في سجلّات التاريخ.





منذ ترك منصبه في رئاسة الجمهورية في 22 أيلول 1964، انطوى فؤاد شهاب على نفسه بعدما استشعر الخطر الذي يهدّد لبنان. لم يكن حالماً، ولا مغامراً، ولا مجازفاً، بل تصرّف بواقعية الرجل صاحب الرؤية عندما عزف عن السلطة وهو كان قادراً على البقاء فيها، وقرّر أنّ مهمته انتهت، وهو لن يستطيع أن يقوم بأي دور لإنقاذ البلد الذي رأى أنه يسير نهو الإنهيار والتفكك. حصل ذلك في مرحلة كان يقوم فيها بمحاولة لبناء دولة تقوم على المؤسسات الرسمية الحديثة. ولكنّ الأحداث كانت تذهب في الإتجاه المعاكس. كانت كل مقومات الحكم متوفرة له لكي يجدّد عهده الرئاسي الثاني، وكان كل المحيطين به يتمسّكون ببقائه. ولكنّه من موقعه اختار الإنكفاء مقتنعاً أنّه سيفشل، وأنّ عليه أن يتجنب هذه التجربة.



الرئيس الياس سركيس



إختصر أشلاء تاريخ لبنان

لم يخطّط فؤاد شهاب ليصبح رئيساً للجمهورية. ولم يسعَ لذلك ولم تكُن الرئاسة هدفه. الفتى الذي وُلِد عام 1902 كان يختصر أشلاء من تاريخ لبنان والطوائف التي تكوِّن شعوبه. يتحدّر من سلالة الأمراء الشهابيين الذين حكموا لبنان، فقد والده صغيراً وتربّى في كنف أخواله من آل حبيش في كسروان، اضطرّ إلى ترك المدرسة والعمل في عمر 14 عاماً ليعيل أسرته. لاحت له بارقة أمل عند دخول القوات الفرنسية إلى لبنان بعد الحرب العالمية الأولى فالتحق بالجيش الفرنسي وتخرج ضابطاً في كلية حمص الحربية عام 1923 ليبدأ منذ ذلك التاريخ مساراً جديداً في حياته. شخصيته انطبعت بالعقيدة العسكرية: انضباط، واستقامة، ومؤسسات، وقانون، والتزام لا حدود له. وهذا ما أهّله ليتسلّم في أول آب 1945، راية الجيش اللبناني كقائد له بعد الاستقلال بعامين وقبل أشهر قليلة من جلاء آخر الجيوش الفرنسية عن لبنان، وليضعه هذا المنصب في قلب الأحداث، ويلقي عليه أعباء، ربّما لم يكن يريدها.

برز فؤاد شهاب كشخصية عسكرية أمسكت بقرار الجيش الذي كانت قدراته متواضعة، ولكنه كان القوة الأبرز والرمز للسيادة الوطنية. هذا الموقع أهّله ليتولى سلطة القرار العسكري. رفض تدخل الجيش لمصلحة الرئيس بشارة الخوري ولدعم بقائه في السلطة عام 1952 وهذا الحياد جعله رئيساً للحكومة الانتقالية التي أمنت انتخاب كميل شمعون رئيساً للجمهورية.

لم تجمعه الكيمياء مع شمعون صاحب الشعبية الواسعة. ورفض أن يتدخل الجيش في أحداث عام 1958 لقمع «الثورة» التي طالبت بإسقاطه، ولذلك كان اسمه الوحيد الذي برز بالاتفاق بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر ورئيس الولايات المتحدة الأميركية ليكون الرئيس الجديد للجمهورية. ذهب ممثل المخابرات الأميركية في لبنان مايلز كوبلاند إلى القاهرة والتقى عبد الناصر وتوصّل معه إلى التفاهم الذي سرعان ما تمّ تطبيقه. انتشرت قوات «المارينز» في لبنان في 15 تموز 1958 وانتُخب شهاب رئيساً للجمهورية في 31 منه ليبدأ معه مسار الخروج من الفوضى إلى السلام على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.



