حسان الزين

المصري كتب الشعر ونصوصاً سينمائية ومسرحية واللبناني ركّز على السياسة

صلاح جاهين وبيار صادق يلتقيــان في الكاريكاتير ويفترقان خارجه

21 نيسان 2023

02 : 01

صلاح جاهين وشادية
صلاح جاهين وبيار صادق التقيا في رسم الكاريكاتير وافترقا في أمور كثيرة. حتّى الكاريكاتير، رسمه كلٌّ منهما على طريقته ومن منطلقاته ولأهدافه الخاصّة. جاهين كان عروبيّاً، وصادق كان لبنانياً فحسب. الأول كان رومنسياً، والثاني واقعيّاً. الأول كان رمزه "قائد مصر والأمة"، جمال عبد الناصر، والثاني كان رمزه بشير الجميل ورفيق الحريري. الأول كان إيجابياً مع السلطة في بلاده، والثاني كان سلبياً ونقدياً وساخراً مع معظم سياسيي بلده. الأول رسم البكباشي رجلاً وسيماً مقداماً يجسّد روح الشعب، والثاني رسمه بملامح بشعة. الأول رسم الكاريكاتير الاجتماعي والسياسي وكتب الشعر ونصوصاً سينمائية ومسرحية...، والثاني ركّز على السياسة. الأول كان نجم الحياة الثقافية والجماهير والنكتة الشعبية والشاشات، بينما الثاني كان مقلاً في الظهور متوارياً خلف توقيعه على الورق والشاشة. نتذكرهما في ذكرى رحيلهما: جاهين في 21 نيسان 1986، وصادق في 24 نيسان 2013.



نجم فنون الثورة الناصرية

قبل صلاح جاهين كان الكاريكاتير في مصر "مهضوماً" لكن مهذّباً وتحت سقف التقاليد، وكان اجتماعيّاً نادراً ما يقارب السياسة. وإذا ما فعل ذلك يكون تحت سقف القانون وسلطة الرقابة.

ومع جاهين (مواليد القاهرة 1930) تحوّل الكاريكاتير في مصر إلى ثورة. ليس ذلك بسبب "ثورة" الضباط في تموز 1952 فحسب، إنما بسبب شخصية جاهين متعدّد المواهب. لقد كان رساماً وشاعراً بالعاميّة المصرية وكاتباً للسينما والمسرح وممثلاً وناشطاً ثقافياً. ودفع بترسانته الفنية والأدبية والشخصية هذه لترجمة "الثورة" السياسية والأيديولوجية بما يؤثّر على الشعب ويصوغ وعيه الاجتماعي والقومي.

قبل الثورة هذه، كان جاهين فتى يعاند أسرته المحافظة. والده كان قاضياً يحرص على تنشئته تربوياً حتى يسير على خطاه، ووالدته خافت عليه من ميوله الفنية: التمثيل والرسم. ويروي أن أمه، تحت تأثير التخيّلات الشعبية وقلقها، صاغت دراما عنه إذا ما سلك طريق الفن. كأن يغدو، مثل الفنانين، بلا شهادة وبلا أسرة ومنزل، يُطرد من الوظائف، ويمضى أيّامه بين النساء وفي الحانات والشوارع. وقد استنتج والداه أن الرسم يعطّله عن الدراسة، فمنعاه منه. وباتا، لا سيما أمه، يراقبانه ويرصدان كل شاردة وواردة من تحرّكاته. وقد قابل ذلك بالرسم خلسة وإخفاء الرسوم. وبدلاً من أن يُنهَى عن الفن فُتح أمامه باب الأدب، إذ راح "يكتب الشعر في دماغه" من دون أن يخطّه على الورق فيمسك متلبِّساً.

مع التحوّلات السياسية والثقافية والاجتماعية بعد 1952، اهتزّت السلطة الأبوية في العائلة المصرية وتحرّر الشباب منها نوعاً ما. وسط هذا، قال جاهين لوالده: "سيأتي يوم تعرّف نفسك، وأنت المستشار، بي أنا!".

