خليل كارفيلي

المعارضة التركية لن تفوز من دون الطبقة العاملة

26 نيسان 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

مرشح حزب الشعب الجمهوري التركي كمال كليجدار أوغلو خلال تجمّع حاشد في كاناكالي | تركيا، في 11 نيسان ٢٠٢٣

يملك كمال كليجدار أوغلو، زعيم "حزب الشعب الجمهوري"، أبرز طرف معارِض في تركيا، فرصة واقعية لهزم الرئيس رجب طيب أردوغان خلال الانتخابات الرئاسية المرتقبة في 14 أيار. كان تجاوب أردوغان البطيء مع الزلزال المدمّر الذي ضرب البلد في شهر شباط الماضي كفيلاً بإضعاف شعبيته.



نجح كليجدار أوغلو حتى الآن في تشكيل تحالف من العلمانيين، والمحافظين الإسلاميين، والقوميين الأتراك، كما أنه حظي بدعم "حزب الشعوب الديمقراطي" الموالي للأكراد. إنه إنجاز فريد من نوعه، وهو يؤكد على حجم الاستياء من أردوغان في مجموعة واسعة ومتنوعة من الدوائر الانتخابية التي تفتقر إلى قواسم مشتركة كثيرة.

لكن يواجه كليجدار أوغلو مشاكل كبرى في خضم مساعيه للتوفيق بين المصالح المتضاربة ومطالب القوى المتباينة التي تدعمه.

ستتحدد نتيجة الانتخابات الرئاسية في تركيا استناداً إلى ثلاث فئات أساسية: القوميون الأتراك، والأكراد، والطبقة العاملة. تتداخل هذه الفئة الأخيرة مع أول مجموعتَين جزئياً. بشكل عام، تشكّل هذه الطبقة 70% من القوى العاملة. تاريخياً، كانت الطبقة العاملة في تركيا تدعم الأحزاب المحافِظة، ولم يكن "حزب العدالة والتنمية" بقيادة أردوغان استثناءً على القاعدة لأن الطبقة العاملة ترتكز على القيم المحافِظة المشتقة من الأرياف، وقد كسب معسكر اليمين تأييد هؤلاء الناخبين عبر دعم ثقافتهم الدينية.

لا يزال كليجدار أوغلو متفوقاً في الاستطلاعات حتى الآن، لكنه لن يحافظ على هذا التفوق ضد أردوغان خلال الجولة الثانية من الانتخابات لأنه ليس متأكداً إلا من دعم واحدة من تلك الفئات الثلاث: الأكراد.

يواجه كليجدار أوغلو عقبتَين يجب أن يتجاوزهما لتحقيق الفوز: مسألة القومية، والفكرة القائلة إن أردوغان يستطيع حل المشاكل وتلبية حاجات المحرومين اجتماعياً. في الحالة الأولى، يجب أن ينجح كليجدار أوغلو في إقامة التوازن المناسب بين القومية التركية والكردية، فيعرض الحرية على الأكراد من دون أن يوحي بأنه يُهدد الوحدة الوطنية، وهو هدف شبه مستحيل. وفي الحالة الثانية، يُفترض أن ينقل رسالة تَعِد بإحداث تغيير اجتماعي يفيد الطبقة العاملة.

كذلك، يجب أن يستهدف كليجدار أوغلو الرأسمالية النيوليبرالية. رسمياً، يُعتبر "حزب الشعب الجمهوري" حزباً ديمقراطياً اجتماعياً لكنه غيّر تركيبته الطبقية، على غرار عدد كبير من الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، وأصبح حزباً حصرياً للطبقة الوسطى والطبقة الوسطى العليا، وتبنّى مواقف يمينية في المسائل الاقتصادية. يشبه هذا التوجه التحولات الحاصلة في الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية البريطانية والفرنسية والاسكندينافية. لكنّ ابتعاد "حزب الشعب الجمهوري" عن الطبقة العاملة ينجم عن الشرخ الثقافي الذي يفصل قاعدة الطبقة الوسطى العلمانية عن الطبقة العاملة المحافِظة والمتديّنة.