شهاب وشارل حلو



الرئيس الزاهد

لم يُقِم شهاب في القصر الجمهوري الموقت في القنطاري الذي أقام فيه كل من الرئيسين بشارة الخوري وكميل شمعون. انتقل إلى قصر موقت آخر في زوق مكايل ليكون قريباً من منزله في جونيه. أعطى الموقع الرئاسي هيبة ومهابة وكانت الرئاسة بالنسبة إليه واجباً وطنياً لا موقعاً يمكن استغلاله من أجل بناء زعامة. لذلك بنى شهاب حوله «نهجاً» من شخصيات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية كان يعتبر أنه من خلالها يستطيع أن يضع أسس حكم سليم لدولة يمكن أن تعيش وتتخطّى العقبات الطائفية والمذهبية.

دولة تقوم على الإدارة والمؤسسات والكفاءة والتوازن. ولكن هذه الدولة كانت تحتاج إلى استقرار لم يجد أن الجيش وحده يمكن أن يؤمّنه بل التفاهم مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان نفوذه يتصاعد في العالم العربي. وكان شهاب بحكم موقعه في الجيش يعرف عن كثب وعن تجربة مدى التدخّل المصري في الأحداث اللبنانية من خلال الحدود المشتركة مع سوريا. وصل شهاب إلى الحكم وكان عبد الناصر قد بنى الوحدة مع سوريا في شباط 1958 وكان يعرف أنّ افتعال المشاكل في لبنان يأتي عن طريق دمشق، ولذلك اختار أن يُقفل الحدود من خلال التفاهم مع عبد الناصر.

في 8 شباط 1959، انعقد بينهما اللقاء الشهير في خيمة نصبت على الحدود بين لبنان وسوريا التابعة لدولة الوحدة مع مصر، نصفها في لبنان ونصفها الآخر في سوريا، وهناك تم التفاهم على التنسيق في الحكم بين الحُكمَين. أُطلِقت يد شهاب في الداخل اللبناني وأعطى شهاب عبد الناصر دعماً في السياسة الخارجية. من هناك بدأ عهد الشهابية صعوده وهبوطه، واستفاد من هذا الدعم أحياناً ودفع ثمنه أحياناً أخرى.

شهد عهد فؤاد شهاب أول محاولة انقلاب عسكري حقيقي في لبنان في آخر أيام العام 1961 نفّذها الحزب السوري القومي الإجتماعي مع عدد من الضباط وانتهت بالفشل. تلك المحاولة اعتُبِرت ردّاً على تفاهم شهاب وعبد الناصر وأتت بعد سقوط الوحدة المصرية السورية في أيلول 1961. فشل المحاولة قوّى سلطة المخابرات في عهد شهاب وتحوّل «المكتب الثاني» إلى قوة رديفة في الحكم بقيت تنهل من بحر شهاب طوال عهده ثم طوال عهد خلفه شارل حلو. ولكن هذه القبضة الأمنية لم تنه دورة الإصلاح التي اعتمدها شهاب خطة لحكمه.

الخطوة الأساسية في المجال السياسي كانت في قانون الإنتخابات الذي أقره في العام 1960 وجعل فيه عدد النواب 99 مقسّمين على دوائر بقياس الأقضية. هذا القانون استمرّ حيّاً حتى العام 1992 مؤمّناً استقراراً سياسياً ودورة طبيعية في الحياة السياسية والإنتخابية. بعد انتخابات العام 1960 اعتبر شهاب أنّه أدّى واجباته الوطنية وحاول الخروج من الحكم عبر الإستقالة من رئاسة الجمهورية. ولكنّه تحت ضغط المحيطين به، والمعارضين له، اختار العزوف عن العزوف ليستكمل بناء مؤسسات الدولة وتشكيل طواقمه السياسية والأمنية.



فؤاد شهاب الرئيس



النهج والفرص الضائعة

استطاع النهج الذي اعتمده شهاب أن يكوّن أكثرية نيابية موالية له في انتخابات 1964 التي حصلت فيها تدخّلات أدّت إلى إسقاط أشدّ خصومه، كميل شمعون وريمون إدّه. ومع ذلك لم يقبل بالتمديد ولا بالتجديد، وكان أن اختار خلفه شارل حلو. في تلك المرحلة وفي عزّ قوة الدولة التي بناها شهاب اختار الخروج من السلطة معتبراً أنّه قام بما يستطيع أن يقوم به، وأنّه أعجز من أن يحقّق المعجزات وإنقاذ لبنان من المخاطر التي تتهدّد كيانه. وجد أنّ الأزمات والمشاكل الداخلية أقوى منه وأصعب من أن يحلّها، وأنّ دوره يجب أن ينتهي. وكان همّه أن يؤمّن استمرار السلطة كما أرادها اتقاء لخطر العودة إلى المشاكل الداخلية بعد سلسلة التطورات التي كان يشهدها العالم العربي. ولكن رجال شهاب في ولاية شارل حلو لم يستطيعوا أن يقاوموا التغيير الذي حصل في العام 1968 وكان بمثابة انقلاب سياسي مكمّل للإنقلاب العسكري الذي فشل في العام 1961.