والثورة نفسها التي دفعت جاهين وكثيرين من أبناء جيله إلى الشوارع واللقاءات السياسية، أوصلته إلى الصحافة. لم يدخلها "من فوق"، كما يقول، بل مع العمّال في المطبعة. كان يُخرِجُ الصفحاتِ ويوضّبها. ولأنّه "كسول" كان يتأخر في إنجاز عمله. ما يضطره إلى تنفيذ الرسوم المرافقة على عجل. ولتعويض ذلك وأي نقص كان يحرص على أن تكون مضحكة وبسيطة وبأقل قدر من الخطوط. وهو ما كان يخالف طريقته الأولى في الرسم، إذ كان يحشد اللوحات بالتفاصيل والأشخاص والديكورات وما إلى ذلك.

مرشد وملهم

بدأ ذلك يولّد لدى زملائه الصحافيين انطباعاً بأنه رسّام كاريكاتير. وهو لا يدري بذلك ومشغول بالأدب والقصائد والسينما والمسرح، والسياسة والثورة بطبيعة الحال. وقد فوجئ بنصيحة زميل له بأن يقصد مجلة "روز اليوسف" الشهيرة ليشغل وظيفة رسام الكاريكاتير الشاغرة. قال له الزميل: "خطوطك فيها خفّة وعندك حسّ فكاهة". ورد هو: "إزاي أعرض أن أعمل في ما لا أعرفه؟!". وبقي حيث يعمل، ينقلب على الكسل في الساعات الأخيرة قبل الطباعة، إلى أن قابل الصحافي أحمد بهاء الدين، مدير تحرير "روز اليوسف"، فسمع مديحاً لموهبته الكاريكاتورية وتلقّى عرض عمل (1955). وهذا ما حصل. وفتح جاهين صفحة جديدة في حياته وفي الصحافة والثقافة المصريتين.

لم يهدأ جاهين أو يسكن لوظيفة. ولم يهمل الشاعرَ أو السينمائيَّ أو المسرحيَّ الذي فيه. ترك الأمور تسير كما يشاء القدر. كتب الشعر العامي. ألف سيناريوات وحوارات للسينما. كتب مسرحيّات. مثّل في أفلام. رسم الكاريكاتير في "الأهرام" برئاسة تحرير محمد حسنين هيكل. وكان مرشداً وملهماً لكتيبة من رسامي الكاريكاتير في مجلة "صباح الخير" (ابتداء من 1966).

قال عنه الأديب يحيى حقّي إنه يستحيل معرفة إذا ما كان هذا الشخص أو ذاك فناناً من هيئته وجسده، لكن صلاح جاهين تعرفه فناناً وسط الحشود في الشارع.

وكتب زميله في رسم الكاريكاتير، بهجت: "صلاح فنان عبقري متعدّد المواهب غزير الإبداع، ولكنّه أيضاً كان بشخصيّته الساحرة وروحه المرحة عملاً فنيّاً متكاملاً يمشي على قدمين".

صناعة ثقافة شعبية

هذه الموهبة المتعدّدة صبّت في قناة عبد الناصر ونهره، وتوقفت عند سدّه العالي. اندمجت منذ اللحظة الأولى، وحتّى الأخير، في مشروعه وأيديولوجيّته وصناعة صورته، رسماً وشعراً وغناءً وأفلاماً ومسرحيّات ونشاطاً. والحقيقة أن جاهين لم يكتفِ بذلك. لقد أخذ على عاتقه، ومن معه، صناعة ثقافة شعبية تواكب التغيرات في المجتمع والاقتصاد والسياسة. ويظهر ذلك واضحاً في كل ما أنتجه آنذاك.

في الكاريكاتير، لجاهين بصمة خاصّة لم تتجاوزها الأجيال اللاحقة من الرسامين. لقد قدّم آلاف الأعمال التي ما زال يُنشر منها حتى الآن في المطبوعات. وليس هذا سبب ثبات جاهين في تراث الكاريكاتير أو بروز الكاريكاتير في أبعاد الصورة المتعددة لجاهين، بل لخفة ظله وقدرته على التعبير الدرامي المدهش ولحسه النقدي اللاذع للأحوال الاجتماعية. إضافة إلى ارتباطه بالحكم - الثورة وحبّه لعبد الناصر، وقد جعلهما رسالته ومحرّك ريشته وقلمه.