لتحقيق الفوز، يجب أن يُذَكّر كليجدار أوغلو الناخبين من الطبقة العاملة بأن حزب أردوغان خدم مصالح رجال الأعمال، فساعدهم مثلاً على تخفيض أجور العمال تزامناً مع الحد من النشاطات النقابية. وفق الإحصاءات الرسمية، ينتسب حوالى 14% من العمال إلى النقابة، ما يعكس تراجعاً هائلاً عن النسبة المسجلة عند وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة (58%). لكن يبقى الرقم الحقيقي أقل من هذا المستوى على الأرجح (حوالى 10%) عند أخذ العمالة غير الرسمية بالاعتبار، وغالباً ما يُمنَع تنظيم الإضرابات.

نتيجةً لذلك، توسعت مظاهر اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية بدرجة كبيرة خلال عهد أردوغان. وفق "تقرير اللامساواة العالمي" للعام 2022، الصادر عن "مختبر اللامساواة العالمية" في باريس، يكسب أغنى 10% من سكان تركيا مداخيل تفوق عائدات أفقر 50% من الشعب بـ23 مرة.

يكشف ذلك التقرير أيضاً أن ثروة تركيا الوطنية زادت بنسبة تفوق الضعف في آخر 25 سنة، ومع ذلك توسعت مظاهر اللامساواة خلال عهد "حزب العدالة والتنمية" على مر عقدَين من الزمن، إذ يحصل أفقر 50% من الشعب على 4% فقط من الثروة الوطنية، ويتلقى 40% من الطبقة الوسطى 29% منها، بينما يستحوذ أغنى 10% من الشعب على 67% من الثروة الوطنية. مع ذلك، لا يزال حزب أردوغان يحتفظ بولاء الطبقات الدنيا عبر منح المنتمين إليها مساكن رخيصة وخدمات الرعاية الصحية الأساسية وعبر استغلال تحفّظهم الديني.

تقرّب كليجدار أوغلو من المحافظين المتديّنين وطمأنهم حول عدم معاداة "حزب الشعب الجمهوري" المعروف تاريخياً بطابعه العلماني للإسلام، لكنه لم يتخذ أي خطوات أخرى لمصالحة حزبه مع الطبقة العاملة.

أعلن كليجدار أوغلو أن "الرأسمالية المتوحشة" والنيوليبرالية نشرتا الفوضى في الكوكب كله، وقال إنه سيتعاون مع الناشطين والسياسيين حول العالم (مثل السيناتور الأميركي بيرني ساندرز) لتوزيع الثروات والمداخيل بطريقة أكثر عدلاً. لكن لضمان تماسك تحالفه اليميني الذي تطغى عليه المعارضة، امتنع كليجدار أوغلو عن تأييد إعادة توزيع الدخل واستعادة حقوق العمال. خلال الانتخابات المقبلة التي تحولت إلى خيار حاسم بين نسختَين من معسكر اليمين نفسه لأسباب متنوعة، سيجد كليجدار أوغلو صعوبة في إقناع الناخبين، وعلى رأسهم الطبقة العاملة، بأن قيادته ستُحدِث فرقاً حقيقياً.

رغم الإجماع الواسع وسط المعارضة، من المحافظين الإسلاميين إلى الاشتراكيين والشيوعيين، حول أهمية إنقاذ تركيا من أردوغان، يجب أن يدرك الجميع في الوقت نفسه أن هذا الإجماع وحده لن يكون كافياً لهزم الاستبداد. يتعلق أبرز نقص في أداء كليجدار أوغلو بعدم استعداده للاعتراف بهذا الواقع ومواجهة الإرث السياسي الشائب للحُكم اليميني الذي أوصل تركيا إلى نسخة معينة من الاستبداد في آخر قرن من الزمن.

يبدو أن كليجدار أوغلو يقترح ضمناً تقديم نسخة أخرى من "حزب العدالة والتنمية" الذي كان في الأصل عبارة عن تحالف بين محافظين وأكراد يؤيدون السوق الحر، بما يشبه التحالف المعارِض الذي يقوده كليجدار أوغلو راهناً. لكن مهّد هذا الحزب أيضاً لنشوء الاستبداد الذي بناه أردوغان، ويعطي الاقتراح القائل إن الديمقراطية يمكن استرجاعها عبر التحالف مع ملازمين سابقين في فريق أردوغان نتائج عكسية.