على رغم أنه خرج إلى بيته راضياً عمّا حقّقه، وعلى رغم أنّ أركان عهده ظلّوا يعتبرون أنّه رئيس الظل، إلا أنّه لم يستسغ هذا الدور ولم يحاول أن يحكم من وراء الستار. كان يكتفي بالتوجيه والإرشاد ولكنّه لم يكن يستطيع أن يمنع التحوّلات خصوصاً بعد الهزيمة الكبرى التي لحقت بحليفه جمال عبد الناصر في حرب 1967. كان أدرك أن صفحته طويت ولذلك لم يقبل الدعوات الكثيرة بالعودة إلى رئاسة الجمهورية، حتى تلك التي أتته من عبد الناصر وكان بإمكانه أن يفوز لو ترشّح. مرة جديدة اختار أن يكون الياس سركيس مرشّحه، ولكن الرئاسة كانت من نصيب سليمان فرنجية واجهة «الحلف الثلاثي» الذي ضمّ غريميه اللدودين كميل شمعون وريمون إده وصديقه الذي اعتمد عليه خلال عهد الشيخ بيار الجميل. كان شهاب قد استشفّ أنّ خطر الإنفجار الداخلي اقترب وأنّه لن يستطيع منع اندلاع النار، لا إذا كان رئيساً سابقاً في بيته، ولا إذا كان رئيساً في القصر. عاد إلى سكونه وعزلته. كانت تصله أخبار الإنتهاكات الفلسطينية العابرة للحدود اللبنانية المدعومة من النظام السوري الذي سقطت معه خيمة التفاهم بينه وبين عبد الناصر، وأدرك أن العالم تغيّر كثيراً بعد اتفاق القاهرة في 3 تشرين الثاني 1969، وبعد وفاة عبد الناصر في أيلول 1970.



فؤاد شهاب والهوية اللبنانية



الصامت الأكبر

عزّ عليه كثيراً أن يعمد العهد الجديد مع فرنجية إلى ملاحقة رجالات عهده وأركانه ومحاكمتهم وإبعادهم. كان على تواصل معهم وحاول حمايتهم، ولكنّه لم يستطع حتى منع بعضهم من اللجوء إلى سوريا. كان نصح هؤلاء بالخضوع للمحاكمة في وطنهم ولكنّهم لم يسمعوا منه. هذا الجو زاد من حدة تشاؤمه وانطوائه حتى قرر إحراق كل أرشيفه وأوراقه.

في 25 نيسان 1973 انطوى فؤاد شهاب على ذاته وخانه قلبه ولم يترك إلا سيرته وفضائله. بعده بقيت «الشهابية» التي حاولت العودة مع الرئيس الياس سركيس، ولكنّ الزمن كان تغيّر، والحريق الكبير كان قد انتشر. عاماً بعد عام تساقط أركان الشهابية الواحد تلو الآخر ولم يبق منها إلا الشعار الذي يطابق معنى أن تكون هناك دولة وأن تكون هناك إرادة صناعة حكم راشد يحقّق التوازن والإستقرار والإنماء. وأن يكون هناك رئيس لا يريد لنفسه شيئاً، يعتبر أنّه في خدمة الدولة ولا يجعل الدولة في خدمته.

رحل «الصامت الأكبر» وبقيت سيرته. أحرق أوراقه ورفض أن يكتب مذكراته وأن يرويها لأحد، حتى لا يقال عنه إنّه يريد أن يدافع عن نفسه. بعد غيابه أنصفه التاريخ أكثر من مرة حتى صار قدوة في زهده وتقشفه وحياته الشخصية وفي ممارسته السلطة والقيادة والرئاسة.


MISS 3