وكان جاهين غزيراً في الكاريكاتير، وقادراً دائماً على المفاجأة والإضحاك حتّى عندما يوقّع 34 رسماً في عدد واحد من المطبوعة الأسبوعية. وتابعه جمهور واسع في سلاسله الاجتماعية النقدية الساخرة المشاكسة والتحررية، التي تتناول قصص الحب والمشاكل الحياتية والتفاصيل اليومية، ومنها: قيس وليلى، عنتر وعبلة، قهوة النشاط، دواوين الحكومة، صباح الخير أيها...، نادي العراة، وغيرها. وقد أدخل الفرشاة السميكة إلى عدّته ومحترفه، واستعملها برشاقة أضفت على خطوطه نعومة. ومن أشهر رسامي جيله حجازي وبهجت وبهجوري ورجائي وأنيس.

جاهين في كل مكان


وفي الشعر سار جاهين على نهج بيرم التونسي وكرّس العامية المصرية التي يفهمها الشعب وتعبّر عنه ببساطة بلا أقنعة وتزيين وزخرفة. نشر في 1955 ديوانه الأول "كلمة سلام"، ثم "موّال عشان القنال" في 1956، احتفاءً بتأميم السويس بقيادة الزعيم المنحاز إلى الشعب والعمال والفلاحين والمقاوم للمستعمر الأجنبي. ولا يمكن نسيان "الرباعيّات" التي أصدرها في 1963، وفيها كل غضبه وثورته ونزعاته الشعرية وميوله التحديثية، كما في المجتمع والثقافة والسياسة كذلك في القصيدة والإنسان. وهناك أيضاً "قصاقيص ورق"، "أوراق سبتمبرية" و"القمر والطين".

وفي الغناء تابع طريق سيّد درويش، وأحدث ثورة مع سيد مكاوي وأم كلثوم (أغنية ثوار) وعبد الحليم حافظ (أغاني إحنا الشعب، صورة، ناصر يا حرية، يا أهلا بالمعارك، بالأحضان، بستان الاشتراكية والمسؤولية)، ونجاة الصغيرة (بان عليّ الحب)، وفايزة أحمد (لما قلبي قال لي لأ)، وصباح (أنا هنا يابن الحلال)، وسعاد حسني وعلي الحجّار (الرباعيات).

وفي المسرح، كانت أوبريت "الليلة الكبيرة" (1960) حدثاً أسهم في إطلاق زمن جديد في فن الدمى (العرائس) وتحريكها وصناعتها والفنانين المتحمّسين له. وقدّم أعمالاً عدة للمسرحي الألماني بريخت على خشبة القاهرة. وامتد نشاطه المسرحي إلى عالم الأطفال. ففي سياق التوجهات التربوية للحكم الذي عيّنه مسؤولاً عن ثقافة الطفل في وزارة الثقافة عام 1962، كتب للنشء الجديد: "الفيل النونو الغلباوي" و"صحصح لما ينجح" و"حمار شهاب الدين".

إضافة إلى أدواره في الإنتاج الفني في التلفزيون، كتب للشاشة الصغيرة "بوجي وطمطم" ومسلسل "هو وهي" الذي جمع سعاد حسني وأحمد زكي. وفي السنوات الأخيرة من عمره، عمل لنقل فكرة مسلسله الإذاعي الرمضاني "فوازير" إلى التلفزيون، وكان بدأه في العام 1964 وقدّمته آمال فهمي.

أما في السينما فيحضر بشكل أقوى في مرحلة ما بعد الناصرية، من خلال أفلام وصفها البعض بالتجارية، منها: "خللي بالك من زوزو" (1972)، "عودة الابن الضال" (1976)، "شيلني وأشيلك" (1977)، "شفيقة ومتولّي" (1978) و"المتوحشة" (1979). وقد تجاوز تأثيره الأعمال التي حملت توقيعه، فكان ذا حضور ونفوذ في كواليس الصناعة السينمائية، ورعا مواهب، منها سعاد حسني وأحمد زكي، وقدّمها ودفعها وفتح لها الأبواب إلى أعمال كثيرة وهادفة تتقاطع مع رؤيته. إضافة إلى مشاركته ممثلاً في عدد من الأفلام.

إنكسار

بعد هذا، ليس غريباً أن ينكسر جاهين بفعل هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل في حرب حزيران 1967، التي أعلن "صديقه" عبد الناصر تحمّله مسؤوليّتها. ويُنقل أنه دخل في اكتئاب اكتملت دورته مع رحيل عبد الناصر (1970). بعد ذلك، وفي الوقت الذي لم يُطعَن بموهبته في المجالات الفنية كلها التي عمل بها، انتُقد بوصفه واحداً من أبرز مصممي دعاية النظام الناصري ومنفّذيها. علماً أن كثيرين راحوا يقولون إنه انتقد عبد الناصر مرات عدة، لكن بشكل غير مباشر. وفي المقابل، لم يوضح هو موقفه بهذا الشأن.