يُعتبر سعد الله أرغين خير مثال على ما يمكن أن يحصل في هذه الحالة. كان أرغين وزير العدل السابق من "حزب العدالة والتنمية"، وقد اختير ليرأس القائمة البرلمانية "لحزب الشعب الجمهوري" في منطقة "تشانكايا" في أنقرة خلال الانتخابات البرلمانية التي تتزامن مع الانتخابات الرئاسية. عندما كان أرغين وزير العدل، أشرف على الاعتقالات الجماعية بحــــق المعارضين، منهم ضباط عسكريون، وسياسيون، وصحفيون، ومفكرون، فاتُّهِم هؤلاء ظلماً بالتآمـر لتنفيذ انقلاب ضد حكومة "حزب العدالة والتنمية". يظن عدد من مناصري "حزب الشعب الجمهوري" المستائين أن أرغين يجب أن يُحاكَم بدل انتخابه لتمثيل الحزب في البرلمان.

قد يحرم كليجدار أوغلو نفسه من دعم أغلبية الطبقة العاملة بسبب خضوعه لمعسكر اليمين، لكنّ هذا التوجه قد يبعده أيضاً عن عدد من أشرس مناصري "حزب الشعب الجمهوري"، بخاصة التقدميين والقوميين من الطبقة الوسطى.

على غرار القوميين الأتراك اليمينيين الذين يشعرون بالقلق من شعبية كليجدار أوغلو وسط الأكراد، قد يفضّل جزء من ناخبي "حزب الشعب الجمهوري" اختيار محرم إينجه، المرشّح الثالث في الانتخابات الرئاسية. كان إينجه المرشح الرئاسي لـ"حزب الشعب الجمهوري" في العام 2018، لكنه غادر الحزب منذ ذلك الحين وكسب تأييد بعض الناخبين القوميين الأتراك بفضل دعواته المتكررة إلى التصدي لـ"حزب العمال الكردستاني"، فحصد 7.2% من الأصوات في استطلاعات 12 نيسان. تكشف هذه الاستطلاعات أيضاً أن ناخبيه سينقسمون بالتساوي بين أردوغان وكليجدار أوغلو خلال الجولة الثانية.

تنذر مقاربة كليجدار أوغلو بهزيمة انتخابية وشيكة لأنه مقتنع بأن الفوز بالرئاسة يفرض عليه أن يتمسك بمعسكر اليمين وألا يتحدى أسس النظام الاجتماعي والاقتصادي القائم في تركيا، ولأنه فشل في تبديد الشكوك المتزايدة وسط الناخبين القوميين الأتراك حول نزعته إلى التشكيك بركائز النظام القومي.

يُفترض أن يقتدي كليجدار أوغلو إذاً بسلفه بولنت أجاويد، الشعبوي التقدمي الذي قاد "حزب الشعب الجمهوري" بين العامين 1972 و1980، وهو اليساري الوحيد الذي حَكَم تركيا حتى الآن. من خلال الانفتاح على المحافظين المتدينين، أعاد كليجدار أوغلو إحياء التقليد الذي طرحه أجاويد حين حاول خلال التسعينات مصالحة اليساريين والعلمانيين مع المحافظين المتدينين.

لكن يفتقر كليجدار أوغلو إلى قوة الإرادة التي تمتع بها أجاويد لتغيير النظام الاقتصادي والزخم القومي الذي رافقه. هذا هو الخليط الذي أعطى نتائج إيجابية عندما أوصل أجاويد "حزب الشعب الجمهوري"، في العام 1977 (غداة قراره بغزو قبرص في العام 1974 رداً على محاولة اليونان ضم الجزيرة إليها)، إلى أفضل نتيجة انتخابية حتى الآن، فحصد 41.4% من الأصوات.

يثبت تاريخ تركيا أن الديمقراطية ستبقى بعيدة المنال طالما لا يظهر بديل يساري عن النزعة المحافِظة التي أدت في معظم الحالات إلى ظهور شكلٍ من الشعبوية الاستبدادية. في المقابل، يكشف سجل الانتخابات أن الهيمنة اليمينية على هذه الاستحقاقات لن تنكسر إلا عندما يجمع اليسار بين الدعوة إلى العدالة الاجتماعية وإحداث تغيرات منهجية من جهة، واحترام تديّن الشعب والقومية التركية من جهة أخرى.

لا يستطيع كمال كليجدار أوغلو أن يتحمّل تداعيات ألا يعرض على الطبقة العاملة خيار التغيير الاجتماعي، ولا يمكنه أن يزيد الشكوك حول تساهله مع الانفصاليين الأكراد.


MISS 3