ويروي الكاتب محمد البغدادي في كتابه "سداسية صلاح جاهين الكاريكاتورية" أن الكاريكاتير تحول إلى ما يشبه الوظيفة الرسمية لجاهين، الذي صرح في 1982 أنه لا يحب الكاريكاتير ولكنه مصدر رزقه. ويفسّر البغدادي هذا التصريح بأنه قبول جاهين في الكاريكاتير ما لم يقبله في الشعر والأغاني، فعندما تغيرت قناعاته اختار أن يكتب أغاني المرح مثل "زوزو" و"الربيع"و"بمبي"، أو حتى أغنية يرثي فيها الحلم الضائع "في مفترق الطرق"، ولكنه لم يكتب أغاني في مديح الرئيس أنور السادات، الذي مدحه في رسومه.




صلاح جاهين


انكسر جاهين بعد هزيمة 1967



ريشة الموقف السياسي


قبل بيار صادق (مواليد زحلة 1938) كان الكاريكاتير في لبنان موجوداً، موالياً تارة ومعارضاً طوراً. ومع صادق صار الكاريكاتير موقفاً للرسام وللجريدة ثم للتلفزيون. فصادق توأم الكاريكاتير مع العمل الصحافي اليومي، ولا سيما مع المانشيت والحدث البارز في لبنان والمنطقة والعالم. وكثيراً ما تحوّل كاريكاتيره من مواكب للحدث إلى صانع الحدث والحدث نفسه.



حصل ذلك، مثلاً، حين أُحيل صادق مرّات عدة إلى المحاكمة، وحين رسم صادق الأهرام تبكي في وداع الرئيس المصري جمال عبد الناصر (1970). وقد تلقّفت وكالات أنباء دولية الرسم فأرسلته إلى وسائل الإعلام حول العالم. وحصل ذلك، وهذا مثال ثالث من كثير، حين خُصص لكاريكاتير صادق أعلى الصفحة الأخيرة من الصحيفة. وإذ بات الكاريكاتير الموقّع باسم صادق وريشته المانشيت المرسومة، صارت الجريدة تُقرأ من آخرها. ولم يغدو الكاريكاتير نجماً، ولم ينل ذاك المكان وتلك المكانة إلا بـ"شطارة" صادق. فصادق، صاحب الموقف السياسي والموهبة والريشة المطوّعتين لذلك، حوّل الكاريكاتير سيفاً في وجه السياسيين. وقد خاض معارك سياسية كثيرة.


الرسم تحت السرير

روى صادق كيف كانت والدته تعارض أن يهتم بالرسم على حساب دراسته. إلا أنه كان يختبئ تحت السرير مع أوراقه وأقلامه الملوّنة، على رغم تأكّده أنه سينال نصيبه من العقاب. لكنّه أصرّ على الرسم إلى أن انتسب إلى الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا). وهناك سمع مراراً وتكراراً من أستاذيه صليبا الدويهي وأليكسي بطرس، أنه يتميّز عن الطلاب الآخرين، وأن لديه ضربة ريشة ونهجاً خاصّين. لكن الأستاذين لم يكتشفا ميله إلى الكاريكاتير، حتى أبدى والده أمامه ملاحظة تشير إلى ذلك. وإذ اقتنع صادق بذلك، حمل بعد أيام رسوماً كاريكاتورية إلى الأكاديمية مفاجئاً أستاذيه اللذين اعتبرا أنه وجد طريقه.

إثر ذلك، وقبل أن يتخرّج بدأ ينشر رسومه في الصحف اللبنانية. وقد تكوّن وعيه السياسي مع أحداث كبرى في لبنان. من الاستقلال عام 1943 إلى انقلاب الحزب "السوري القومي" وإعدام زعيمه أنطون سعاده في 1949. ومن الثورة البيضاء ضد عهد الرئيس بشارة الخوري وشقيقه السلطان سليم الذي استغل السلطة لمصلحة قلة من المنتفعين والعائلات (1952)، إلى حرب 1958.

خلال هذه الفترة، كانت الصحف اللبنانية تزيد اهتمامها بالكاريكاتير وتوسّع مساحته. وقد خصصت مجلة "الصياد"، في 1943، غلاف عددها الأول لرسم كاريكاتوري من توقيع خليل، يظهر رئيس الحكومة اللبنانية رياض الصلح ورئيس مجلس الوزراء السوري سعد الله الجابري. وحمل ذاك الكاريكاتير إشارة استباقية إلى انضمام "الصياد" إلى معارضي رئيس الجمهورية. فقد نشرت غير مرة رسوماً كاريكاتورية، ومقالات وملفات، تدين "السلطان سليم" وعائلته وشركاءه. وقد أوصلت هذه المعركة مؤسس "الصياد" سعيد فريحة إلى السجن. لكن ذلك لم يمنع مطبوعات المؤسسة عموماً من اعتماد الكاريكاتير.

ومسيرة الكاريكاتير في الصحافة اللبنانية قديمة من عمر لبنان الكبير في 1920. ومذ ذاك يتجرّأ الكاريكاتير على نقد السياسيين، ولا سيما مَن هم في رأس السلطة. وصفحات جريدة "الدبور" برئاسة يوسف مكرزل، منذ انطلاقتها في 1923، تحتشد بالرسوم النقدية من توقيع عزت خورشيد وديران عجميان وخليل الأشقر ومصطفى فروخ. وفي 1925، فتحت جريدة "المعرض" برئاسة ميشال زكور معركة مع الحاكم الفرنسي ليون كايلا. وانتقدت الجريدة، عبر رسوم الكاريكاتير ومقالات، الموقف "العدائي للحاكم الفرنسي تجاه الشعب اللبناني وإهماله مسألة الأمن على الحدود وتدخلاته في الانتخابات النيابية". وفي 1926، انضمت جريدة "الأحرار" لمؤسسها جبران تويني إلى نادي الكاريكاتير، وأطلقت ملحق "الأحرار المصورة" الأسبوعي، الذي خصص مساحة واسعة وبارزة للرسم الكاريكاتوري. ولم يتردد الملحق في انتقاد سياسات الدولة المنتدبة وتأجيجها الطائفية وتكريسها وتسبّبها بالفساد وتدهور الأوضاع الاجتماعية.




حوّل صادق الكاريكاتير من مواكبة الحدث إلى صناعته (فيسبوك)

بيار صادق وتوما



معارض وموالٍ ومؤيد لبشير

وقد تنقّل صادق بين عدد من المطبوعات، منها "الصيّاد" التي كانت تحرص على عدم إغضاب النظام المصري وسفيره في بيروت. لكن، مع تكرار الرسام المشاكس تصوير الزعيم المصري بملامح الرجل البشع، استغنت "الصيّاد" عن خدماته. ومذ ذاك بدأت رحلته الطويلة مع "النهار". وهناك، بتنسيق يومي مع هيئة التحرير وكاتب المقال الأشهر في تاريخ الجريدة ميشال أبو جودة، انتقلت المساحة المخصصة لصادق من الصفحة الثانية إلى أعلى الصفحة الأخيرة. وتأكدت مرجعيّتها السياسية، وكذلك مضمونها شبه الوحيد. وتمددت مشاركة صادق إلى مطبوعات أخرى تصدرها الدار، من كتب وملاحق وملفات. وأصدر كتابه الأول "كاريكاتير صادق" (1964). ونظم معرضه الأول (1969).

وكما جريدة "النهار" كذلك صادق، بعدما عارض الرئيس شارل حلو على مدى سنوات عهده (1964 - 1970)، تراجع انتقاده للرئيس سليمان فرنجية (1970 - 1976). وقد مُنح في 1972 وسام الأرز الوطني من رتبة فارس. وإذا ما كان ذلك يُفسّر سياسيّاً، فإن حصوله على جائزة سعيد عقل، في السنة نفسها، قد يكون أكثر حياداً. لكن الحالين تشيران إلى تنامي حضور صادق والكاريكاتير وتأثيرهما. ويدعم ذلك تجرّؤ الرسام على دعوة القرّاء إلى الضحك على السياسيين، من خلال كتاب من الحجم الكبير جداً (عرض 34 سم وطول 55 سم) يحمل عنوان "اضحك مع بيار صادق على السياسيين" (1972). وتنظيم معرض له في الكويت في السنة نفسها.

ومع التوترات السياسية والأمنية التي سبقت الحرب (1975)، اقترب صادق من الجبهة اللبنانية في مواجهة الحركة الوطنية والمنظمات الفلسطينية. وإذ اندلع الاقتتال وثُبتت المتاريس وبات الانتقال بين منطقتي الشرقية والغربية محفوفاً بالمخاطر، إضطر إلى الانتقال إلى جريدة "العمل" الكتائبية، على رغم اختياره عنوان "كلّنا عالوطن" لكتابه الثالث (1977). وفي حين تقطّعت أوصال الوطن، استضافت جدة في المملكة السعودية معرضاً لصادق (1977).

وخلال الحرب، تمتّنت علاقة صادق ببشير الجميّل. وترجم ذلك بتخصيصه بكتابه الرابع، "بشير"، عقب اغتياله في 14 أيلول 1982 بعد انتخابه رئيساً للجمهورية في 23 آب من العام نفسه. وبعد سنتين نظّم صادق معرضاً في العاصمة الأميركية. ثم في 1986، غادر الصحيفة الكتائبية إلى المؤسسة اللبنانية للإرسال التي أطلقتها القوات اللبنانية. وكان ذلك نتيجة طبيعية لمعارضة صادق عهد أمين الجميّل.

الصفحة الأولى والأخيرة

هناك، في «المؤسسة اللبنانية للإرسال»، افتتح صادق صفحة جديدة في مسيرته الفنية، وصفحة جديدة في تاريخ الكاريكاتير والتلفزيون في لبنان. بدأ تحريك رسومه التي باتت ملوّنة للمرّة الأولى. وقد وضعته التجربة أمام تحدّيات فنّية اجتهد لتجاوزها بتقنيّات محدودة في البداية. وإذ حملت إطلالته على الشاشة عنوان «الصفحة الأخيرة مع بيار صادق»، حافظ على تقاليد الصنعة التي طوّرها في الصحف. بقي يلاحق أخبار اليوم وأحداثه وتصريحات السياسيين ليصوغ منها موقفاً. وبقي الكاريكاتير بالنسبة إليه موقفاً أكثر مما هو فن. فصادق كان قد أنجز، منذ سنوات وخلال عمله في الصحف، أسلوبه ومفرداته البصرية التي بات يعرفها المشاهدون. ولا يتردد في تكرارها. وقد أضاف إليها، على الشاشة، الموسيقى المرافقة وشخصية توما، التي يمكن اعتبارها فلاحاً أو صادق نفسه. وفيما اعتاد المشاهدون على هذه الهوية البصرية والموسيقية، احتفظ صادق لنفسه بعنصر المفاجأة الفنية بين حين وآخر. فأولوية صادق بقيت الموقف السياسي مع عدة فنيّة جاهزة لا يهاب تكرارها، بل باتت مرتبطة به وتدل عليه. وقد منحه رئيس الجمهورية الياس الهراوي، الذي لم ينجُ من كاريكاتيره، وسام الأرز الوطني برتبة ضابط (1997). واختاره نادي دبي للصحافة لجائزته في 2000.

انتهت رحلة صادق مع «المؤسسة اللبنانية للإرسال» في 2002، حين انتقل إلى شاشة «المستقبل». وكان ذلك موقفاً سياسياً مع الرئيس رفيق الحريري. ولم تختلف الإطلالة على الشاشة الزرقاء كثيراً عن سابقاتها من الناحية التقنية والمفردات الفنية، وكذلك سياسيّاً، إذ إن ميل صادق إلى الحريري كان موجوداً من سنوات، والضوابط السياسية على شاشة «المستقبل» تقريباً هي نفسها على «المؤسسة اللبنانية للإرسال»، في ظل الوجود السوري. لكن الأمر اختلف مع اغتيال الحريري، في 14 شباط 2005. مع هذا الحدث جاهر صادق بموقف الرافض للوجود السوري، وتحررت ريشته لدى رسم حلفاء دمشق ورموز «حزب الله» و»التيار الوطني الحر». وقد عرف استثمار ألوان الخصوم في مشهد تكرر حتى انسحابه الأخير في 2012، سنة تقليده وسام الأرز برتبة كوندور في عهد ميشال سليمان. وأجمل ما في هذه المسيرة أن شريكة حياته حفظت أعماله كلّها، بما في ذلك ما لم يُنشر، منذ أحبها وأحبّته واقترنا شابين.


MISS 3